الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله..
وبعد:
فقد اطلعت على حوار دار بين بعض أهل العلم يتعلق بقصيدة الدكتور العشماوي الأخيرة في (البحر) بمناسبة العثور على طفل سوري وجد ميتا على شاطئ البحر، فأود التنبيه على عدة نقاط، سائلا الله التوفيق للإخلاص في القول والعمل.
أولا: خطاب الجمادات له ثلاث صور:
الأولى: خطابها بما يتضمن الخبر عنها أو عن غيرها، كأن يقال للبحر: (ما أوسعك بلغت الآفاق؟!)، ويقال للقمر: (أضأت في كل مكان)، فهذا لا بأس به، ومنه قول النبي -صل الله عليه وسلم- للهلال: ((ربي وربك الله))، وقول عمر للحجر الأسود: (والله إني لأعلم أنك حجر).
الثانية: مخاطبتها بطلب فعل ما خلق الله فيها من الأفعال التي خلقها الله فيها، كأن يقال للسحابة: (أمطري)، وللشجرة : (أثمري)، فهذ ليس من صور الإستغاثة بها وإن جرى مجرى الطلب، بل هو مطالبة بما خلق الله فيها من الأفعال والسنن الكونية القائمة بها، ولا يقصد التوجه إليها بالطلب، ومنه قول الشافعي: (أمطري لؤلؤاً جبال سرنـديب،،، وفيضي آبار تكرور تبـرا)، وقول هارون الرشيد للسحابة: (اذهبي حيث شئت فسوف يأتيني خراجك).
الثالثة: مخاطبتها بما ليس هو مما خلق فيها من الأفعال ولا قدرة لها عليه، كأن يخاطب الرجل جبلا أو شجرا أوبحرا أو نهرا بالرحمة أو النصر أو الإعانة على عدو؛ فهو شرك أكبر، قال الشيخ ابن عثيمين في الفتاوى (٢/ ١٦٠): (أن تدعو مخلوقًا مطلقًا -سواء كان حيًا أو ميتًا- فيما لا يقدر عليه إلا الله؛ فهذا شرك أكبر). فهذا هو حد الدعاء الشركي للمخلوقات، وهو دعاء المخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله، وتقريره مشهور في كلام العلماء.
ثانيا: ما جاء في القصيدة من التوجه للبحر بمطالب -في كثير منها- هو من هذا النوع، كقول الشاعر: (وارحمْ أخاه وأمّاً تشتكي وأبا)، وقوله: (رفقاً بهم أيُّها البحر العميقُ)، وقوله: (أتوك يا بحرُ والأهوالُ عاصفةٌ،،، فارفقْ بهم إنهم قد أصبحوا غُرَبا)، وقوله: (استأمنوك فلا تقطعْ بهم سببا).
وهذا توجه للبحر ألا يغرق الطفل، ويرحم أباه وأمه الشاكية، وأن يرفق بهم، وألاّ يقطع بهم سببا.
ثم يدعو البحر للرفق بهم حتى يأتي النصر من الله، فجعل الملجأ عند تأخر النصر للبحر، وذلك في قوله: (يا بحرُ رفقاً بهم حتى يكون لهم،،، نصرٌ من الله يمحو الهمَّ والتعبا).
ومعلوم أن التوجه للبحر بهذه النداءات مما لا يملكه البحر بل هو مخلوق مسخر لا يسمع ولا يعقل، وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف: ٥].
وقد كان المشركون يعلمون أن البحر لا يملك ضرا ولا نفعا، ولذا إذا ركبوه أخلصوا الدعاء لله لما استقر في نفوسهم من عدم نفعه، يقول الله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ } [العنكبوت: ٦٥].
ثالثا: الشعر كلام يؤاخذ الناس بما تكلموا به منه، ولا يباح لشاعر أن يقول الباطل بدعوى أن ما يقوله ضرورة شعرية، وإنما الضرورة الشعرية في الأوزان وبعض المعاني اللغوية، ولا مدخل لذلك في الدين خاصة مسائل الاعتقاد وبوجه أخص باب التوحيد.
والشعر داخل في عموم قوله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: ١٨].
وأهله مخاطبون بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا } [الأحزاب: ٧٠].
ولهذا ذم الله الشعراء الخائضين في الباطل وأتباعهم واستثنى المؤمنين منهم، قال تعالى : {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } [الشعراء: ٢٢٤- ٢٢٧].
رابعا: الحكم المطلق بالحكم على قول أو فعل أو اعتقاد أنه كفر أو شرك لا مدخل لقصد الفاعل في تقريره، والقصد وغيره من شروط وموانع إنما تكون مؤثرة في الحكم على المعين، فلا ينزل عليه الحكم المطلق إلا بشروط وضوابط، والدكتور العشماوي الظن به أنه لا يريد الإستغاثة الشركية بالبحر، وإنما هذا من صنيع عباد القبور والمتأثرين بهم، وهذا مقام الإعتذار عن الشاعر لا التهوين من الخطأ البين من كلامه، فلنا موقف من القول وموقف من القائل، والله أمر بالعدل في الحكم بالشرع وتجنب الظلم للناس.
هذا والله أعلم وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.
كتبه: إبراهيم بن عامر الرحيلي