السياحة خواطر وآداب للأستاذ الدكتور: فالح بن محمد الصغير

الحمد لله الذي أبان لنا السبل، ورفعنا بدينه إلى أعلى المثل، أحمده تعالى وأشكره على نعمه التي لا تعد، وإحسانه الذي لا يُحد.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أهل الفضل والتقى، ومن سار على نهجهم واقتفى.
أما بعد:
كلما أقبلت الإجازة الصيفية تتنوع اهتمامات الأفراد والأسر في قضائها، وكثيرًا ما يغلب جانب السياحة على غيره، فلهذه الأهمية جاءت هذه الكلمات مجلية معنى السياحة في القرآن الكريم والسنة المطهرة، ومجلية لمفهومها عند الناس، ومذكرة بأهم آدابها، نفع الله بها.
السياحة في اللغة:
جاء في اللسان(1): مادة «سيح» السَّيْحُ: الماءُ الظاهر الجاري على وجه الأَرض.
وقال الأزهري في التهذيب(2): الماء الظاهر على وجه الأَرض وجمعُه سُيُوح وقد ساحَ يَسيح سَيْحًا وسَيَحانًا إِذا جرى على وجه الأَرض وماءٌ سَيْحٌ وغَيْلٌ إِذا جرى على وجه الأَرض وجمعه أَسْياح.
السياحة في الشرع:
وردت السياحة في الشرع بمعان عدة:
أولا: السياحة بمعنى الصيام:
وهذا القول مأثور عن ابن مسعود، وابن عباس، وأبي هريرة، وعائشة رضي الله عنهم.
قال الله تعالى: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)(3).
وقال الله تعالى: (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا)(4).
ثانيا: السياحة بمعنى الجهاد:
أخرج أبو داود في سننه(5) بإسناد صحيح من حديث أبي أمامة رضي الله تعالى عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله ائذن لي في السياحة؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن سياحة أمتي: الجهاد في سبيل الله تعالى».
ثالثا: السياحة بمعنى طلب العلم:
قال زيد بن أسلم، وابنه: السائحون: هم الذين يُسافرون لطلب الحديث والعلم. ولذلك قال بعض السلف: مَن لم يكن رِحْلَة، لن يكون رُحَلَة.
أي: من لم يرحل في طلب العلم للبحث عن الشيوخ، والسياحة في الأخذ عنهم، فيبعُد تأهُّلُه لِيُرْحَل إليه(6).
قال النيسابوري(7): وقيل: السائحون طلاب العلم؛ ينتقلون من بلد إلى بلد في طلب العلم في مظانه. وكانت السياحة في بني إسرائيل. قال عكرمة عن وهب بن منبه: لا ريب أن للسياحة أثرًا عظيمًا في تكميل النفس؛ لأنه يَلقى أنواعًا من الضر والبؤس فيصبر عليها، وقد ينقطع زاده فيتوكل على الله فيصير ذلك ملكة له، وقد ينتفع بالـمَشاهد، والزيارات للأحياء وللأموات، ويستفيد ممن هو فوقه، ويُفيد مَن هو دونه، ويكتسب التجاربَ ومعرفة الأحوال والأخلاق والسِيَر والآثار. ا.هـ.
فالسفر لطلب العلم قربة من أعظم القرب عند الله تعالى وذلك لما للعلم من فضل عظيم عند الله، يقول الله تعالى في تعظيم أولي العلم: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَة ُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(8)، وقال عز وجل: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ)(9).
ولقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمون أهمية طلب العلم وفضل ذلك، وكذلك فضل السفر في طلب العلم فتمثَّلوا ذلك وخرجوا في طلب العلم. «فقد رحل جابر بن عبدالله من المدينة مسيرة شهر في حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه عن عبد الله بن أنيس»(10).
وعن كثير بن قيس قال: كنت جالسًا مع أبي الدرداء في مسجد دمشق، فجاءه رجل فقال: يا أبا الدرداء إني جئتك من مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم لحديث بلغني أنك تحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جئت لحاجة. قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَن سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض، والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر»(11).
فطالب العلم يخرج متوخيًا مقصدًا ساميًا وسياحةً من أروع ما تكون، كيف! والملائكة تضع له أجنحتها رضى بما يصنع، فسياحة طالب العلم، وخروجه ورحلته في طلب العلم هي عبادة، بل هي من أفضل العبادات، وفي هذا يقول الله تعالى: (فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(12).
قال الشعبي: لو أن رجلًا سافر من أقصى الشام إلى أقصى اليمن فحفظ كلمة تنفعه فيما يستقبله من عمره رأيت أن سفره لا يضيع(13).
رابعا: السياحة بمعنى السير والانتشار في الأرض:
جاء في معجم الوسيط(14): السياحة التنقل من بلد إلى بلد؛ طلبا للتنـزه أو الاستطلاع والكشف.
وقال ابن سيده(15): قال صاحب العين [يعني: الخليل بن أحمد]: «السياحة -ذهاب الرجل في الأرض للعبادة».
وهذه الكلمة عرفت قديما عند بني إسرائيل، فالسياحة عندهم هي الذهاب في الأرض والانقطاع عن الناس والتعبد والتزهد والترهب في الصوامع، في رؤوس الجبال، في الكهوف، في الصحارى والبراري ينقطعون عن الناس.
عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: لما ابتُلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا قِبَل الحبشة حتى إذا بلغ برك الغماد(16). لقيه ابن الدغنة(17) -وهو سيد القارة- فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي فأنا أريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي. قال ابن الدغنة إن مثلك لا يَخرُج ولا يُخرَج فإنك تكسب المعدوم وتصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضيف وتُعين على نوائب الحق، وأنا لك جار فارجع فاعبد ربك ببلادك... الحديث»(18).
وثبت عند الترمذي في جامعه، أن النبي، صلى الله عليه وسلم كان إذا قَفَل من غزوة، أو حج أو عمرة، كان مما يقول في دعائه: «آيبون تائبون عابدون سائحون لربنا حامدون...» الحديث(19).
وفي حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني من أمتي...»(20).
وقال الله تعالى (وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّة ً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآَتَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ)(21).
وهذه السياحة التي عُرِفت عن بني إسرائيل -وأخذها عنهم كثير من الصوفية-: هي التي استأذن الرجلُ فيها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي أمامة السابق؟ فمنعه منها، وقال: «سياحة أمتي: الجهاد في سبيل الله»(22). وهي التي لم يأذن النبي صلى الله عليه وسلم فيها للرجل، وهي التي أنكرها السلف.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله(23): وأما السياحة التي هي: «الخروج في البرية من غير مقصد معين»: فليست من عمل هذه الأمة؛ ولهذا قال الإمام أحمد: «ليست السياحة من الإسلام في شيء، ولا من فعل النبيين ولا الصالحين»، مع أن جماعة من إخواننا قد ساحوا السياحة المنهي عنها! متأوِّلين في ذلك، أو غير عالمين بالنهي عنه من الرهبانية المبتدعة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: «لا رهبانية في الإسلام...».
وبمعنى السياحة: قول الله تعالى: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)(24).
ولقد أنكر الله على من فقد هذا الإحساس، عند سياحته فقال تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ)(25).
* * *
قال ابن سعدي رحمه الله: «( السَّائِحُونَ ) فُسرت السياحة بالصيام، أو السياحة في طلب العلم. وفسرت بسياحة القلب في معرفة اللّه ومحبته، والإنابة إليه على الدوام. والصحيح أن المراد بالسياحة: السفر في القربات، كالحج، والعمرة، والجهاد، وطلب العلم، وصلة الأقارب، ونحو ذلك(26).
- وإذا عرف مفهوم السياحة، ففيما مضى من الآيات والأحاديث ما يرفع من شأنها، وقيمتها ومفهومها؛ ففسرت السياحة بالصيام؛ لما فيه من امتناع الصائم عن الأكل والشرب تشبيها بالسائح الذي قد لا يتوفر له الأكل في كل وقت وحين.
- وفسرت بطلب العلم لما مضى من كون طلاب العلم يسيرون مسيرة الشهر في طلب الحديث الواحد، فخروجهم ودخولهم: سفر وسياحة.
- وفسرت السياحة بالجهاد في سبيل الله تعالى، فالمجاهد يخرج ليذود عن حياض الإسلام، ويحمي أرض المسلمين.
- وقد وردت السياحة بمعنى السير والانتشار في الأرض كما في الآيات السابقات، ومنه قوله تعالى: (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ)(27).
فمفهوم السياحة في ما مضى هو الخروج والسير في طاعة الله أو فيما يشبه ذلك.
* * *
وهذا المفهوم لكلمة السياحة من الخروج والانتشار في الأرض طاعةً لله تعالى ما زال قائما بحمد الله إلى هذا العصر، وإلى يومنا هذا.
وقوافل الحجاج، والمعتمرين القادمين من شتى بقاع الأرض سالكين كلَ فج عميق، لم يتركوا وسيلة من وسائل النقل التي توصلهم إلى بيت الله الحرام في البر والبحر إلا سلكوها، هذه القوافل ما زالت قائمة بحمد الله تثلج صدور المؤمنين، وكذلكم مازالت هناك طائفة من طلاب العلم يسيحون في الأرض شرقا وغربا يتفقهون في الدين؛ ليرجعوا إلى أهليهم منذرين دعاة إلى الله تعالى.
* * *
ولقد كان السلف يرحلون في طلب العلم والمعرفة ليالي ذوات العدد، فهذا ابن مسعود ا يقول: والله الذي لا إله غيره ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين أنزلت ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيما أنزلت ولو أعلم أحدا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه(28).
ولم تزل الساحة الإسلامية بحمد الله تعالى تشهد لكثير من العلماء وطلاب العلم فرغوا أنفسهم للدعوة إلى الله تعالى، فهم يسيحون في البلاد شرقا وغربا يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
لمتابعة بقية الموضوع ...


http://www.alssunnah.com/main/articles.aspx?selected_article _no=2829 …