قال صاحب الزاد « وهو مسنون في كل وقت» اي الاعتكاف

قال الشيخ ابن عثيمين « هكذا قال المؤلف وغيره، حتى لو أردت الآن ـ ونحن في شهر جمادى ـ أن تعتكف غداً أو الليلة وغداً، يكون ذلك مسنوناً، ما لم يشغل عما هو أهم، فإن شغل عما هو أهم، كان ما هو أهم أولى بالمراعاة.

وهذه المسألة فيها نظر؛ لأننا نقول الأحكام الشرعية تتلقى من فعل الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ولم يعتكف الرسول صلّى الله عليه وسلّم في غير رمضان إلا قضاءً، وكذلك ما علمنا أن أحداً من أصحابه اعتكفوا في غير رمضان إلا قضاءً، ولم يرد عنه لفظ عام أو مطلق، في مشروعية الاعتكاف كل وقت فيما نعلم، ولو كان مشروعاً كل وقت لكان مشهوراً مستفيضاً لقوة الداعي لفعله وتوافر الحاجة إلى نقله وغاية ما ورد أن عمر بن الخطاب استفتى النبي صلّى الله عليه وسلّم «بأنه نذر أن يعتكف ليلة أو يوماً وليلة في المسجد الحرام فقال: أوف بنذرك»[(أخرجه البخاري في الاعتكاف/ باب الاعتكاف ليلاً (2032))]
ولكن لم يشرع ذلك لأمته شرعاً عاماً، بحيث يقال للناس: اعتكفوا في المساجد في رمضان، وفي غير رمضان فإن ذلك سنة.

فالذي يظهر لي أن الإنسان لو اعتكف في غير رمضان، فإنه لا ينكر عليه بدليل أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أذن لعمر بن الخطاب أن يوفي بنذره ولو كان هذا النذر مكروهاً أو حراماً، لم يأذن له بوفاء نذره، لكننا لا نطلب من كل واحد أن يعتكف في أي وقت شاء، بل نقول خير الهدي هدي محمد صلّى الله عليه وسلّم، ولو كان الرسول صلّى الله عليه وسلّم يعلم أن في الاعتكاف في غير رمضان، بل وفي غير العشر الأواخر منه سنة وأجراً لبينه للأمة حتى تعمل به؛ لأنه قد قيل له:{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67] ، وانظر في حديث أبي سعيد اعتكف الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «العشر الأول، ثم الأوسط، ثم قيل له: إن ليلة القدر في العشر الأواخر فاعتكف العشر الأواخر»[(516)] ولم يعتكف السنة الثانية العشر الأول، ولا الأوسط، مع أنه كان زمناً للاعتكاف من قبل، والشهر شهر اعتكاف.

وعلى هذا فإنه لا يسن الاعتكاف، أي: لا يُطلب من الناس أن يعتكفوا إلا في العشر الأواخر فقط، لكن من تطوع وأراد أن يعتكف في غير ذلك، فإنه لا ينهى عن ذلك، استئناساً بحديث عمر ـ رضي الله عنه ـ، ولا نقول: إن فعله بدعة، لكن نقول: الأفضل أن تقتدي بالرسول صلّى الله عليه وسلّم.

مسألة الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة

وقوله اي صاحب الزاد: «مسنون»

قال الشيخ ابن عثيمين « لم يقيده المؤلف بزمن دون زمن، ولا بمسجد دون مسجد، وعلى هذا فيكون مسنوناً كل وقت وفي كل مسجد، فكل مساجد الدنيا مكان للاعتكاف، وليس خاصاً بالمساجد الثلاثة كما روي ذلك عن حذيفة بن اليمان ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة» [(أخرجه الطحاوي في «شرح مشكل الآثار» (2771) ط الرسالة؛ والبيهقي (4/316).)] فإن هذا الحديث ضعيف.

ويدل على ضعفه أن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ وهنه، حين ذكر له حذيفة ـ رضي الله عنه ـ أن قوماً يعتكفون في مسجد بين بيت حذيفة، وبيت ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ، فجاء إلى ابن مسعود زائراً له، وقال: إن قوماً كانوا معتكفين في المسجد الفلاني، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة» ، فقال له ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: «لعلهم أصابوا فأخطأت وذكروا فنسيت»
[(
أخرجه عبد الرزاق (8014)، وابن أبي شيبة (3/91))] فأوهن ابن مسعود هذا الحديث حكماً ورواية.

أما حكماً ففي قوله: «أصابوا فأخطأت» وأما رواية ففي قوله: «ذكروا فنسيت» والإنسان معرض للنسيان.
وإن صح هذا الحديث فالمراد به لا اعتكاف تام، أي أن الاعتكاف في هذه المساجد أتم وأفضل، من الاعتكاف في المساجد الأخرى، كما أن الصلاة فيها أفضل من الصلاة في المساجد الأخرى.

ويدل على أنه عام في كل مسجد قوله تعالى:{وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}[البقرة: 187]
فقوله تعالى:{فِي الْمَسَاجِدِ}(الـ) هنا للعموم، فلو كان الاعتكاف لا يصح إلا في المساجد الثلاثة لزم أن تكون (الـ) هنا للعهد الذهني، ولكن أين الدليل؟ وإذا لم يقم دليل على أن (الـ) للعهد الذهني فهي للعموم، هذا الأصل.

ثم كيف يكون هذا الحكم في كتاب الله للأمة من مشارق الأرض ومغاربها، ثم نقول: لا يصح إلا في المساجد الثلاثة؟! فهذا بعيد أن يكون حكم مذكور على سبيل العموم للأمة الإسلامية، ثم نقول: إن هذه العبادة لا تصح إلا في المساجد الثلاثة، كالطواف لا يصح إلا في المسجد الحرام.

فالصواب أنه عام في كل مسجد، لكن لا شك أن الاعتكاف في المساجد الثلاثة أفضل، كما أن الصلاة في المساجد الثلاثة أفضل.

كتاب الاعتكاف من الممتع شرح الزاد