والأضحية هي: ما يُذبح في أيام النحر تقربًا إلى الله تعالى؛ وسميت بذلك؛ لأنها تُذبح ضحى، بعد صلاة العيد([1]).
قال ابن قدامة رحمه الله: الْأَصْلُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْأُضْحِيَّةِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ:
أَمَّا الْكِتَابُ: فَقَوْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2].
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَمَا رَوَى أَنَسٌ، قَالَ: ضَحَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ، وَسَمَّى، وَكَبَّرَ، وَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا.
وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْأُضْحِيَّةِ([2]).
فقد أجمع المسمون على مشروعية الأضحية، واختلفوا في حكمها على قولين:
القول الأول: أنَّ الأضحية واجبة، وهو رواية عن أحمد([3])؛ واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2].
قالوا: هذا أمر، والأمر للوجوب.
وَعَنْ جُنْدَبِ بْنِ سُفْيَانَ البَجَلِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: ضَحَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُضْحِيَّةً ذَاتَ يَوْمٍ، فَإِذَا أُنَاسٌ قَدْ ذَبَحُوا ضَحَايَاهُمْ قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، رَآهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ قَدْ ذَبَحُوا قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَقَالَ: «مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلْيَذْبَحْ مَكَانَهَا أُخْرَى، وَمَنْ كَانَ لَمْ يَذْبَحْ حَتَّى صَلَّيْنَا فَلْيَذْبَحْ عَلَى اسْمِ اللَّهِ»([4]).
قالوا: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإعادة الذبح، ولولا أنه واجب لَمَا أمر به.
وَعَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنهما، قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَقَالَ: «مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا، وَنَسَكَ نُسْكَنَا، فَقَدْ أَصَابَ النُّسُكَ، وَمَنْ نَسَكَ قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَتِلْكَ شَاةُ لَحْمٍ»، فَقَامَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ لَقَدْ نَسَكْتُ قَبْلَ أَنْ أَخْرُجَ إِلَى الصَّلَاةِ، وَعَرَفْتُ أَنَّ اليَوْمَ يَوْمُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ، فَتَعَجَّلْتُ، وَأَكَلْتُ، وَأَطْعَمْتُ أَهْلِي، وَجِيرَانِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تِلْكَ شَاةُ لَحْمٍ» قَالَ: فَإِنَّ عِنْدِي عَنَاقَ جَذَعَةٍ هِيَ خَيْرٌ مِنْ شَاتَيْ لَحْمٍ، فَهَلْ تَجْزِي عَنِّي؟ قَالَ: «نَعَمْ، وَلَنْ تَجْزِيَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ»([5]).
قالوا: معناه: تقضي عنك؛ لأنه يقال: جزى عني كذا؛ بمعنى قضى عني؛ والقضاء لا يكون إلا عن واجب، فقد اقتضى ذلك الوجوب([6]).
وممن رجح القول بالوجوب شيخ الإسلام ابن تيمية، والشوكاني، وابن عثيمين رحمهم الله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((وَأَمَّا الْأُضْحِيَّةُ فَالْأَظْهَرُ وُجُوبُهَا أَيْضًا؛ فَإِنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ، وَهِيَ النُّسُكُ الْعَامُّ فِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ، وَالنُّسُكُ مَقْرُونٌ بِالصَّلَاةِ فِي قَوْلِهِ: {إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}؛ فَأَمَرَ بِالنَّحْرِ كَمَا أَمَرَ بِالصَّلَاةِ))اه ـ([7]).
وقال الشوكاني رحمه الله: ((الْحَقُّ مَا قَالَهُ الْأَقَلُّونَ مِنْ كَوْنِهَا وَاجِبَةٌ، وَلَكِنْ هَذَا الْوُجُوبُ مُقَيَّدٌ بِالسَّعَةِ فَمَنْ لَا سَعَةَ لَهُ لَا أُضْحِيَّةَ عَلَيْهِ))([8]).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ((فَالْقَوْلُ بِالْوُجُوبِ أَظْهَرُ مِنَ الْقَوْلِ بِعَدَمِ الْوُجُوبِ، لَكِنْ بِشَرْطِ الْقُدْرَةِ))([9]).
القول الثاني: وهو المشهور في المذهب، وهو قول الجمهور؛ أنها سُنَّة مؤكدة؛ واستدلوا على ذلك بحديث أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا دَخَلَتِ الْعَشْرُ، وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ، فَلَا يَمَسَّ مِنْ شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ شَيْئًا»([10]).
قالوا: تفويض الأمر إلى الإرادة يدل على عدم الوجوب.
قال الشافعي رحمه الله: ((وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الضَّحِيَّةَ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ» وَلَوْ كَانَتِ الضَّحِيَّةُ وَاجِبَةٌ أَشْبَهَ أَنْ يَقُولَ: فَلَا يَمَسَّ مِنْ شَعْرِهِ حَتَّى يُضَحِّيَ))اهـ([11]).
وقال الشوكاني رحمه الله: ((وَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ فِي الْوُجُوبِ، وَلَمْ يَأْتِ مَنْ قَالَ بِعَدَمِ الْوُجُوبِ بِمَا يَصْلُحُ لِلصَّرْفِ كَمَا عَرَفْت؛ نَعَمْ حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ الْآتِي قَرِيبًا رُبَّمَا كَانَ صَالِحًا لِلصَّرْفِ لِقَوْلِهِ: (وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ)؛ لِأَنَّ التَّفْوِيضَ إلَى الْإِرَادَةِ يُشْعِرُ بِعَدَمِ الْوُجُوبِ))اهـ([12]).
واستدلوا أيضًا بأنها سُنَّة وليست واجبة بحديث عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِكَبْشٍ أَقْرَنَ يَطَأُ فِي سَوَادٍ، وَيَبْرُكُ فِي سَوَادٍ، وَيَنْظُرُ فِي سَوَادٍ، فَأُتِيَ بِهِ لِيُضَحِّيَ بِهِ، فَقَالَ لَهَا: «يَا عَائِشَةُ، هَلُمِّي الْمُدْيَةَ»، ثُمَّ قَالَ: «اشْحَذِيهَا بِحَجَرٍ»، فَفَعَلَتْ: ثُمَّ أَخَذَهَا، وَأَخَذَ الْكَبْشَ فَأَضْجَعَهُ، ثُمَّ ذَبَحَهُ، ثُمَّ قَالَ: «بِاسْمِ اللهِ، اللهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ مُحَمَّدٍ، وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَمِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ ضَحَّى بِهِ»([13]).
قالوا: فقد ضحى النبي صلى الله عليه وسلم عن كل مَنْ لَمْ يضح مِنْ أُمَّتِهِ، وأضحيته صلى الله عليه وسلم تجزئ عنهم.
قلت: والقول بعدم الوجوب هو الأقرب للصواب – والله أعلم – خاصة أننا لو قلنا بأنَّ الأصل في الأمر للوجوب، فإنَّ حديث أم سلمة رضي الله عنها صارف لهذا الأمر مِنَ الوجوب إلى الاستحباب.
ثم إنه قد أُجيب على أدلة القائلين بالوجوب بالآتي:
أما قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2]، فقالوا: المقصود: صلِّ الصلوات المعهودة، وانحر الهدايا الواجبة([14]).
قلت: وقد يكون الأمر هنا متعلقًا بصرف العبادة لله تعالى دون غيره، وليس الأمر متعلقًا بذات العبادة.
وأما الحديث الذي فيه الأمر بإعادة الأضحية لِمَنْ ضحى قبل الصلاة؛ فقد قال الشافعي رحمه الله: ((فَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا أَمَرَهُ أَنْ يَعُودَ بِضَحِيَّتِهِ أَنَّ الضَّحِيَّةَ وَاجِبَةٌ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ أَمَرَهُ أَنْ يَعُودَ إِنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ؛ لِأَنَّ الضَّحِيَّةَ قَبْلَ الْوَقْتِ لَيْسَتْ بِضَحِيَّةٍ تُجْزِئُهُ، فَلَا يَكُونُ فِي عِدَادِ مَنْ ضَحَّى))([15]).
وأما حديث البراء رضي الله عنه الذي فيه: «وَلَنْ تَجْزِيَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ»، فقد قال القرطبي رحمه الله: ((وأما الاستدلال بقوله صلى الله عليه وسلم: «اذبح مكانها أخرى»، فقد عضدوه بما جاء في بعض طرق هذا الحديث، من قوله: «أعد نسكًا» ، وقوله: «ضحِّ بها - يعني: الجذعة من المعز - ولا تجزي عن أحد بعدك»، ولا حجَّة في شيء من ذلك واضحة؛ لأنَّ المقصود بيان كيفية مشروعية الأضحية لمن أراد أن يفعلها، أو من التزمها فأوقعها على غير الوجه المشروع غلطًا، أو جهلًا، فبيَّن له النبي صلى الله عليه وسلم وجه تدارك ما فرط فيه، وهذا هو المعني بقوله: «لا تجزي»؛ أي: لا يحصل لك مقصود القربة، ولا الثواب، وهذا كما يقال في صلاة النفل: لا تجزي إلا بطهارة، وستر عورة؛ أي: لا تصح في نفسها؛ إذ لا يحصل مقصود القربة إلا بتمام شروطها، وهذا واضح جدًّا))اهـ([16]).
[1])) ((الشرح الممتع)) (7/ 421).
[2])) ((المغني)) (9/ 435)، باختصار.
[3])) ((الإنصاف)) (4/ 105).
[4])) متفق عليه: أخرجه البخاري (5500)، ومسلم (1960).
[5])) متفق عليه: أخرجه البخاري (983)، ومسلم (1961).
[6])) ((أحكام القرآن)) للجصاص (5/ 87).
[7])) ((مجموع الفتاوى)) (23/ 162).
[8])) ((السيل الجرار)) (716).
[9])) ((الشرح الممتع)) (7/ 422).
[10])) أخرجه مسلم (1977).
[11])) ((معرفة السنن والآثار)) (14/ 14).
[12])) ((نيل الأوطار)) (5/ 132).
[13])) أخرجه مسلم (1967).
[14])) ((المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم)) (17/ 54).
[15])) ((معرفة السنن والآثار)) (14/ 14).
[16])) ((المفهم)) (17/ 56).