انْدَم عَلَى ذُنوبِكَ
أيُّها العبد: تفكَّر في عُمرٍ مضى كثيره، وفي قدم ما يزال تعثيره، وفي هوى قد هوى أسيره، وفي قلب مشتت قد قل نظيره، وتفكر في صحيفة قد اسودَّت، وفي نفس كلَّما نصحت صدت، وفي ذنوب ما تحصى لو أنها عدت.
قال أبو الدَّرداء - رضي الله عنه -: "تفكر ساعة خير من قيام ليلة".
وقال أبو يوسف بن أسباط: "الدنيا لم تخلق لتنظر إليها، وإنما خلقت لتنظر بها إلى الآخرة".
وكان سفيان الثوري من شدة تفكيره يبول الدم.
وقال أبو بكر الكتاني: "روعة عند انتباه من غفلة، وانقطاع عن حظ نفس، وارتعاد من خوف قطيعة، أفضل من عبادة الثقلين".
وقال يحيى بن معاذ: "لو سمع الخلائق صوت النائحة على الدنيا في الغيب من ألسنة الفنا تساقطت القلوب منهم حزناً، ولو رأت القلوب بعين الإيمان نزهة الجنة لذابت النفوس خوفاً، ولو رأت القلوب بعين الإيمان نزهة الجنة لذابت النفوس خوفاً، ولو أدركت القلوب كنه محبة خالقها لتخلعت مفاصلها ولهاً، ولطارت الأرواح من أبدانها دهشاً، سبحان من أغفل الخليقة عن كنه هذه الأشياء، وألهاهم بالوصف عن حقائق هذه الأنباء، يا ذاهباً في شططه، يا واقفاً مع غلطه، يا معترضاً لعقوبة الأحد، ما سخطه؟ يا معرضاً عن الاعتبار سمعه، يا مطلقاً لسانه في غلطه، يا من لا يفرق بين صحيح القول وسقطه، أما له عبرة بقرطبة؟ أما هناك استدراك لفارطه، إلى متى على قبيح غطه؟ هلا عبَّأ متاعه في سقطه، ألا حذر من في يد طاهي، كلاَّ لو صحا لاتعظ وأثر فيه اللوم وازدجر، لكنه في غاية الغلظ، أفسدته المعاصي فلم يظهر الشيب، وانقرض لا يلتفت إلى من لام ولا من وعظ، سيندم على تضييع ما كان احتفظ، سيفر العلاج إذا زادت الكظظ، سيخرس لسان طال ما لفظ، من لم يبق من عمره إلا الأمل، وهو للوزر العظيم قد حمل وأثقل، سيعرض عليك من المعاصي مما دق وجل، تراعى الخلق وتنسى حقه عز وجل، قد سود صحيفته وملأها من قيح العمل، حملت عليه الأمانة فتغافل عنها وضلَّ، يدعى إلى الاستقامة، ولكما قوم ذل، لا يعرف ولا يقبل، قد حله رحلة، نحلة مناحلها من حل، قد غره مكر سوف، وأوثقه قيد لعلَّ، إلام تمنى النفس ما لا تناله؟ وتذكر عيشاً لم يعد متصرماً، وقد قالت السبعون للهرى: دعاني لشأني واذهبا حيث شئتما.
من كتاب "مواعظ ابن الجوزي" – رحمه الله.