مضمون الشبهة:
يشكك بعض الطاعنين في إجماع الأمة على صحة كتابي البخاري ومسلم، متسائلين: كيف كان هذا الإجماع؟ أكان بالطواف على جميع البقاع، أم بجمع علماء الأمة في صعيد واحد للحصول عليه؟!
متخذين من هذه الأسئلة دليلا على ادعائهم، رامين من وراء ذلك إلى الطعن في حجية الصحيحين، والتشكيك في قوة إسنادهما.
وجه إبطال الشبهة:
· الإجماع على صحة أحاديث الصحيحين، وتلقي الأمة لهما بالقبول، صحيح لا شك فيه، ومنعقد لا ريب في انعقاده، ولا يعتبر في الإجماع هنا إلا أهل العلم بالحديث دون غيرهم، ولا عبرة لخلاف من عداهم؛ لأنهم أهل الصناعة وخاصتها، وكلام بعض الحفاظ في بعض أحاديث الصحيحين لا يخرق هذا الإجماع؛ لكون الانتقاد بعيدا عن أصل الصحة، موجها لمدى الالتزام بشرطهما في بعض المواضع.
التفصيل:
لقد هيأ الله سبحانه وتعالى على مراحل التاريخ أعلاما، وضعوا ضوابط وقواعد تضبط الراوي والمروي، فجعلوا الأمر وكأنه أسوارا حديدية، لا يتجاوزها إلا ما كان مسندا، صحيحا غير معل، ولا شاذ، ثابت النسبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان من أعلام السنة المشهود لهم بالفضل والتقدم، ومن علماء الحديث وأئمة الدين البخاري ومسلم، فقد أجمع المتقدمون والمتأخرون على أن لهما دراية واسعة بنقد الروايات والأحاديث، وعلى معرفة تامة بعلل الحديث وأحوال الرجال.
وكلا هذين الإمامين الحافظين أخذ جملة من الأحاديث الصحيحة، وأفرد لها مصنفا خاصا بالصحيح المسند من حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – دون أن يستوعبا كل الصحيح.
وكانت هناك عناية تامة من الإمامين – البخاري و مسلم – في انتقاء الأحاديث التي أودعت في الكتابين، وفي وضع شروط خاصة وعالية في ضبط المتون والأسانيد؛ حتى لا يدون في الكتابين إلا ما كان صحيحا؛ ولهذا انتشر الكتابان باسم الصحيح “صحيح البخاري”، و”صحيح مسلم”، واشتهرا بالصحيحين.
وقد تلقت الأمة هذين الكتابين بالقبول، وحصل لهما من الإجماع ما لم يحصل لغيرهما من كتب الحديث[1].
وفيما يأتي ننقل غيضا من فيض، من كلام العلماء الفحول والأئمة العدول حول إجماع الأمة على صحة الصحيحين، وتلقيها لهما بالقبول؛ لنسمع بها آذانا صما، وأعينا عميا، ونرد بهذا الإجماع على بعض المتسلقين من المتأخرين، ومن الطاعنين الذين عدوا أنفسهم محققين، وهم واهمون، فالطعن على الصحيحين بشيء لم يتكلم به أحد من المتقدمين ضلال مبين، وبدعة عظيمة؛ لأن الباب واحد فمن ولجه ولج مغبة متلفتة؛ لإجماع الأمة على صحة هذين الكتابين، وتلقيها لهما بالقبول.
قال ابن الصلاح: أهل الحديث كثيرا ما يطلقون على ما أخرجه البخاري ومسلم جميعا “صحيح متفق عليه”، ويعنون به اتفاق البخاري ومسلم، لا اتفاق الأمة عليه، لكن اتفاق الأمة عليه لازم من ذلك وحاصل معه؛ لاتفاقها على تلقي ما اتفقا عليه بالقبول، وهذا القسم جميعه مقطوع بصحته، والعلم اليقيني النظري واقع به، خلافا لمن نفى ذلك محتجا بأنه لا يفيد في أصله إلا الظن[2].
قال السيوطي: ووافق ابن الصلاح جماعة من المتأخرين، مع كونه لم ينفرد بنقل الإجماع على التلقي، بل هو كلام إمام الحرمين “الجويني” أيضا، فإنه قال: بإجماع المسلمين على صحة كتابي الإمامين: البخاري ومسلم، وكذا هو في كلام ابن طاهر وغيره لا شك، كما قال عطاء: إن ما أجمعت عليه الأمة أقوى من الإسناد ونحوه[3].
ونحو ذلك قول ابن حجر: والخبر المحتف بالقرائن أنواع، منها ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما، مما لم يبلغ حد التواتر، فإنه احتفت به قرائن، منها: جلالتهما في هذا الشأن، وتقدمهما في تمييز الصحيح على غيرهما، وتلقي العلماء لكتابيهما بالقبول، وهذا التلقي وحده أقوى في إفادة العلم من مجرد كثرة الطرق القاصرة عن التواتر[4].
وقال ابن القيم رحمه الله (ت: 751هـ): اعلم أن جمهور أحاديث البخاري ومسلم من هذا الباب، فأما ما تلقاه أهل الحديث وعلماؤه بالقبول والتصديق، فهو محصل للعلم، مفيد لليقين، ولا عبرة بمن عداهم من المتكلمين والأصوليين، فإن الاعتبار في الإجماع على كل أمر من الأمور الدينية بأهل العلم به دون غيرهم، كما لم يعتبر في الإجماع على الأحكام الشرعية إلا العلماء بها، دون المتكلمين والنحاة والأطباء، وكذلك لا يعتبر في الإجماع على صدق الحديث وعدم صدقه إلا أهل العلم بالحديث وطرقه وعلله، وهم علماء الحديث العالمون بأحوال نبيهم، الضابطون لأقواله وأفعاله، المعتنون بها أشد من عناية المقلدين لأقوال متبوعهم.
فكما أن العلم ينقسم إلى عام وخاص، فيتواتر عند الخاصة ما لا يكون معلوما لغيرهم، فضلا عن أن يتواتر عندهم، فأهل الحديث لشدة عنايتهم بسنة نبيهم وضبطهم لأقواله، وأفعاله، وأحواله، يعلمون من ذلك علما لا يشكون فيه مما لا شعور لغيرهم به ألبتة[5].
وقال الحافظ أبو نصر الوايلي السجزي: “أجمع أهل العلم الفقهاء وغيرهم على أن رجلا لو حلف بالطلاق أن جميع ما في كتاب البخاري مما روي عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قد صح عنه ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – قاله لا شك فيه – أنه لا يحنث، والمرأة بحالها في حبالته، وكذلك ما ذكره أبو عبد الله الحميدي في كتابه “الجمع بين الصحيحين” من قوله: “لم نجد من الأئمة الماضين – رضي الله عنهم – أجمعين من أفصح لنا في جميع ما جمعه بالصحة إلا هذين الإمامين”[6].
وقال الإمام النووي: “اتفق العلماء رحمهم الله على أن أصح الكتب بعد القرآن الصحيحان: البخاري ومسلم وتلقتهما الأمة بالقبول”[7]. وقال في موضع آخر: “وتلقي الأمة بالقبول إنما أفادنا وجوب العمل بما فيهما، وهذا متفق عليه… وإنما يفترق الصحيحان، وغيرهما من الكتب في كون ما فيهما صحيحا لا يحتاج إلى النظر فيه، بل يجب العمل به مطلقا، وما كان في غيرهما لا يعمل به حتى ينظر، وتوجد فيه شروط الصحيح[8].
وقال الإمام الشوكاني: “واعلم أن ما كان من الأحاديث في “الصحيحين” أو في أحدهما جاز الاحتجاج به دون بحث؛ لأنهما التزما الصحة وتلقت ما فيها الأمة بالقبول”[9].
وقال أيضا: “واعلم أن ما كان من أحاديث هذا الكتاب في أحد الصحيحين، فقد أسفر فيه صبح الصحة لكل ذي عينين؛ لأنه قد قطع عرق النزاع ما صح من الإجماع، على تلقي جميع الطوائف الإسلامية لما فيهما بالقبول، وهذه رتبة فوق رتبة التصحيح عند جميع أهل المعقول والمنقول على أنهما قد جمعا في كتابيهما من أعلى أنواع الصحيح ما اقتدى به وبرجاله من تصدي بعدهما للتصحيح”[10].
ويقول أبو الحسن الندوي في مقدمة كتاب “لامع الدراري” وليس الاتفاق بين الأمة وعلمائها مجرد مصادفة، ولا عن تواطؤ ومؤامرة، وقد أعاذ الله هذه الأمة التي اختارها لحمل دينه وتبليغ رسالته أن تكون فريسة غفلة وغباوة، وأن تجتمع على الضلال، بل كان ذلك إلهاما من الله”[11].
وحكى أبو نصر القشيري عن القاضي أبي بكر الباقلاني أنه بين في كتاب “التقريب”: أن الأمة إذا اجتمعت – أو أجمع أقوام لا يجوز تواطؤهم على الكذب – كان ذلك دليلا على الصدق[12].
وقال أيضا إن إجماع الأمة معصوم عن الخطأ في الباطن، وإجماعهم على تصديق الخبر، كإجماعهم على وجوب العمل به.
ثم قال بعده: “وأصرح من رأيت كلامه في ذلك الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني، فإنه قال بعده: “أهل الصنعة مجموعون على أن الأخبار التي اشتمل عليها الصحيحان مقطوع بها عن صاحب الشرع”[13].
ويقول ابن الصلاح: “وهذه نكتة نفيسة نافعة، ومن فوائدها القول بأن ما انفرد به البخاري أو مسلم مندرج في قبيل ما يقطع بصحته؛ لتلقي الأمة كل واحد من كتابيهما بالقبول على الوجه الذي فصلناه من حالهما فيما سبق، سوى أحرف يسيرة تكلم عليها بعض أهل النقد من الحفاظ، كالدارقطني وغيره، وهي معروفة عند أهل هذا الشأن”[14].
وهذه الأقوال السابقة ترد على هذه الشبهة من أساسها، ومن ثم فلا حاجة لنا بجمع علماء الأمة في صعيد واحد للحصول على إجماعهم، أو الطواف على جميع البقاع.
ونحن لا ننكر أن بعض أحاديث الصحيحين كانت محل انتقاد من قبل بعض المحدثين والحفاظ كالدارقطني وغيره، ولكن ما هي طبيعة هذا الانتقاد؟ وهل يصح أن يكون هذا الانتقاد ذريعة للطعن في أحاديثهما جملة، وإهدار قيمتها العلمية والشرعية كما أراد المغرضون؟
لقد تعرض العلماء منذ أمد بعيد لهذه الانتقادات وأماطوا عنها اللثام، وبينوا أنها لا تقدح أبدا في أصل موضوع الكتابين؛ لأن النقد لم يكن من قبل الطعن فيها بالضعف وعدم الصحة، وإنما كان من قبل أنها لم تبلغ الدرجة العليا التي اشترطها صاحبا الصحيح، والتزمها كل واحد منهما في كتابه، كما يقول الإمام النووي رحمه الله: “قد استدرك جماعة على البخاري ومسلم أحاديث أخلا بشرطهما فيها ونزلت عن درجة ما التزماه”[15].
وأما صحة الحديث في نفسه فلم يخالف أحد فيه، ومرد ذلك إلى اختلاف وجهات النظر في التوثيق والتجريح، شأنها شأن المسائل الاجتهادية الأخرى، وليس بالضرورة أن يكون الصواب فيها مع الناقد، بل قد يكون الصواب فيها مع صاحب الصحيح، يظهر ذلك من خلال سبر الأحاديث المتكلم فيها، ونقدها على القواعد الدقيقة التي سار عليها أئمة العلم.
“وقد دفع أكابر الأئمة من تعرض للكلام على شيء مما فيهما، وردوه أبلغ رد، وبينوا صحته أكمل بيان، فكل رواتهما قد جاوزوا القنطرة، وارتفع عنهم القيل والقال، وصاروا أكبر من أن يتكلم فيهم بكلام، أو يتناولهم طعن طاعن، أو توهين موهن[16].
قال أحمد شاكر: “فالحق الذي لا مرية فيه عند أهل العلم بالحديث من المحققين وممن اهتدى بهديهم، وتبعهم على بصيرة من الأمر – أن أحاديث الصحيحين صحيحة كلها، ليس في واحد منها مطعن أو ضعف، وإنما انتقد الدارقطني وغيره من الحفاظ بعض الأحاديث، على معنى أن ما انتقدوه لم يبلغ في الصحة الدرجة العليا التي التزمها كل واحد منهما في كتابه، وأما صحة الحديث في نفسه فلم يخالف أحد فيها”[17].
وقد كفانا أئمة الإسلام وحفاظ الأمة الذين اشتغلوا بالصحيحين، وأفنوا فيهما أعمارهم بحثا وشرحا، وتدريسا، وتتبعا، مؤنة الرد على الشبهة ودحضها.
فلا شك أن هؤلاء العلماء – وهم أهل هذا الفن – أدرى بما أجمعت عليه الأمة، ثم إن إجماع الأمة على صحة كتابي البخاري ومسلم اشتهر بين العلماء قاطبة.
قال الشيخ حافظ ثناء الله الزاهدي بعد نقل كلام العلماء: وأهم ما وصلنا إليه من النتائج بعد البحث هي:
1. إن القائلين بإفادة أحاديث “الصحيحين” القطع جمع لا يستهان بهم، ومن بينهم الحفاظ المحدثون، والفقهاء المحققون.
2. أدلة القائلين بإفادتها القطع في غاية من الاعتبار، من حيث الأصول وإطراد العادة.
3. أدلة من قال بظنيتها، بعضها في غاية من السقوط والوهن، وبعضها قضايا جامدة ضيقة النطاق، تلائم مناهج أهل الكلام أكثر من أن توافق طبيعة مقتضيات الشرع والعرف عند علماء الإسلام.
4. إن الأحاديث المفيدة للقطع كثيرة، من غير أن يتكلف في إطلاق التواتر عليها وتحقيقه فيها.
5. كل ما أفاد العلم فهو متواتر، سواء حصل العلم بكثرة عدد المخبرين، أو لصفة ديانتهم وأمانتهم، أو لضبطهم وإتقانهم.
6. ما انتقده بعض الحفاظ من أحاديث “الصحيحين” لا يلزم إخراجه من القطعية لمجرد هذا النقد؛ لكونه متوجها إلى الأسانيد دون المتون، ولكونه مخالفة ضئيلة غير قادحة في انعقاد الإجماع عند طائفة من الأصوليين.
7. أحاديث “الصحيحين” أقوى صحة، وأعلى رتبة من الخبر المشهور[18].
يتبع: