بسم الله الرحمن الرحيمالحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَن لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه ومَن تبِع وَفده.
أما بعد
فقد جاء في مجموع فتاوى ابن تيمية (ج1/ص251) في مناظرته على العقيدة الواسطية:
((فأحضر بعض أكابرهم كتاب "الأسماء والصفات" للبيهقي -رحمه الله تعالى- فقال: هذا فيه تأويل الوجه عن السلف فقلت: لعلك تعني قوله تعالى: ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله فقال: نعم. قد قال مجاهد والشافعي يعني قبلة الله. فقلت: نعم، هذا صحيح عن مجاهد والشافعي وغيرهما، وهذا حق وليست هذه الآية من آيات الصفات. ومن عدّها في الصفات فقد غلط كما فعل طائفة ؛ فإن سياق الكلام يدل على المراد حيث قال: ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله والمشرق والمغرب الجهات. والوجه هو الجهة؛ يقال أي وجه تريده؟ أي: أي جهة. وأنا أريد هذا الوجه. أي: هذه الجهة. كما قال تعالى: ولكل وجهة هو موليها ولهذا قال: فأينما تولوا فثم وجه الله أي تستقبلوا وتتوجهوا والله أعلم.))أ.هـ.
ثم تبنى هذا التفسير في غالب كتبه وتبعه عليه بعض الناس.
بل ونسب ذلك إلى جمهور السلف في موضع آخر حيث قال في مجموع الفتاوى (ج2/ص429):
((قوله: ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله أى قبلة الله ووجهة الله هكذا قال جمهور السلف))
قلت:
هذا تأويل صريح للآية، ومخالف لما ورد عن السلف فيها، ونسبة هذا التفسير لجمهور السلف غير صحيح بل لا وجود له عن غير مجاهد ومقاتل وسوف نذكر ذلك في موضعه.
وكلام شيخ الإسلام رحمه الله يُرد عليه من وجوه:
الأول: لا يعرف إطلاق وجه الله على القبلة لغة ولا شرعا ولا عرفا بل القبلة لها اسم يخصها والوجه له اسم يخصه فلا يدخل أحدهما على الآخر ولا يستعار اسمه له.
الثاني: الوجه إذا أضيف لله في القرآن والسنة لا يراد به إلا الصفة في غير هذا الموضع، فاستثناؤه تحكّم غير مقبول
الثالث: قوله: ((والوجه هو الجهة؛ يقال أي وجه تريده؟ أي: أي جهة. وأنا أريد هذا الوجه. أي: هذه الجهة.)) من أخطر ما يكون إذ به يمكن ردّ جميع آيات والأحاديث التي فيها ذكر صفة الوجه، وهناك فارق بين الوجه إذا جاء معرفا بـ (أل) وبين (وجه) إذا جاء مضافا (وجه الله) فهذا لا يحتمل غير الصفة بل إن شيخ الإسلام نفسه شنّع على مثبتة المجاز في اعتبارهم (وجه الطريق) مجازا وقال هو وجه على الحقيقة وتختلف كيفيته باختلاف المضاف إليه وإن كان معناه واحدا، فكيف خالف ذلك هنا؟
الرابع: أن الأحاديث الصحيحة جاءت مفسرة للآية مشتقة منها:
كقوله صلى الله عليه و سلم "إذا قام أحدكم الى الصلاة فإنما يستقبل ربه"
وقوله: "فإن الله يقبل إليه بوجهه عنه"
وقوله: "إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصقن قبل وجهه" وقوله: "فإن الله بينه وبين القبلة"
وقوله: "إن الله يأمركم بالصلاة فإذا صليتم فلا تلتفتوا فان الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت"
وقال: "إن العبد اذا توضأ فأحسن الوضوء ثم قام الى الصلاة أقبل الله عليه بوجهه فلا ينصرف عنه حتى ينصرف أو يحدث حدث سوء"
وقوله: "إذا قام العبد يصلي أقبل الله عليه بوجهه فاذا التفت أعرض الله عنه وقال: يا ابن آدم أنا خير ممن تلتفت اليه فاذا أقبل على صلاته أقبل الله عليه فإذا التفت أعرض الله عنه"
الخامس: الظاهر في معناه إذا اطّرد استعماله في موارده مستويا امتنع تأويله وإن جاز تأويل ظاهر ما لم يطرد في موارد استعماله؛ لأن التأويل إنما يكون لموضع جاء نادرا خارجا عن نظائره منفردا عنها فيؤول حتى يرد إلى نظائره، وتأويل هذا غير ممتنع؛ لأنه إذا عرف من عادة المتكلم باطراد كلامه في توارد استعماله معنى ألفه المخاطب فإذا جاء موضع يخالفه رده السامع بما عهد من عرف المخاطب إلى عادته المطردة هذا هو المعقول في الأذهان والفطر وعند كافة العقلاء.
السادس: ما جاء عن الشافعي فهو وجادة للبيهقي بغير إسناد ومن أنعم النظر في الكلمة المنقولة عنه أيقن أنها ليست من كلامه وهي قوله: "فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ }يَعْنِي -وَاَللَّهُ أَعْلَمُ- : فَثَمَّ الْوَجْهُ الَّذِي وَجَّهَكُمْ اللَّهُ إلَيْهِ" فما هذا بأسلوب الشافعي خاصة قوله: (والله أعلم) بين ثنايا كلامه، وكتبه شاهدة بذلك، ولعلها مدرجة بين ثنايا كلامه ممن روى عن المزني هذه النسخة أو مِن بعض مَن امتلكها فلا حجة فيها
وعلى فرض ثبوتها -وهو بعيد- فالأولى حملها على التفسير باللازم لموافقة جمهور السلف الذين عدوها من آيات الصفات.
السابع: اعتماد قول مجاهد في تفسير الآية غير مقبول لأمور:
الأول: اختلاف القول عنه فيها فاعتماد ما وافق فيه منهج السلف أولى من غيره.
الثاني: طعن بعض أهل العلم في إسناد ذلك له.
الثالث: احتمال كونه من التفسير باللازم وهذا مشهور عن السلف وخصوصا مجاهد وهو يظهر أكثر من الرابع .
الرابع من الأمور: قد صح عن مجاهد تأويل بعض آيات الصفات، مما يجعل النفس لا تطمئن لما نقل عنه في باب الصفات، وأذكر لذلك مثالا واضحا جليًّا:
قوله تعالى: إِلَى رَبّهَا نَاظِرَة
قال الطبري -بعد أن ذكر مذهب السلف الصحيح في تفسيرها-:
((وقال آخرون: بل معنى ذلك: أنها تنتظر الثواب من ربها.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا عمر بن عبيد، عن منصور، عن مجاهد( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) قال: تنتظر منه الثواب.
قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) قال: تنتظر الثواب من ربها.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) قال: تنتظر الثواب.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور عن مجاهد( إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) قال: تنتظر الثواب من ربها، لا يراه من خلقه شيء.
حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي، قال: ثنا أبي، عن أبيه، عن جدّه، عن الأعمش، عن مجاهد (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ) قال: نضرة من النعيم (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) قال: تنتظر رزقه وفضله.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، قال: كان أناس يقولون في حديث: "فيرون ربهم" فقلت لمجاهد: إن ناسا يقولون إنه يُرى، قال: يَرى، ولا يراه شيء.))أ.هـ.
وهذا تأويل فاسد من مجاهد، وقد ردّ عليه ابن تيمية وإن لم يصرّح باسمه فقال في الفتوى الحموية والرسالة العرشية:
((فأما الذى جحد ما وصف الرب من نفسه تعمقا وتكلفا فقد استهوته الشياطين فى الأرض حيران فصار يستدل بزعمه على جحد ما وصف الرب وسمى من نفسه بأن قال لابد إن كان له كذا من أن يكون له كذا فعمى عن البين بالخفى فجحد ما سمى الرب من نفسه لصمت الرب عما لم يسم منها فلم يزل يملى له الشيطان حتى جحد قول الله عز و جل وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة فقال: لا يَراه أحد يوم القيامة. فجحد والله أفضل كرامة الله التى أكرم بها أولياءه يوم القيامة من النظر الى وجهه ونضرته إياهم فى مقعد صدق عند مليك مقتدر))وإن كان قد اعتذر له في موضع آخر في قاعدة: هل كل مجتهد مصيب؟ حيث قال:
((فصل والخطأ المغفور في الاجتهاد هو فى نوعي المسائل الخبرية والعلمية .... وكما نقل عن بعض التابعين: إن الله لا يُرى. وفسروا قوله: وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة بأنها تنتظر ثواب ربها كما نقل عن مجاهد وأبي صالح)) وهذا يؤكد أنه كان على علم بقول مجاهد عندما انتقده.
ولم يعوّل أحد من أهل السنة على قوله ذلك قال ابن كثير في تفسيره:
((ومن تأوّل ذلك بأن المراد بـ إِلَى مفرد الآلاء، وهي النعم، كما قال الثوري، عن منصور، عن مجاهد: إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ فقال تنتظر الثواب من ربها. رواه ابن جرير من غير وجه عن مجاهد. وكذا قال أبو صالح أيضا -فقد أبعد هذا القائل النجعة، وأبطل فيما ذهب إليه.))أ.هـ.
فكيف يعتمد قوله فيما خالف فيه سلف الأمة هنا ولم يعتمد هناك؟ وهذا يظهر من السابع.
الثامن من الوجوه: قد توارد سلف الأمة الذين صنفوا في العقيدة خاصة على عدّ هذه الآية من آيات الصفات، فقول ابن تيمية السابق: ((ومن عدّها في الصفات فقد غلط)) فيه ما فيه، فقد عدّها في الصفات الإمام أحمد وابنه الإمام عبد الله بن أحمد والإمام عثمان بن سعيد الدارمي والإمام ابن خزيمة والإمام ابن بطة والإمام اللالكائي والإمام البربهاري والإمام الطبري والإمام ابن عبد البر والإمام ابن القيم والإمام السعدي وابن عثيمين وغيرهم كثير ممن سبقوه أو لحقوه أو عاصروه.
فهل يقال: كل هؤلاء غلطوا وخالفوا جمهور السلف؟ ومَن السلف غيرهم؟
وسوف أذكر هنا بعض النقولا ت عمَّن عدّ هذه الآية من آيات الصفات ممن سبقوا ابن تيمية من أهل السنة، فمنهم:
1- الإمام أحمد بن محمد بن حنبل رحمه الله
قال ابنه عبد الله بن أحمد في كتاب السنة (2/512):
1202 - وجدت في كتاب أبي بخط يده مما يحتج به على الجهمية من القرآن الكريم ....وفي البقرة ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم
2- الإمام عثمان بن سعيد الدارمي رحمه الله
قال في نقضه على بشر المريسي (2/709):
وسنذكر في ذكر الوجه آيات وآثارا مسندة ليعرضها أهل المعرفة بالله على تفسيرك هل يحتمل شيئا منها شيء منه فإن كنت لا تؤمن بها فخير منك وأطيب من عباد الله المؤنين من قد آمن بها وأيقن، قال الله تعالى كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام كل شيء هالك إلا وجهه إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى فأينما تولوا فثم وجه الله إنما نطعمكم لوجه الله فالخيبة لمن كفر بهذه الآيات كلها أنها ليست بوجه الله نفسه
3- الإمام محمد بن إسحاق بن خزيمة رحمه الله
قال في كتاب التوحيد (1/25):
وقال ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله فأثبت الله لنفسه وجها
وقال في (1/38):
ونبينا قد أعلم أمته ما أمر الله عز و جل به يحيى بن زكريا عليهما السلام أن يأمر به بني إسرائيل لتعلم وتستيقن أمته أن لله وجها يقبل به على وجه المصلي له كما أوحى إليه فيما أنزل عليه من الفرقان فأينما تولوا-أى بصلاتكم- فثم وجه الله
4- الإمام عبيد الله بن محمد بن بطة
قال في كتاب الإبانة (3/319):
الله عز و جل وصف نفسه بما شاء ثم وصف خلقه بمثل تلك الصفات في الأسماء والصفات واحدة وليس الموصوف بها مثله، قال الله عز وجل فأينما تولوا فثم وجه الله و كل شيء هالك إلا وجهه وقال: فولوا وجوهكم شطره فذكر لنفسه وجها وذكر لخلقه وجوها
..........
وهناك غيرهم كثير، وقد تابعهم أئمة أهل السنة بعد شيخ الإسلام أيضا وسأقتصر على ذكر كلام واحد منهم فقط لشدّة صلته بابن تيمية ألا وهو خريجه وحامل علمه وناشر أقواله الإمام ابن القيم -ومنه استفدت أكثر ردودي السابقة-؛ لتعلم أن أئمة السلفية هم أكثر الناس حرصا على اتباع الحق وليس تقليد الرجال، وأن الحق أحب إلينا من كل أحد، وأن منهجنا أن كلا يؤخذ منه ويترك إلا رسول الله
فقد نقل صاحب شرح قصيدة ابن القيم (2/303- 307) كلام الإمام ابن القيم في الصواعق -وهو أوعب ما وجدته في الكلام على هذه الآية-:
الصحيح في قوله فثم وجه الله أنه كقوله في سائر الآيات التي فيها ذكر الوجه فإنه قد اطرد مجيئة في القرآن والسنة مضافا الى الرب تعالى على طريقة واحدة ومعنى واحد فليس فيه معنيان مختلفان في جميع المواضع غير الموضع الذي ذكره في سورة البقرة وهو قوله فثم وجه الله وهذا لا يتعين حمله على القبلة أو الجهة ولا يمنع أن يراد به وجه الرب حقيقة فحمله على موارده ونظائره كلها أولى ومنها أنه لا يعرف إطلاق وجه الله على القبلة لغة ولا شرعا ولا عرفا بل القبلة لها اسم يخصها والوجه له اسم يخصه فلا يدخل أحدهما على الآخر ولا يستعار اسمه له نعم القبلة تسمى وجهة كما قال تعالى ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أينما تكونوا وقد تسمى "جهة" وأصلها "وجهة" لكن أُعلَّت بحذف "فائها" كـ "زنة" و "عدة" وإنما سميت قبلة و وجهة؛ لأن الرجل يقابلها ويواجهها بوجهه، وأما تسميتها وجها فلا عهد به فكيف إذا أضيف إلى الله تعالى مع أنه لا يعرف تسمية القبلة وجهة الله في شيء من الكلام مع أنها تسمى وجهة فكيف يطلق عليها وجه الله ولا يعرف تسميتها وجها، وايضا فمن المعلوم أن قبلة الله التي نصبها لعباده هي قبلة واحدة وهي القبلة التي أمر الله عباده أن يتوجهوا اليها حيث كانوا لا كل جهة يولي وجهه اليها فإنه يولي وجهه الى المشرق والمغرب والشمال وما بين ذلك وليست تلك الجهات قبلة الله فكيف يقال أي وجهة وجهتموها واستقبلتموها فهي قبلة الله فإن قيل هذا عند اشتباه القبلة على المصلي وعند صلاته النافلة في السفر قيل اللفظ لا شعار له بذلك البتة بل هو عام مطلق في الحضر والسفر وحال العلم والاشتباه والقدرة والعجز يوضحه أن إخراج الاستقبال المفروض والاستقبال في الحضر وعند العلم والقدرة وهو أكثر أحوال المستقبل وحمل الآية على استقبال المسافر في التنقل على الراحلة وحال الغيم ونحوه بعيد جدا عن ظاهر الآية وإطلاقها وعمومها وما قصد بها فإن "أين" من أدوات العموم وقد أكد عمومها بما أراده لتحقيق العموم كقوله وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطرهوالآية صريحة في أنه أينما ولى العبد فثم وجه الله من حضر أو سفر في صلاة وغيرها وذلك أن الآية لا تعرض فيها للقبلة ولا لحكم الاستقبال بل سياقها لمعنى آخر وهو بيان عظمة الرب تعالى وسعته وأنه أكبر من كل شيء وأعظم منه وأنه محيط بالعالم العلوي والسفلي فذكر في أول الآية إحاطة ملكه في قوله ولله المشرق والمغربمنبها بذلك على ملكه لما ابينهما ثم ذكر عظمته سبحانه وأنه أكبر وأعظم من كل شئ فأينما ولى العبد وجهه فثم وجه الله ثم ختم باسمين دالين على السعة والاحاطة فقال إن الله واسع عليم فذكر اسمه الواسع عقيب قوله فأينما تولوا فثم وجه اللهكالتفسير والبيان والتقرير له فتأمله فهذا السياق لم يقصد به الاستقبال في الصلاة بخصوصه وإن دخل في عموم الخطاب حضرا وسفرا بالنسبة الى الفرض والنفل والقدرة والعجز وعلى هذا فالآية باقية على عمومها وأحكامها ليس منسوخة ولا مخصوصة بل لا يصح دخول النسخ فيها لأنها خبر عن ملكه للمشرق والمغرب وأنه أينما ولى الرجل وجهه فثم وجه الله وعن سعته وعلمه فكيف يمكن دخول النسخ والتخصيص في ذلكوأيضا هذه الآية ذكرت ما بعدها لبيان عظمة الرب والرد على من جعل له عدلا من خلقه الشركة معه في العبادة ولهذا ذكرها بعد الرد على من جعل له ولدا فقال تعالى وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض إلى قوله كن فيكون فهذا السياق لا تعرض فيه للقبلة ولا سيق الكلام لأجلها وإنما سيق لذكر عظمة الرب وبيان سعة علمه وحلمه والواسع من أسمائه فكيف تجعلون له شريكا بسببه وتمنعون بيوته ومساجده ان يذكر فيها اسمه تسعون في خرابها فهذا للمشركين ثم ذكر ما نسبه اليه النصارى من اتخاذ الولد ووسط بين كفر هؤلاء وقوله تعالى ولله المشرق والمغرب فالمقام مقام تقرير لأصول التوحيد والايمان والرد على المشركين لا بيان فرع معين جزئيومنها انه لو أريد بالوجه في الآية الجهة والقبلة لكان وجه الكلام أن يقال فأينما تولوا فهو وجه الله لأنه إذا كان المراد بالوجه الجهة فهي التي تولي نفسها وإنما يقال ثم كذا اذا كان أمران كقوله تعالى وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا فالنعيم والملك ثَمَّ، لا إنه نفس الظرف.والوجه لو كان المراد به الجهة نفسها لم يكن ظرفا لنفسها فإن الشيء لا يكون ظرفا لنفسه فتأمله ألا ترى أنك إذا أشرت الى جهة الشرق والغرب لا يصح أن تقول ثم جهة الشرق، ثم جهة الغرب، بل تقول هذه جهة الشرق، وهذه جهة الغرب، ولو قلت هناك جهة الشرق والغرب لكان ذكر الظرف لغوا وذلك لأن "ثَمَّ" إشارة الى المكان البعيد فلا يشار بها الى قريب والجهة والوجهة مما يحاذيك الى آخرها فجهة الشرق والغرب وجهة القبلة مما يتصل الى حيث ينتهي فكيف يقال فيها "ثَمَّ" اشارة الى البعيد؟ بخلاف الاشارة الى وجه الرب تبارك وتعالى فإنه يشار الى ذاته ولهذا قال غير واحد من السلف فثم الله تحقيقا لان المراد وجهه الذي هو من صفات ذاته والاشارة اليه بأنه "ثَمَّ" كالإشارة اليه بأنه فوق سمواته وعلى العرش وفوق العالم ومنها أن تفسير القرآن بالقرآن هو أولى التفاسير ما وجد اليه السبيل ولهذا كان يعتمده الصحابة والتابعون والأئمة بعدهم والله تعالى ذكر في القرآن القبلة باسم القبلة والوجهة وذكر وجهه الكريم باسم الوجه المضاف اليه فتفسيره في هذه الآية بنظائره هو المتعين ومنها أنك إذا تأملت الأحاديث الصحيحة وجدتها مفسرة للآية مشتقة منها:
كقوله صلى الله عليه و سلم "إذا قام أحدكم الى الصلاة فانما يستقبل ربه"
وقوله: "فإن الله يقبل إليه بوجهه عنه"
وقوله: "إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصقن قبل وجهه"
وقوله: "فإن الله بينه وبين القبلة"
وقوله: "إن الله يأمركم بالصلاة فاذا صليتم فلا تلتفتوا فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت"
وقوله: "إن العبد اذا توضأ فأحسن الوضوء ثم قام إلى الصلاة أقبل الله عليه بوجهه فلا ينصرف عنه حتى ينصرف أو يحدث حدث سوء"
وقوله: "إذا قام العبد يصلي أقبل الله عليه بوجهه فإذا التفت أعرض الله عنه وقال: يا ابن آدم أنا خير ممن تلتفت إليه فإذا أقبل على صلاته أقبل الله عليه فإذا التفت أعرض الله عنه"
التاسع: قول ابن تيمية: ((قوله: ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله أى قبلة الله ووجهة الله هكذا قال جمهور السلف)) فيه ما فيه أيضا، بل جعلها جمهور السلف من آيات الصفات كما ذكرتُ، وإنما قال بما قاله الشيخ رحمه الله جمهور المتكلمين وكتبهم شاهدة بذلك فليراجعها مَن شاء، وإنما يُروى ذلك عن مجاهد ومقاتل والشافعي وقد بيّنتُ ما فيه.
وقد ناقشني بعض الفضلاء المحبين لشيخ الإسلام -وكلنا بحمد الله نحبه- في ذلك على الخاص محاولا الانتصار لقوله فسألته سؤالا واحدا قبل النقاش وأردت منه الإنصاف في إجابته ففعل بارك الله له
سألته: لو لم يرد هذا التفسير عن ابن تيمية، هل كنت تعدّها من آيات الصفات؟
فقال: نعم
قلت: والشيخ حبيب إلينا ولكن الحق أحب إلينا من الشيخ
والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل
وكتبه
عيد بن فهمي بن محمد بن علي الحسيني
عفا الله عنه