المسألة الرابعة: في مقدار المُخْرَجِ مِنْ زكاة الفطر وحُكْمِ إخراجه بالقيمة:
أَتناوَلُ - في هذه المسألة - مقدارَ المُخْرَجِ مِنْ زكاة الفطر ونوعَه في الفرع الأوَّل، وأُخصِّصُ الفرعَ الثانيَ لمسألةِ إخراجِ زكاة الفطر بالقيمة.
الفرع الأوَّل: في مقدار المُخْرَجِ مِنْ زكاة الفطر ونوعِه:
المقدار الواجب في زكاة الفطر - عند الحنفية - هو نصفُ صاعٍ مِنْ بُرٍّ أو صاعٌ(٥٣) مِنْ شعيرٍ أو صاعٌ مِنْ تمرٍ، واستدلُّوا على هذا المقدارِ في هذه الأنواع الثلاثة وهي: الحنطةُ والشعيرُ والتمرُ بقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «صَاعٌ مِنْ بُرٍّ أَوْ قَمْحٍ عَلَى كُلِّ اثْنَيْنِ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ، حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ، ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى»(٥٤)، وبقول ثعلبة بن صُعَير رضي الله عنه: «قَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطِيبًا، فَأَمَرَ بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ: صَاعِ تَمْرٍ أَوْ صَاعِ شَعِيرٍ عَنْ كُلِّ رَأْسٍ» - زَادَ عَلِيٌّ فِي حَدِيثِهِ: «أَوْ صَاعِ بُرٍّ أَوْ قَمْحٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ»، ثُمَّ اتَّفَقَا: «عَنِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَالْحُرِّ وَالْعَبْدِ»(٥٥).
وتُعَدُّ هذه الأنواعُ الثلاثةُ - عندهم - أصولًا لغيرها مِنَ الأجناس الأخرى، والاعتبارُ فيها بالقيمة لكونها منصوصًا عليها، أي: أنَّ هذه الأنواعَ الثلاثةَ تُقوَّمُ، ثمَّ بقيمةِ المُقوَّمِ منها يُشْتَرَى الجنسُ المُرادُ إخراجُه.
أمَّا المقدارُ الواجبُ في زكاة الفطر - عند الجمهور مِنَ المالكية والشافعية والحنابلة - فهو صاعٌ عن كُلِّ فردٍ مِنْ جميعِ الأجناس المُخْرَجِ منها ممَّا يُعَدُّ قوتًا؛ عملًا بحديثِ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رضي الله عنه أنه قال: «كُنَّا نُخْرِجُ - إِذْ كَانَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَكَاةَ الْفِطْرِ، عَنْ كُلِّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ، حُرٍّ أَوْ مَمْلُوكٍ، صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ(٥٦)، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ، فَلَمْ نَزَلْ نُخْرِجُهُ حَتَّى قَدِمَ عَلَيْنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا، فَكَلَّمَ النَّاسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَكَانَ فِيمَا كَلَّمَ بِهِ النَّاسَ أَنْ قَالَ: «إِنِّي أَرَى أَنَّ مُدَّيْنِ مِنْ سَمْرَاءِ الشَّامِ تَعْدِلُ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ»(٥٧)؛ فَأَخَذَ النَّاسُ بِذَلِكَ»، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: «فَأَمَّا أَنَا فَلَا أَزَالُ أُخْرِجُهُ كَمَا كُنْتُ أُخْرِجُهُ، أَبَدًا مَا عِشْتُ»(٥٨).
لذلك كان نوعُ المُخْرَجِ أو جنسُه الواجبُ عند المالكية والشافعية هو ما كان غالِبَ قوتِ البلد، أو قوت المُكلَّفِ إذا لم يَقْدِرْ على قوتِ البلد، بينما الحنابلةُ خَلَصُوا إلى القول بأنَّ الواجب يَتعيَّنُ عليه في أَحَدِ الأصناف الواردةِ في حديثِ أبي سعيدٍ المُتقدِّم، وهي: الحنطةُ والشعيرُ والتمرُ والأَقِطُ والزبيب.
وسببُ اختلافهم - إذَنْ - هو اختلافهم في مفهومِ حديثِ أبي سعيدٍ رضي الله عنه المُتقدِّم: فمَنْ فَهِمَ منه التخييرَ بين الأصناف المذكورة في الحديث قال: أيَّ صنفٍ أَخْرَجَ أَجْزَأَ عنه، ولا يَعْدِلُ عن هذه الأصنافِ إلَّا في حالةِ انعدامها فإنه - والحالُ هذه - يجزيه كُلُّ مُقْتاتٍ مِنَ الحبوب والثمار.
ومَنْ فَهِمَ مِنْ حديثِ أبي سعيدٍ رضي الله عنه أنَّ اختلافَ المُخْرَجِ ليس سببُه الإباحةَ والتخيير، وإنما سببُه اعتبارُ قوتِ المُخْرِجِ أو قوتِ غالِبِ البلد قال بهذا الاعتبار(٥٩).
الفرع الثاني: في إخراج زكاة الفطر بالقيمة:
أمَّا إخراجُ زكاةِ الفطر بالقيمة فقَدْ مَنَعَ مِنْ ذلك الجمهورُ [المالكيةُ والشافعيةُ والحنابلةُ]، قال النوويُّ - رحمه الله -: «ولم يُجِزْ عامَّةُ الفُقَهاءِ إخراجَ القيمةِ وأجازَهُ أبو حنيفة»(٦٠).
ويُفضِّلُ الحنفيةُ إخراجَ القيمةِ مِنَ النقود في زكاة الفطر على إخراجِ العين(٦١)، وعلَّلوا ذلك بأنَّ المقصود مِنْ أداءِ زكاة الفطر إغناءُ الفقيرِ الذي يَتحقَّقُ غِناهُ بالعين أو بالقيمة، وأنَّ سَدَّ الخَلَّةِ(٦٢) بأداءِ القيمة أَنْفَعُ للفقير وأَيْسَرُ له لدَفْعِ حاجته.
أمَّا مذهبُ الجمهور فقَدْ علَّلوا مَنْعَ إخراجِ القيمة في زكاة الفطر بورودِ النصِّ في الطعام دون التعرُّض للقيمة، فلو جازَتْ لَبيَّنَها النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم، مع أنَّ التعامل بالنقود كان قائمًا والحاجة تدعو إليها، والمعلومُ - تقعيدًا - أنَّ «تَأْخِيرَ البَيَانِ عَنْ وَقْتِ الحَاجَةِ لَا يَجُوزُ»، فضلًا عن أنَّ القيمةَ في حقوقِ الناسِ يَلْزَمُها التراضي، والزكاةُ ليس لها مالكٌ مُعيَّنٌ حتَّى يتمَّ التراضي معه أو إبراؤُه.
وسببُ الخلافِ في مسألةِ إخراجِ القيمة بدلًا مِنَ العين يرجع إلى المسألتين التاليتين:
• الأولى: هل الأصلُ في الأحكام والمعاني الشرعيةِ التعبُّدُ أو التعليل؟
• الثانية: هل زكاةُ الفطر تجري مجرى صدقةِ الأموال أم تجري مجرى صدقة الأبدان كالكفَّارات؟
وعليه، فمَنْ لاحَظَ التعليلَ والغرضَ الذي مِنْ أَجْلِه شُرِعَ حكمُ زكاة الفطر، وأجراها مجرى صدقة الأموال؛ قال بجوازِ إخراجِ القيمةِ لأنها تُحَقِّقُ قَصْدَ الشارعِ في شَرْعِه الحُكمَ.
ومَنْ لاحَظَ التعبُّدَ والْتزامَ ظاهِرِ النصِّ وأَجْرَاها مجرى صدقةِ الأبدانِ كالكفَّارات والنذور والأضحية؛ قال: لا يجوز إخراجُ القيمةِ ويتعيَّنُ إخراجُ ما وَرَدَ به النصُّ مع مُراعاةِ مفهومه(٦٣).
والظاهرُ أنَّ الشرع إذا نصَّ على الواجبِ وعيَّنَ نوعَه وَجَبَ الْتزامُ ظاهِرِ النصِّ؛ احتياطًا للدِّينِ وعملًا بأنَّ الأصل في حكمِ زكاةِ الفطرِ التعبُّدُ، وأنها تجري مجرى صدقةِ البَدَنِ لا المال؛ لذلك لا يجوز العدولُ عن ظاهِرِ النصِّ إلى القيمة، كما لا يجوز ذلك في الأضحية والكفَّارات والنذور ونحوِها، وهذا هو مذهبُ مالكٍ والشافعيِّ وأحمد رحمهم الله. قال ابنُ تيمية - رحمه الله - مُقرِّرًا هذا المعنى بقوله: «إنَّ صدقة الفطرِ تجري مجرى كفَّارةِ اليمين والظِّهارِ والقتل والجماع في رمضان ومجرى كفَّارة الحجِّ؛ فإنَّ سببها هو البَدَنُ، ليس هو المالَ، كما في السنن عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم «أنه فَرَضَ صدقةَ الفطر طُهْرةً للصائم مِنَ اللغو والرفث وطُعْمةً للمساكين. مَنْ أداها قبل الصلاة فهي زكاةٌ مقبولةٌ، ومَنْ أدَّاها بعد الصلاة فهي صدقةٌ مِنَ الصدقات»(٦٤)، وفي حديثٍ آخَرَ أنه قال: «أَغْنُوهُمْ في هذا اليومِ عن المسألة»(٦٥)؛ ولهذا أَوْجَبَها اللهُ طعامًا كما أَوْجَبَ الكفَّارةَ طعامًا، وعلى هذا القولِ فلا يُجْزِئُ إطعامُها إلَّا لمَنْ يَسْتحِقُّ الكفَّارةَ وهُمُ الآخذون لحاجةِ أَنْفُسِهم؛ فلا يعطي منها في المُؤلَّفةِ ولا الرِّقاب ولا غيرِ ذلك، وهذا القولُ أَقْوَى في الدليل»(٦٦).
هذا، وإِنْ كان الأصلُ الواجبُ إخراجَ زكاة الفطر عينًا على الوجه الذي نصَّ عليه الشرعُ إلَّا أنه يجوز - استثناءً مِنَ الأصل المُقرَّرِ - العدولُ عن ظاهِرِ النصِّ إلى القيمة في حالةِ حصولِ حاجةٍ ضروريةٍ أو مصلحةٍ راجحةٍ أو وضعيةٍ مُلِحَّةٍ؛ فيُجْزِئُ إخراجُ القيمة حالَتَئذٍ.
المسألة الخامسة: في مَصْرِف زكاة الفطر:
اختلف الفُقَهاءُ في مَصْرِف زكاة الفطر على قولين:
أحَدُهما: أنَّ مَصْرِفَ زكاةِ الفطر هو مَصْرِفُ زكاةِ المال الثمانية؛ عملًا بقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَة ِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ [التوبة: ٦٠]، وهذا هو مذهبُ جمهورِ العُلَماء مِنَ الحنفية والشافعية، والمشهورُ عن الحنابلة.
والثاني: أنَّ زكاةَ الفطرِ خاصَّةٌ بالفُقَراءِ والمساكينِ ولا تُصْرَفُ إلَّا إليهم، وهو مذهبُ المالكيةِ والحنابلةِ على قولٍ(٦٧)، واختارَهُ ابنُ تيمية - رحمه الله -، وهو الراجحُ لمُناسَبتِه لمشروعيةِ زكاةِ الفطر، واختصاصِها بالفُقَراءِ والمساكينِ على وجه الحصر في حديثِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما، وفيه: «وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ»(٦٨)، ولأنَّ آية التوبةِ المذكورةَ عامَّةٌ في جميعِ مَصارِفِ زكاة المال لا صدقةِ الفطر على ما جرَتْ به السنَّةُ العملية، أمَّا زكاةُ الفطر فهي مُتعلِّقةٌ بالأبدان فأَشْبَهَتِ الكفَّارةَ؛ فلا يُجْزِئُ إخراجُها إلَّا لمَنْ يَسْتحِقُّ الكفَّارةَ، قال ابنُ تيمية - رحمه الله -: «ولا يجوز دَفْعُ زكاةِ الفطر إلَّا لمَنْ يَسْتحِقُّ الكفَّارةَ، وهو مَنْ يأخذ لحاجته، لا في الرِّقابِ والمُؤلَّفةِ قلوبُهم وغيرِ ذلك»(٦٩).
هذا، ويجدر التنبيهُ إلى أنه لا يجوز دَفْعُ زكاةِ الفطر إلى الحربيِّ المستأمن بالإجماع(٧٠)، كما لا يجوز إعطاؤها لغير المسلمين(٧١) عند عامَّةِ الفُقَهاء، خلافًا لأبي حنيفة الذي أجازَ دَفْعَها إلى أهل الذمَّة.
وسببُ اختلافهم في سببِ جوازِها: أهو الفقرُ أم الفقرُ والإسلامُ معًا؟(٧٢) والجمهورُ على أنَّ سببَ جوازِها هو الفقرُ والإسلامُ معًا؛ لأنَّ سِياقَ حديثِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما المتقدِّمِ في قوله: «وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ»(٧٣) يُفيدُ بظاهِرِه أنَّ المُرادَ: مَساكينُ المسلمين لا غيرِهم، وهو المُتبادِرُ إلى الذهن، وصَرْفُه إلى غيرِه يحتاج إلى دليلٍ، ولأنَّ الأصل المُقرَّرَ في زكاة الأموال والمنصوصَ عليه في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم لمُعاذٍ رضي الله عنه عندما بَعَثَهُ إلى اليمن: «ادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ .. فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ»(٧٤).
أمَّا غيرُ المسلم فتجوز فيه الصدقةُ العامَّةُ غيرُ الواجبة كما نُقِلَ عن الحسن البصريِّ أنه قال: «لَيْسَ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْوَاجِبِ حَقٌّ، وَلَكِنْ إِنْ شَاءَ الرَّجُلُ تَصَدَّقَ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ»(٧٥)، وعلى هذا تُحْمَلُ الآيةُ التي استدلَّ بها الأحنافُ على الجواز في قوله تعالى: ﴿لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الممتحنة].
والعلمُ عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.الجزائر في: ٢٣ شعبان ١٤٣٦ﻫ
الموافق ﻟ: ١٠ جــوان ٢٠١٥م