قال العلامة عبد الرحمن بن يحي المعلمي اليماني

القضية الثانية: أن الجرح إذا كان مفسَّرا فالعملُ عليه، وهذه القضية يُعرف ما فيها بمعرفة دليلها، وهو ما ذكره الخطيب في "الكفاية" ص 105 قال:

"والعلة في ذلك أن الجارح يُخبر عن أمرٍ باطنٍ قد عَلمه، ويُصَدِّقُ المُعَدِّلَ، ويقول له: قد علمتُ من حاله الظاهرةِ ما علمتَها، وتفردتُّ بعلمٍ لم تعلمْه من اختبار أمره، اخبارُ المعدِّلِ عن العدالة الظاهرة لا ينفي صدقَ قولِ الجارح.
ولأنَّ مَنْ عَمل بقول الجارح لم يَتَّهِمْ المُزَكِّي، ولم يُخْرِجْهُ بذلك عن كونه عدلًا، ومتى لم نَعملْ بقول الجارح كان في ذلك تكذيبٌ له ونقضٌ لعدالته، وقد عُلم أن حاله في الأمانة مخالفةٌ لذلك".
أقول: ظاهرُ كلام الخطيب أن الجرحَ المُبَيَّنَ السبب مقدمٌ على التعديل، بل يظهر مما تقدم عنه في القاعدة الخامسة من قبول الجرح المجمل إذا كان الجارح عارفًا بالأسباب واختلاف العلماء: أن الجارح إذا كان كذلك، قُدِّمَ جرحُه الذي لم يُبين سببه على التعديل.

لكنَّ جماعةً من أهل العلم قَيَّدُوا الجرحَ الذي يُقدم على التعديل بأن يكون مفسرًا، والدليل المذكور يُرشد إلى الصواب؛ فقولُ الجارح العارف بالأسباب والاختلاف: "ليس بعدل"، أو: "فاسق"، أو: "ضعيف" أو: "ليس بشيء"، أو: "ليس بثقة"، هل يجب أن لا يكونَ إلا عن علمٍ بسببٍ موجبٍ للجرح إجماعًا؟

أَوَ لا يحتمل أن يكون جَهِلَ أو غَفَلَ أو ترجح عنده مالا نوافقه عليه؟ أَوَليس في كل مذهبٍ اختلافٌ بين فقهائه فيما يوجب الفسق؟

فإن بَيَّنَ السببَ، فقال مثلًا: "قاذف"، أو قال المُحَدِّثُ: "كذاب"، أو: "يَدَّعِي السماعَ ممن لم يسمع منه"، أَفليس إذا كان المتكلَّمُ فيه راويًا، قد لا يكون المتكلِّمُ قصد الجرحَ، وإنما هي فلتةُ لسانٍ عند ثورةِ غضبٍ، أو كلمةٌ قصد بها غيرَ ظاهرها بقرينة الغضب؟

أوَ لم يختلف الناس في بعض الكلمات: أقذفٌ هي أم لا؟ حتى إن فقهاء المذهب الواحد قد يختلفون في بعضها.
أَوَليس قد يستندُ الجارح إلى شُيوع خبرٍ قد يكونُ أصلُه كذبةَ فاجرٍ، أو قرينةً واهيةً، كما في قصة الإفك؟

وقد يستند المحدث إلى خبرِ واحدٍ يراه ثقةً، وهو عند غيره غير ثقة.
أَوَليس قد يَبني المحدثُ كلمةَ "كذاب" أو "يضع الحديث" أو "يدعي السماع ممن لم يسمع منه" على اجتهادٍ يحتملُ الخطأ؟

فإن فَصَّلَ الجارحُ القذفَ، أفليس قد يكون القذفُ لمستحقه ؟
أَوَليس قد يكون فلتةَ لسانٍ عند سورةِ غضبٍ، كما وقع من محمد بن الزبير أو من أبي الزبير محمد بن مسلم بن تدرس، على ما رواه أبو داود الطيالسي عن شعبة، وكما وقع من أبي حصين عثمان بن عاصم فيما ذكره وكيع، وإن كانت الحكاية منقطعة؟

إذا تدبرت هذا، علمتَ أنه لا يستقيم ما استدل به الخطيب إلا حيث يكون الجرحُ مبينًا مفسرًا مثبتا مشروحًا بحيث لا يظهر دفعه إلا بنسبة الجارح إلى تعمد الكذب، ويظهر أن المعدِّلَ لو وقف عليه لما عَدَّلَ، فما كان هكذا فلا ريب أن العمل فيه على الجرح، وإن أكثر المعدِّلُون، وأما ما دون ذلك، فعلى ما تقدم في القضية الأولى ". اهـ.

منتقى من موسوعة المعلمي اليماني وأثره في علم الحديث المسماة
«النكت الجياد المنتخبة من كلام شيخ النقاد ذهبي العصر
العلامة عبد الرحمن بن يحي المعلمي اليماني»

المؤلف: أبو أنس إبراهيم بن سعيد الصبيحي