لما كان أمر الولاية العامة وحقوقها من الأصول العظيمة التي اشتمل عليها الكتاب والسنة، لعظم شأنها وخطر التفريط فيها، ولما يترتب على الاستهانة بها، والافتيات عليها، أو التحريض على الخروج عليها من الشرور والفتن وانتهاك الحرمات، وغير ذلك مما يترتب عليه من فساد أمر الدين والدنيا والآخرة ما لا يمكن حصره؛ كثرت الوصية بشأنها من السلف الصالح من الأمة.

وذلك لأن معظم الفتن الواقعة في الأمة التي أزهقت بسببها أرواح معصومة، وانتهكت بها حرمات محترمة، وكان بها هلاك الحرث والنسل، وشيوع الفساد إنما كان بأسبابٍ، من أهمها:
التعدي على مقام الولاية العامة، والاستهانة بحقوقها، وتحريض الغوغاء عليها، وترك النصيحة لها، والافتيات عليها، واستنقاص الولاة، والتهوين من أقدار الولاة، واتخاذ فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - على وفق الهوى- ذريعةً للخروج عليهم وتفريق الأمة، كما هو منهج أهل الأهواء من الخوارج، والمعتزلة، والرافضة وغيرهم من طوائف الضَّلال.

ولذلك اعتنى أئمة الهدى من الصحابة ومن بعدهم بأمر الولاية العامة، تعريفًا بها، وبيانًا لشأنها، وتأكيدًا على حقوق أهلها، وما يجب على الأمة نحوها، وفصَّلوا القول في تلك الأمور تفصيلًا كافيًا شافيًا، بيانًا لهدي الكتاب والسنة، ونصيحةً للأئمة والأمة، وبراءةً للذمة، وأكدوا على ذلك حتى عدَّه أهل السنة والجماعة أصلًا من أصول اعتقادهم التي تميزوا بها عن أهل الأهواء، ونصُّوا على ذلك في كتب العقائد، وبيَّنوا الحق في هذا الأمر، وردُّوا على أهل الأهواء بالدليل القاطع والبرهان الساطع من الكتاب والسنة، وما أُثِر عن السلف الصالح من الأمة؛ وأنا أذكر لك من ذلك جُمَلًا مهمة أخذًا بهذا المِنْهَاج، وهدايةً لمريد الحق إلى الطريق السالم من الاعوجاج.

سبب عناية السلف بأمر الإمامة

ينبغي أن تعلم - ويعلم كل مسلم - أن أئمة أهل السنة والجماعة إنما عنوا بفقه الولاية العامة وحقوقها - لعظم شأنه من الأمانة، وكبير خطره وجليّ أثره وعلوِّ منزلته من الديانة، وما كلف الله تعالى بشأنه من النصيحة، وما ورد بخصوصه من نصوص القرآن والسنة، وكلام السلف الصالح من الأمة - عناية مجردة من قيود الزمان والمكان والأشخاص.

وإنما مرادهم رحمهم الله تعالى بها حفظ منصب الولاية وتحقيق مقصودها الشرعي، لتأكيد النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك بقوله: «اسمعوا وأطيعوا، وإنْ استعمل عليكم عبدٌ حبشيٌّ كأنَّ رأسهُ زَبِيبَةٌ» أخرجه البخاري برقم (7142)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه
وهذا أشد ما يكون على صناديد قريش وغيرهم من رؤوس العرب - أي: السمع والطاعة لمن هذا وصفُه -.
ولذا كان تقرير أمر الإمامة العامة وحقوقها وما يجب عليها ولها منهاجًا شاملًا صالحًا للتطبيق في أي زمان ومكان وشخصٍ، مجرّدًا عن الهوى والعصبية وحظوظ الدنيا ومُتَعِها، الأمر الذي حفظ له بقاءه، وصار على مرِّ الزمان نبراسًا يضيء الطريق للذين ينشدون طريق المُنْعِمِ عليهم بالعلم النافع والعمل الصالح، رجاءَ أن يكونوا من الطائفة المنصورة الناجية حتى يأتيهم الموت وهم على ذلك غيرَ مُبدّلين ولا مُغيّرين، وتميز به أهل السنة والجماعة عن غيرهم من الطوائف المنتسبة إلى الملة والتي ضلت في هذا الباب، فجانبت فيه الحق والصواب