يا من ترغَبُون في الإصلاح! لا شيء ينفُذُ إلى القلوب أسرعُ من صحَّة المُعتقَد، وحُسن العبادة، وسلامة المقصِد، وصفاء القلبِ، ثم حُسن المُعاملَة، وغضِّ الطَّرف عن الزلاَّت، (وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ) [الشورى: 15] لا كما رغِبت.
على المُصلِح أن يلزمَ نصيحة السرِّ، ومحبَّة المنصُوح، والذَّبَّ عن عِرض المُسلِم. وثمرةُ العلم العمل، وثمرةُ العمل التقوى.

وليحذَر أن يغلِبَ عليه تمجيدُ نفسِه وإظهار صورتِه، وليكُن خادِمًا لدين الله، لا أن يكون خادِمًا نفسَه بدين الله، يظهرُ الحقُّ على أكتافِه ولا يظهرُ على أكتافِ الحق.
عليه أن يتحفَّظ من الهوى، وحُظوظ النفس، والعُجب، والتعصُّب؛ فسلامةُ الدين قبل سلامة المنهَج، وسلامةُ المنهج قبل منهَج السلامة.

وليحذَر أن يكون مطيَّةً لنشر ما يزرع الفُرقةَ في الأمة، والبغضاءَ بين الأشِقَّاء، وليكن مُعتدلاً مُنصِفًا في أقواله وأفعاله، حسنَ الظنِّ بإخوانِه.

عليه أن يتفقَّد نفسَه في أعمال القلوب، فهي أصلُ أعمال الجوارِح. وليحذَر اليأسَ والتخذيل، وأوهام المخاوِف، وليكن حجرَ بناءٍ لا حجرَ عثرة، (فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [يوسف: 64].
وليذكُر سَعَة الإسلام ورحابتَه مع المخالِف ما دامَ صاحِبَ سُنَّةٍ يبتغي الحقَّ. وليطمئنَّ مُبتغِي الإصلاح؛ فمسيرةُ الحق ونُصرة الدين ليست مُتوقفةً عنده ولا عليه، فالعملُ للإسلام يُدبِّرُه الله – عز وجل – على مُقتضَى حكمتِه، وعلى قدر إخلاص العبد، (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى) [الأنفال: 17]، (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) [النساء: 104].

المُصلِح ليس مسؤولاً عن النتائِج ولا الانتِصارات؛ بل عليه أن يطمئنَّ أنه على الجادَّة، وأنه مُطيعٌ لربِّه، سائرٌ على هديِه، مُنفِّذٌ لأوامِرِه، مُجتنِبٌ نواهِيَه، (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) [البقرة: 272]، (وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ) [الأعراف: 43].

أيها المُصلِح! ادعُ إلى الله على بصيرةٍ، وجِدَّ واجتهِد، وسدِّد وقارِب، والعصمةُ ليست للبشر، وأقِم الدينَ في نفسِك، وأعلِ القِيَم في مسلَكِك، وأنصِف من نفسِك، ولتكن عنايتُك بلفتٍ للقلوبِ والعقول لا بلفتِ الأنظار.
غيِّر ما في نفسِك يتغيَّر ما حولَك، (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد: 11]، والقلبُ إذا صلَح صلحَ الجسدُ كلُّه، وإذا فسَد فسدَ الجسدُ كلُّه.
ابتعِد عن التألِيب، وصِراع المصالِح، والأحزابِ والجماعات.

إياك أن تظنُّ أنك مسؤولٌ عن توزيعِ أقدار الله على ما تشتَهي؛ فمُصيبةُ من تحبُّ تقول: مؤمنٌ طيبٌ مُبتلَى، ومُصيبةُ من لا تحبُّ تقول: عقوبةُ ظالمٍ سيِّئ! تُسوِّغُ لمن تحبُّ، وتتعسَّفُ وتتكلَّفُ فيمن لا تحبُّ. تُحسِنُ الظنَّ بنفسِك وبمن تهوَى، وتُسيءُ الظنَّ بمن لا تحبُّ ولا تهوَى.
يا هذا! كلُّ الناس تحمِلُ العيوب، ولكنَّ السِّترَ عند اللطيف علاَّمِ الغيوب.
سُئل أبو بكر بن عيَّاش – رحمه الله -: من هو السنِّيُّ؟ فقال: “الذي إذا ذُكِرت الأهواءُ لم يتعصَّب لشيءٍ منها”.

يقول الشوكانيُّ – رحمه الله -: “المُتعصِّبُ صاحِبُ الهوى قد يكونُ بصرُه صحيحًا، ولكنَّ بصيرتَه عمياء، وأُذنَه عن سماع الحقِّ صمَّاء، يدفعُ الحقَّ وهو يظنُّ أنه ما يدفعُ غيرَ الباطل”.
ويقول شيخُ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: “البدعةُ مقرونةٌ بالفُرقة، والسنَّةُ مقرونةٌ بالجماعة”.
فعلى أهل الحق والخير والإصلاح أن يكونوا يدًا واحِدة، فلا يقِفُ بعضُهم مُعيقًا للآحر بقولِه أو فعلِه؛ بل يتوجَّهُ كلُّ مُصلِحٍ إلى ما خُلِق له مما يسَّره الله له في علمِه وخِبرتِه وفهمِه وإدراكِه.

فلا يتمُّ الإصلاحُ على وجهِه إلا بالتعاوُن؛ فمُصلِحٌ مهمَّتُه نشرُ علمٍ أصولاً وفروعًا، وآخرُ في الدعوة توجيهًا وإرشادًا، وآخر في الاقتصاد والمال والتجارة علمًا وعملاً، ورابعٌ في السياسة حِكمةً ودِرايةً.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين َ) [النحل: 125].

وليس المطلوب من المسلم – ولاسيَّما طالب العلم والمُصلِح وصاحِبُ الرأي – أن يخوضَ في كل مسألةٍ، ويدخُل في كل تخصُّص، ويلِجَ في كل مُستجد. من فعلَ ذلك خلَطَ وخلَّطَ، وأفسَدَ أكثرَ مما أصلَح.
فليعرِف العاقِلُ قدرَه، وليُقدِّر موهِبَتَه وملكَتَه، وليقتصِر على فنِّه وتخصُّصه ومجال خِبرتِه. لا تُخدع أو تنخدِع بأن عليك مُواكبَة المُتغيِّرات، ومُتابعة المُستجِدَّات، وكلما استجدَّ أمرُ غيَّرتَ وِجهتَك.
دَع لكل أهلِ فنٍّ فنَّهم، ولكل ذوِي علمٍ علمَهم، (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) [يوسف: 76].

عليك لُزوم ما تعرِف، والسَّير على ما تقدِر، ودَع الباقِي لأهلِه، ومن أراد كلَّ شيءٍ خسِرَ كلَّ شيء. فالمُشاركةُ في كل قضية ليست دليلاً على الوعي، ولا علامةً على الاهتمام بأمر المُسلمين؛ بل قد تكونُ دليلاً على قِلَّة الإدراك، وعلى ضياع المسؤوليَّات.
والعاقلُ لا يستعجِلُ الكلامَ أو إبداءَ الرأي، ولاسيَّما مع وجود من يَكفِيه من أهل العلم والخِبرة والتخصُّص.

ومن ابتِلاءات الزمان: أن الموضوعات المُختلِفة من دينيَّةٍ وسياسيَّةٍ واقتصاديَّةٍ واجتماعيَّةٍ وتربويةٍ وغيرها منثورةٌ بين أيدِي الناس في المجالِس، والمُنتديات، والتغريدات. فالحِرصُ على الدخول في كل هذا يهدِمُ ولا يبنِي، ويضُرُّ ولا ينفع، وهو خِلافُ المنهَج السليم.



__________________