قال ابن الجوزي - رحمه الله تعالى -:
تَفَكَّر في يَومِ القِيَامَةِ
إخواني تفكروا في الحشر والمعاد، وتذكروا حين تقوم الأشهاد: إن في القيامة لحسرات، وإن في الحشر لزفرات، وإن عند الصراط لعثرات، وإن عند الميزان لعبرات، وإن الظلم يومئذ ظلمات، والكتب تحوى حتى النظرات، وإن الحسرة العظمى عند السيئات، فريق في الجنة يرتقون في الدرجات، وفريق في السعير يهبطون الدركات، وما بينك وبين هذا إلاَّ أن يقال: فلان مات، وتقول: رَبِّ ارجعوني، فيقال: فات، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعاً ويلجمهم حتى يبلغ آذانهم))، وأخرجا جميعًا من حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في حديث: ((ثم يؤتى بالجسر فيجعل بين ظهراني جهنم))، فقيل: "يا رسول الله، وما الجسر؟"، قال: ((مدحة ومزلة، عليه خطاطيف وكَلاليب وحسك، المؤمن يعبر عليه كالطرف وكالبرق، وكالريح، وكأجاويد الخيل، فناج مسلم، وناج مخدوش، حتى يمرّ آخرهم يُسحب سحبًا))، لله درّ أقوام أطار ذكر النار عنهم النوم، وطال اشتياقهم إلى الجنان الصوم، فنحلت أجسادهم، وتغيرت ألوانهم، ولم يقبلوا على سماع العذل في حالهم واللوم، دافعوا أنفسهم عن شهوات الدنيا بغد واليوم، دخلوا أسواق الدنيا فما تعرضوا لشراء ولا سوم، تركوا الخوض في بحارها والعوم، ما وقفوا بالإِشمام والروم، جدوا في الطاعة بالصلاة والصوم، هل عندكم من صفاتهم شيء يا قوم؟ قالت أُم الربيع أُم حيثم لولدها: "يا بني أَلا تنام؟"، قال: "يا أُماه، من جَنَّ عليه الليل وهو يخاف الثبات حق له أن لا ينام"، فلما رأت ما يلقى من السهر والبكاء، قالت: "يا بني لعلك قتلت قتيلاً؟"، قال: "نعم"، قالت: "ومن هذا القتيل؛ حتى نسأل أهله فيغفرون، فوالله لو يعلمون ما تلقى من السهر والبكاء لرحموك"، فقال: "يا والدتي، هي نفسي".
قيل لزيد بن مزيد: ما لنا لم نزل نراك باكيًا، وجلاً خائفًا، فقال: إن الله توعدني إن أنا عصيته أن يسجنني في النار، والله لو لم يتوعدني أن يسجنني إلا في الحمام لبكيت حتى لا تجف لي عبرة.
وكان آمد الشامي يبكي وينتحب في المسجد حتى يعلو صوته، وتسيل دموعه على الحصى، فأرسل إليه الأمير: إنك تفسد على المصلين صلاتهم بكثرة بكائك، وارتفاع صوتك، ولو أمسكت قليلا ً، فبكى ثم قال: إن حزن يوم القيامة أورثني دموعاً غزارًا فأنا أستريح إلى ذرها:
يا عاذلَ المُشتاق دَعهُ فَإِنَّه = يطوى عَلى الزَّفَرات غير حشاكا
لَو كانَ قَلبُكَ قَلبه ما لمتُهُ = حاشاك ممَّا عِندَهُ حاشاكا
وعوتب عطاء السلمى في كثرة البكاء، فقال: "إني إذا ذكرت أهل النار وما يُنزلُ بهم من عذاب الله تعالى، مثلت نفسي بينهم فكيف لنفس تغلّ يدها وتسحب إلى النار ولا تبكي؟!".
وقيل لبعضهم: ارفق بنفسك، فقال: الرفق أطلب.
وقال أسلم بن عبدالملك: صحبت رجلاً شهرين، وما رأيته نائمًا بليل ولا نهار، فقلت: "ما لك لا تنام؟!!"، قال: إن عجائب القرآن أطرن نومي، ما أخرج من أُعجوبة إلا وقعت في أخرى، كثر فيك اللوم فأين سمعي، وهم قلبي واللوم عليك منجد ومتهم؟، قال: أسهرت والعيون الساهرات نوم، وليس من جسمك إلا جلدة وأعظم، وما عليهم سهري ولا رقادي لهم، وهل سمان الحب إلّا سهر وسقم، خذ أنت في شأنك يا دمعي وخل عنهم.
بادر بالأعمال الصالحة
طوبَى لمن بادر عُمره القصير، فعمَّر به دار المصير، وتهيأ لحساب الناقد البصير قبل فوات القدرة وإعراض النصير، قال - عليه الصلاة والسلام -: ((بادروا بالأَعمال سبعًا، هل تنتظرون إِلّا فقراً مُنسياً؟ أو غني مطغياً، أو مرضاً مفسداً، أو موتاً مجهزاً، أو هرماً مُفنداً، أو الدجال، فشر غائب يُنتظر، أو الساعة، فالساعة أدهى وأمر)).
كان الحسن يقول: عجبت لأقوام أُمروا بالزاد، ونودي فيهم بالرحيل، وجلس أولهم على آخرهم وهم يلعبون، وكان يقول: يا بن آدم: "السكين تشحذ، والتنور يسجر، والكبش يعتلف".
وكان الشافعي - رضي الله عنه - يقرأ في كل شهر ثلاثين ختمة، وفي كل شهر رمضان ستين ختمة سوى ما يقرأ في الصلوات، واعلم أن الراحة لا تنال بالراحة، ومعالي الأُمور لا تنال بالفتور، ومن زرع حصد، ومن جد وجد، لله در أقوام شغلهم تحصيل زادهم، عن أهاليهم وأولادهم، ومال بهم ذكر المال عن المال في معادهم، وصاحت بهم الدنيا فما أجابوا شغلاً بمرادهم، وتوسدوا أحزانهم بدلاً عن وسادهم، واتخذوا الليل مسلكاً لجهادهم واجتهادهم، وحرسوا جوارحهم من النار عن غيهم وفسادهم، فيا طالب الهوى جز بناديهم ونادهم:
أَحيَوا فُؤَادِي ولَكِنَّهم = علَى صَيحَة من البين ماتُوا جميعاً
حرمُوا رَاحة النَّوم أَجفَانهم = وَلَفُّوا علَى الزفرات الضُّلوعَا
طُول السَّواعد شُمُّ الأُنوف = فطابُوا أُصُولاً وطَابُوا فُرُوعا
أَقبلت قلوبهم تراعى حق الحق فذهلت بذلك عن مناجاة الخلق، فالأبدان بين أهل الدنيا تسعى، والقُلوب في رياض الملكوت ترعى، نازلهم الخوف فصاروا والهين، وناجاهم الفكر فعادوا خائفين، وجَنَّ عليهم الليل فباتوا ساهرين، وناداهم منادى الصَّلاح، حىّ على الفلاح فقاموا متهجدين، وهبت عليهم ريح الأَسحار فتيقظوا مستغفرين، وقطعوا بند المجاهدة فأصبحوا واصلين، فلمَّا رجعوا وقت الفجر بالأَجر بادى الهجر يا خيبة النائمين.
من كتاب "مواعظ ابن الجوزي"