المعركة تحت راية البخاري
1
هذا العنوانُ حاكيْتُ به عنوانا وضعهُ أديبُ العربية والإسلام المظلوم من أمَّة الإسلام مُصطفى صادق الراَّفعي رحمه الله وجزاه عن الإسلام خيرا، لماَّ دبجتُ مقالا نقدياًّ لما كانتْ تُصدره حمقاءُ متهوِّرة في أوائل الألفية الميلادية الجديدة من مقالاتٍ نقدية للإمام البُخاري فيها سبٌّ وتعيير، وهمز ولمزٌ وتكفير، وحُمقٌ و إيهامٌ وتلبيسٌ... ولقد كنتُ أظنُّ أنَّ أُورارَ تلك المعركة قد خمدَ، ولهيبَها قد بردَ، و الدَّاعين إليها والقائمين فيها قد درجوا..بيْد أنَّني كلُّما سرَّحتُ النظرَ فيما تقذفه المطابع اليومَ من صُحف ومجلات، وكتب ودراسات، وقلبَّتُ النظرَ فيما ينقله إلينا شبابُ هذا العلم الشَّرعي من شُبهات وأراجيف وأُغلُوطات، ويُلقونه علينا أسئلةً حائرةً تبحثُ لهاَ عن أجوبةٍ ناصعات، بأدلة بينات، وبراهين واضحاتٍ مُقنعاتٍ- أيقنتُ أن المعركةَ لم تبرحْ مكانَهَا، ولم تَعْدُ موضِعَها، وأنها تتجدَّدُ بتجدُّد الكلامِ فيها، وبإعادة تفتيقِ الشبهةُ فيها، وبنشأةِ جيلٍ ممن يتنَّبى فكرا جديدا، ونظرا بزعمه ثاقبا، ورأيا – بظَنِّه- حداثيا تقدُّميًّا يريد أن يصلحَ ولا يهدم، ويجِّددَ ولا ينسفْ، وينفخَ في الرماد حياةً جديدة، ونفَسًا مُستأنَفا؟!!
إنَّ هذا النَّمطَ الجديدَ من الفكر الذِّي قد ملكَ شِغافَ قلُوب بعضِ المفكِّرين من الحداثيين المعاصرين ممن تربى على إكبار الآخر وتمجيد الغرب، وكُفران العشير قرآنا وسُنةً، وتراثا وأدبًا وتاريخا وحضارةً، وقيِمًا وفكرا – هو الذِّي تدور عليه معركتُنا التي نَقُودها – على هذه الصفحات- تحت راية الإمام البخاريِّ..فالبخ اريُّ رمزُ القديم الذِّي يحافظُ على هويته وانتمائه، وأصالته وإسلامه، وغيرُه هو مَنْ يقاتِل تحتَ ألويةِ أسماء مشبُوهة وأعلامٍ مدْخُولة ورُموزٍ تُريد أن تكونَ مَتْبوعة: تؤمنُ ببعضٍ وتكْفر ببعضٍ، وتلتزمُ ببعضٍ وتتبرأُ من بعضٍ نفاقا وتقيةً، وتزلفا للغرب وتقرُّبا..وأخذا – زعموا- بأهداب الحضارة الجديدة ..وتمسكًا بمقتضيات العصْر، ومُتطلَّبات المرحلة ؟!!
إنَّ هذه السلسلة من المقالات القديمة الجديدة..لخيرُ تعبير، وأصدق دليلٍ على أنَّ تحديَ اختراقِ المقدَّس الديني مازال قائما..إذْ ما رمزٌ من رُموزه يهلكُ إلا قام من جنسه من يخلفه ويروِّج له، ويُنافح عنه، وبل ويقاتل دونه..وما خبا صوتٌ من معسكر الحداثة الجديدة والعلمانية المعاصرة إلا ونهض صوتٌ يحيي ما انْدَرَسَ ومات..بيْد أنَّ سنة الله فيما هذا شأنُه أنْ يوُجِدَ من يقوِّم المسيرة..ويحفظَ على الأمة دينها وانتماءها..ويناف ح عن ثوابتها ومرجعيتها..سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا، ولن تجد لسنة الله تحويلا..وإلى لقاء قريبٍ إن شاءَ الله تعالى..
2
لَسْنَا اليومَ نُبعدُ النُّجعة عن موضوع هذه السلسلة من المقالات إذا أدَرْناَ هذه المقالةَ عن هَبَّة الغرب الجاحد للدفاع عن مبادئ وضعية خلال أزمة صحيفة شاغلي إبدو الفرنسية- و عن هبَّة بعضِ بني جلدتنا للذَّودِ عن تلك الصحيفة، لأنَّ أحاديثَ توقير مقام النبي صلى الله عليه وسلم أخرجها الإمامُ البخاريُّ في كتابه الجامع الصحيح بأسانيد صحاح نظيفة، وألفاظ جليلة رفيعة..
فلا جرمَ إذاً أن يكون موضوعُ هذه المقالة منضوياً تحت الموضوع العامِّ لهذه السلسلة.
إنَّ اجتماع الغرْب اليوم َعلى الدفاع عن مبادئ ارتضاها شعاراتٍ لحياته وإدارة شؤونه، أمرٌ لسنا نستغربه ولا نعجب منه، فالكفرُ توحِّده أهدافٌ واحدة، وغاياتٌ معروفة، وهو حرٌّ في اختياراته ومبادئه، بيْد أنَّ المستغربَ العجيب، والأمرَ المستبْشعَ الفظيعَ، أنْ ينبريَ منَّا – معاشر المسلمين- من يضمُّ صوتَه إلى صوت الغرب، في إعلاء شأن مبادئ وشعارات على حساب مبادئ الدين، وثوابت العقيدة، وأصول الشريعة...بدعوى أنَّ هذه المبادئ الوضعية إنسانية، وعالمية، وأممية وهلمَّ جرًّا من هذه الأوصاف الحسنة الجميلة المونِقة، والنعوت النبيلة النَّقية الصافية!!
إنَّ مبادئ الجمهورية، ومنظومة القيم الفرنسية ليست لنا – أهلَ الإسلام- دينا متبوعا، ولا فطرةً أصيلة، ولا منهجا مسلوكا نبيلا، وكيف تكون كذلك وفيها أن َّحرية التعبير مكفولة وإنْ صادمتِ الدين أيَّ دينٍ، واستهزأتْ بالشريعة أيَّ شريعةٍ، وحطَّتْ من جذوة التدين في النفس البشرية؟
أَلاَ إنَّ مَنْ زعمَ مِنْ بني جِلدتنا أنه" شاغلي إبدو" فلقد أخطأ التعبير عن" التضامن"، وأبعدَ النُّجعة في " المناصرة"، وحادَ عن الجادَّة في " المواساة" و" التعزية"!!، ذلك أن َّمن لوازم ذلك ومقتضياته أنْ يكون راضيا عن النهج الذي سلكتْه الصحيفة في الاستهزاء بمحمَّد بن عبد الله سيِّد الخلق، وأكرم البشر صلى الله عليه وسلم، فكيف يكون هذا؟!!
أَإيمانٌ فيه استهزاءٌ، ويقينٌ مع حطِّ وإقذاع، وتصديقٌ مع طعنٍ وإفحاشٍ!! لعمرُ اللهِ إنَّ الضِّديْن لا يجتمعان، إلا عند ذي الوجْهيْن، وصاحب الكيْل بمكياليْن، والمنافق ِذي الرِّجليْن: رِجْلٍ في الإيمان، ورِجْل في الكفر والإلحاد..
إنَّ الذِّي يقتضيه منطقُ الإيمان، وصوتُ اليقين والإسلام من هذه الأزمة وتلك المحنة، أن ْتكون َالمواساة ُمقرونةً بالتنديد، والمؤازرةُ مشفوعةً بالنكير، فمقامُ النبوة عندنا في عقيدتنا عزيزٌ، وجنابُ الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم عندنا في شريعتنا رَفيعٌ رفيع، لا يداني ذلك ولا يساويه " شعارات الجمهورية"، ولا " مبادئ قيل إنها " إنسانية عالمية"!!!
3
كان مما دعاني إلى كتابة هذه السلسلة عن الإمام البخاري والمعارك الفكرية المثارة حوله، كلمةٌ منظومة كان السيوطي قد قالها ونظمها في نظمه العلمي الشهير في مصطلح الحديث حيث قال مشيرا إلى الصحيحين:
فانتقدوا عليهما يسيرا
فكم نرى نحوهما نصيرا
وهذه الكلمة هي التي أسس عليها الحداثيون والعلمانيون نقدهم اللاذع للجامع الصحيح، فقال قائلهم: إذا كان أولئك الأماجد - وهم من هم في الورع والتقوى والحدب على الصحيح – قد مارسوا النقد للجامع الصحيح وإن قلَّ، فنحن – في هذا العصر الحديث الذي تطورت فيه العلوم وتغيرت فيه القناعات – أولى، فليسعنا ما وسعهم، وليعذرنا من عذرهم!!
وما احتج به هؤلاء مردود من وجوه:
الأول: أن الذين انتقدوا الجامع الصحيح من الأقدمين كانوا من أشد الناس انتصارا لمبادئ الإسلام وتعاليمه من الحداثيين المعاصرين الذين يبغون بشريعة الجاهلية المعاصرة بدلا من الإسلام.
الثاني: أن الذين انتقدوا الجامع الصحيح كانوا من أكثر الناس أدبا مع جامعه وبخاريه، فلم يلجئهم النقد – وإن علا صوته_ إلى الدفع بالصدر، والإقذاع في العبارة، والشطط في الإشارة كما هو واقع في أغلب الدراسات الحداثية المعاصرة الطاعنة في البخاري وصحيحه.
الثالث: لم يتخذ قدماء المنتقدين للبخاري وصحيحه نقدهم سلما للشهرة، ولا طريقا إلى الارتزاق بطبع المنتقد ونشره في الآفاق.
الرابع: كان انتقاد الأقدمين وهم في واقع الأمر قلة قليلة – متوجها إلى أن البخاري رحمه الله قد يقع له أحيانا مخالفة الشروط العليا في التصحيح، فيتنزل إلى شروط أدْونَ وهي مع ذلك صحيحة مقبولة، ومعتبرة نقية نظيفة، جارية على سنن أهل الحديث في القبول والرد، والتصحيح والتضعيف.
الخامس: كان انتقاد الأقدمين في الغالب من متخصصين مشهورين ذوي وجاهة علمية ومنزلة في مصطلح الحديث علية، وذلك لعمر الله مخالف لنقد الحداثيين المعاصرين الذين هم من أغمار الناس، ممن لم يطر في العلم شاربهم، ولم يقو فيه ساعدهم، ولم يتسع فيه نظرهم، فتجد فيهم الصحفي الذي يريد سبقا إعلاميا، والكاتب المبتدئ الذي لا يحسن التهجي لأبجديات الشريعة وعلومها، وقد تجد فيهم المنتهي بيد أنه في الفلسفة صاحب الكرسي المبرز والعلم الخافق المركز.
وجملة القول في هذا أن نقد القدماء – إن وجد- للبخاري لم يكن دعوة إلى إسلام آخر أو ثورة في الدين أو تجديدا لأمره بل كان غاية في الأدب مع البخاري ورقيا في الاعتراض وسموا في التعقب.
4
الناقمون على الإمام البخاري طبقات على مراتب بعضها شر من بعض، يجمعهم العداء لهذا الكتاب العظيم، ولجامعه المحقق النِّحرير، فمنهم: ممن علا في الباطل صوته، ورسخت في البغضاء قدمه، وطال في الإقذاع لسانه، فجرى به بنانه، وبسط فيه رواقه: الشيعة المارقون، والروافض الهلكى المتفلتون، وهؤلاء يسعون في كل فرية يلصقونها بالصحيح وجامعه، ويتشبتون بكل شبهة واهية ينسبونها إلى ذاك الكتاب الجليل وبخاريه، ولقد سمعتُ من هرائهم وقذفهم وطنزهم ما أطار صوابي، وعيل معه صبري، وكثر له أسفي، وعظمت له كربتي، وهؤلاء المنتقدون الحاقدون الموتورون، يريدون من البخاري أن يروي عن جعفرهم الصادق رضي الله عنه، ويطيلون البكاء على هذا الطلل، ويستبكون عليه الناسَ من حولهم، كما أن هؤلاء يُبغضون الجامع الصحيح وصاحبه لأنه روى - في مقابل إعراضه عن جعفر الصادق- عن أبي هريرة راوية الإسلام ناقلا أخبارا لم ترُقهم، وأحاديث صحاح لم تعجبهم، وإنَّه رضي الله عنه إذْ فعل لساقط العدالة، بل لا وجود له في التاريخ بالكلية، وهو مفضوح عند بوهندي في كتابه المأفون:" أكثر أبو هريرة"؟!!
لقد ألقى التشيع في هذا العصر برصاصة الموت على أبي هريرة فعُودي رضي الله عنه وأوذي، وقُذف واتهم، واستُحمق واستُجهل، وكُذِّب وتُوُقِّف فيه، فقيل: متزيِّدٌ وإن كان مكثرا، ووضَّاع وإن كان صحابيا!!
ومارق ممخرق وإن كان راوية الإسلام!! وممالئ للأمويين وإن كان عدلا موثقا!!
وناصبَ الشيعة العداء لكل من نصر أبا هريرة فعدَّه صحابيا وروى من حديثه، كالإمام البخاري فمن هو دونه، فقالوا البخاري ساقط لأنه روى عن ساقط، ومجروح لأنه أخرج حديث مجروح، وعدو لأنه صحح مرويات الأعداء!!
حضرتني هذه المعاني كلها وأنا أستمع إلى لقاء – زعموا علميا- فيه عالم شيعي يتصدى قال لفضح البخاري وإظهار مخازيه وأكاذيبه وأباطيله التي اشتمل عليها صحيحه!!
وكان الشيعي المسكين قد أحضر معه نسخة من الجامع الصحيح ينقل منها كما زعم دليل إدانة البخاري، ويبرز ذلك للمصوِّر فينهال هذا العبد المأمور مصورا سطرا من صفحة قد بتر العالم الشيعي الكلام منها بترا واقتطعه من سياقه قطعا، فصورَّه المسكينُ حقا وهو باطل، وأبرزه المتعالم صدقا وهو زور زاهق!!
وتراه يختم مناقشته – إن كانت في ميزان العلم مناقشة- بقوله:" أهذا هو الكتاب الذي يقال فيه صحيح، وأصح كتاب بعد كتاب الله"!!
نعم وأيم الله إنه لصحيح مع جدالك، ولمقدَّم بين الكتب مع مرائك وتعقبك!!
وماذا عساه يؤثر صوتك العليل المكلوم، وجنانك الحاسد الموتور؟؟!!
ألا فإن الذي ينبغي التعويل عليه، أنه لا حفل بما يقوله شيعة هذا العصر في البخاري، فلا يشتغلن منتصر بالرد العلمي عليهم، فإنهم لا يرعوون، وعن غيهم ليس يعودون، إذ هم أعداء حقيقة لا مجازا، ومناوئون صدقا لا ادعاء، ومحاربون لنا بكرة وآصالا فلا نضيعن الجهد والوقت في مخاطبة ميت هالك، ولا مفتر خساف بباطله زاهق، ولتصرف الجهود والأوقات في مجادلة أطروحات الحداثيين تجاه الجامع الصحيح، ففي ذلك ينبغي الجدال، وحوله يدار النقاش.