- رابعًا: أن يراعيَ المقاصد الشرعية من المصالح والمفاسد المترتِّبة على الهجر، مع الأخذ بعين الاعتبار تحقيقَ أكمل المصلحتين ودرءَ أعظم المفسدتين، وذلك بمراعاة قواعد الترجيح حالَ التعارض بين المصالح والمفاسد، سواءٌ في الأمكنة التي ظهرت فيها البدعة كثرةً وقلَّةً، وحال الهاجر والمهجور، قوَّةً وضعفًا، فالمكان الذي انتشرت فيه البدعة تكون القوَّة والغلبة فيه لأهل البدع، فلا يرتدع المبتدع بالهجر، ولا يحصل المقصود الشرعيُّ للهجر، بل يُخشى زيادة الشرِّ وتفاقُمُه، فلا يُشرع -حينئذٍ- الهجرُ لرجحانية المفسدة على مصلحة الهجر، وكان التأليف أنْفَعَ وأليق بمقاصد الشريعة(٢٢)، بخلاف ما إذا كانت القوَّة والظهور لأهل السنَّة، فيُشرع هجر المبتدع لتحقُّق الغرض المقصود من الهجر.
وفي مسلك التأليف بتحصيل مصلحة الواجب مع مفسدةٍ مرجوحةٍ يقرِّر ابن تيمية -رحمه الله- بما نصُّه: «فالهجران قد يكون مقصودُه ترْكَ سيِّئة البدعة التي هي ظلمٌ وذنبٌ وإثمٌ وفسادٌ، وقد يكون مقصوده فِعْلَ حسنة الجهاد والنهي عن المنكر وعقوبة الظالمين لينْزَجروا ويرتدعوا، وليقوى الإيمان والعمل الصالح عند أهله، فإنَّ عقوبة الظالم تمنع النفوس عن ظلمه وتحضُّها على فعلٍ ضدِّ ظلمه: من الإيمان والسنَّة ونحو ذلك.
فإذا لم يكن في هجرانه انزجارُ أحدٍ ولا انتهاءُ أحدٍ، بل بطلان كثيرٍ من الحسنات المأمور بها لم تكن هجرةً مأمورًا بها، كما ذكره أحمد عن أهل خراسان إذ ذاك: أنهم لم يكونوا يقوَوْن بالجهمية، فإذا عجزوا عن إظهار العداوة لهم سقط الأمر بفعل هذه الحسنة، وكان مداراتهم فيه دَفْعُ الضرر عن المؤمن الضعيف، ولعلَّه أن يكون فيه تأليفُ الفاجر القويِّ، وكذلك لَمَّا كثر القدر في أهل البصرة، فلو تُرك روايةُ الحديث عنهم لاندرس العلم والسنن والآثار المحفوظة فيهم. فإذا تعذَّر إقامة الواجبات من العلم والجهاد وغير ذلك إلاَّ بمن فيه بدعةٌ مَضرَّتُها دون مضرَّة تركِ ذلك الواجب؛ كان تحصيل مصلحة الواجب مع مفسدةٍ مرجوحةٍ معه خيرًا من العكس، ولهذا كان الكلام في هذه المسائل فيه تفصيلٌ»(٢٣).
وقال -رحمه الله- في موضعٍ آخَرَ مبيِّنًا حُكْمَ الهجر باختلاف حال الهاجرين: «...وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوَّتهم وضعفهم وقلَّتهم وكثرتهم، فإنَّ المقصود به زجرُ المهجور وتأديبه ورجوع العامَّة عن مثل حاله، فإن كانت المصلحة في ذلك راجحةً بحيث يُفضي هجرُه إلى ضعف الشرِّ وخِفْيَتِه كان مشروعًا، وإن كان لا المهجور ولا غيرُه يرتدع بذلك، بل يزيد الشرُّ، والهاجر ضعيفٌ بحيث يكون مفسدةُ ذلك راجحةً على مصلحته لم يُشرع الهجر، بل يكون التأليف لبعض الناس أنْفَعَ من الهجر، والهجرُ لبعض الناس أنفع من التأليف، ولهذا كان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يتألَّف قومًا ويهجر آخَرين»(٢٤).
هذا، والجدير بالتنبيه أنَّ مسألة هجر المبتدع تندرج تحت أصلٍ كبيرٍ وهو «الولاء والبراء» يعادى المبتدع ويُبْغَض بحسب ما معه من البدعة إذا كانت بدعتُه غيرَ مكفِّرةٍ، ويوالى ويُحَبُّ على حسب ما معه من الإيمان والتقوى، ولا يجوز أن يعادى من كلِّ وجهٍ كالكافر، بل يكون محبوبًا من وجهٍ ومبغوضًا من وجهٍ، وضمن هذا المنظور يقول ابن تيمية -رحمه الله-: «...وإذا اجتمع في الرجل الواحد خيرٌ وشرٌّ، وفجورٌ وطاعةٌ ومعصيةٌ، وسنَّةٌ وبدعةٌ؛ استحقَّ من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحقَّ من المعاداة والعقاب بحَسَب ما فيه من الشرِّ، فيجتمع في الشخص الواحد موجِبات الإكرام والإهانة، فيجتمع له من هذا وهذا، كاللصِّ الفقير تُقْطَع يده لسرقته ويُعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته، هذا هو الأصل الذي اتَّفق عليه أهل السنَّة والجماعة، وخالفهم الخوارجُ والمعتزلة ومن وافقهم عليه، فلم يجعلوا الناسَ لا مستحقًّا للثواب فقط ولا مستحقًّا للعقاب فقط»(٢٥)، فكان -والحال هذه- الحبُّ والبغض بحسب ظهور آثار المحبَّة والبغض على الجوارح، فيُحَبُّ ويُبْغَض على قدر ما فيه من الخير والشرِّ، وأكَّد ابن أبي العزِّ الحنفي -رحمه الله- هذا المعنى بقوله: «والحبُّ والبغض بحسب ما فيهم من خصال الخير والشرِّ، فإنَّ العبد يجتمع فيه سبب الوَلاية وسبب العداوة، والحبُّ والبغض، فيكون محبوبًا من وجهٍ مبغوضًا من وجهٍ، والحكم للغالب»(٢٦).
هذا -وأخيرًا-، فإذا تقرَّر أنَّ المقصود الشرعيَّ للهجر يندرج تحت مبدإ «الولاء والبراء» ويَجري عقوبةً لزجر المبتدع وتأديبه وتقويم انحرافه عن سواء السبيل وتطويقِ بدعته وضلالته، لئلاَّ تؤثِّرَ سلبًا على كيان المجتمع المسلم أو تهدِّدَ تماسُكَه بسبب فُشُوِّ بدعته وانتشارها؛ فإنه -بناءً على ذلك- لا ينبغي اتِّخاذ موقف التقصير في هجر المبتدع أو الإعراض عنه مطلقًا إلى درجة إلغاء مبدئه أو الإنكار على القائمين عليه من جهةٍ فإنَّ هذا من التفريط، ولا اتِّخاذُ موقف الإفراط المبالَغ فيه إلى درجة الغلوِّ المذموم الذي يترتَّب عن الإخلال بقواعد الهجر وعدم مراعاة ضوابطه الشرعية ومقاصده المرعيَّة من جهةٍ أخرى، وأحسن الناس قيامًا به وأسعدهم من كان معتدلاً وسطًا بين الإفراط والتفريط، والمغالاة والمجافاة.
واللهَ نسأل أن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، وفي السرِّ والعلن، وأن يريَنا الحقَّ حقًّا ويرزقنا اتِّباعه، ويريَنا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يجنِّبنا الظلم والاعتداء، وطُرُقَ الهوى والردى، وسبيل الغواية والعمى، إنه سميعٌ قريبٌ مجيبٌ.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في: ٢٣ من ذي الحجَّة ١٤٣٣ﻫ
الموافق ﻟ: ٠٨ نوفمبر ٢٠١٢
(١) «عقيدة أهل السلف» للصابوني (ص ١٢٣).
(٢) فالمقصود بالبدعة التي أتت الشريعة بذمِّها في نصوصٍ متكاثرةٍ هي البدعة في الدين، وقد حكى ابن الوزير اليمني -رحمه الله- في «إيثار الحقِّ على الخلق» (١٠٧) إجماعَ السلف على تحريمها، أمَّا البدعة الدنيوية فليست مقصودةً بالموضوع، بل هي داخلةٌ في حكم الجواز والإباحة ما لم يقترن بها ما يخالف الشرع، قال ابن عبد البرِّ في «الاستذكار» (٢/ ٦٧): «وأمَّا ابتداع الأشياء من أعمال الدنيا فهذا لا حرج فيه ولا عيب على فاعله»، والبدع في الدين كلُّها مذمومةٌ وليس فيها ما هو محمودٌ، وما استحسنه بعض السلف فإنما يَرِدُ على ما كان أصل فعله ثابتًا بالشرع، فهذا -وإن سُمِّي بدعةً- فهو بدعةٌ في اللغة لا في الشرع، إذ مفهوم البدعة في اللغة أعمُّ وأشمل من مفهومها في الشرع، وضمن هذا المنظور قال ابن رجبٍ -رحمه الله- في «جامع العلوم والحكم» (٢٥٢): «فكلُّ من أحدث شيئًا ونسبه إلى الدين ولم يكن له أصلٌ من الدين يرجع إليه فهو ضلالةٌ والدين بريءٌ منه، وسواءٌ في ذلك مسائل الاعتقادات أو الأعمال أو الأقوال الظاهرة والباطنة، وأمَّا ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع فإنما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية».
(٣) «شرح السنَّة» للبغوي (١/ ٢٢٧).
(٤) «أصول السنَّة» لابن أبي زمنين (٤٢٥).
(٥) وقد استدلَّ الإمام الطبري -رحمه الله- بهذه الآية على ضرورة هجر أهل الأهواء والبدع حيث قال: «وفي هذه الآية الدلالةُ الواضحة على النهي عن مجالسة أهل الباطل -من كلِّ نوعٍ من المبتدعة والفَسَقة- عند خوضهم في باطلهم» [«تفسير الطبري» (٤/ ٣٣٠)].
(٦) أخرجه البخاري في «الإيمان» باب: «المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ» (١٠)، من حديث عبد الله بن عمرٍو رضي الله عنهما.
(٧) انظر: «مجموع الفتاوى» (٢٨/ ٢٠٣-٢١٠).
(٨) «الآداب الشرعية» (١/ ٢٤٠).
(٩) خبر الواحد إنما يفيد العلمَ إذا احتفَّت به قرائنُ تؤيِّده كأن تتلقَّاه الأُمَّة بالقَبول، أو لا ينكره أحدٌ ممَّن يُعتدُّ بقوله، أو يُنقل الخبر من طرقٍ متساويةٍ لا تختلف، ونحو ذلك. [انظر: «الإنارة، شرح كتاب الإشارة» للمؤلِّف (٢٠٨)].
(١٠) «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٣٥/ ٤١٤).
(١١) المصدر نفسه (٢٤/ ١٧٢).
(١٢) «الاعتصام» للشاطبي (١/ ١٦٧).
(١٣) انظر: المصدر السابق (١/ ١٧١-١٧٤).
(١٤) المصدر السابق (١/ ١٦٨).
(١٥) انظر الحديث الذي أخرجه البخاري في «المغازي» باب حديث كعب بن مالكٍ ... (٤٤١٨)، ومسلم في «التوبة» (٢٧٦٩)، من حديث كعب بن مالكٍ رضي الله عنه.
(١٦) المصدر السابق (١/ ١٦٩).
(١٧) «المجموع» لابن تيمية (٢٤/ ١٧٥).
(١٨) أخرجه البخاري في «المغازي» باب بعث عليِّ بن أبي طالبٍ عليه السلام وخالد بن الوليد رضي الله عنه إلى اليمن قبل حجَّة الوداع (٤٣٥١)، ومسلم في «الزكاة» (١٠٦٤)، من حديث أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه.
(١٩) أخرجه البخاري في «الزكاة» باب وجوب الزكاة (١٣٩٩)، ومسلم في «الإيمان» (٢٠)، من حديث أبي هريرة عن عمر رضي الله عنهما.
(٢٠) «معالم السنن» للخطَّابي (٢/ ٢٠٦).
(٢١) أخرجه البخاري في «الشهادات» باب الشهداء العدول (٢٦٤١) من قول عمر رضي الله عنه.
(٢٢) انظر: «المجموع الثمين من فتاوى الشيخ ابن العثيمين» (١/ ٣١، ٣٢).
(٢٣) «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٢٨/ ٢١٢).
(٢٤) المصدر السابق (٢٨/ ٢٠٦).
(٢٥) «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٢٨/ ٢٠٩).
(٢٦) «شرح العقيدة الطحاوية» لابن أبي العزِّ (٤٣٣).