إن أمة المسلمين تمُرُّ بفتنٍ شديدة الخطر، عظيمة الضرر. مِحنٌ تمُوج، وبلايا ترُوج، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ألا وإنه واجبٌ علينا جميعًا أن نتعامَلَ مع هذه المصائب بمُنطلق سُنن الله – جل وعلا -، التي لا تتبدَّل ولا تتغيَّر؛ قال – جل وعلا -: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) [الرعد: 11]، وقال – سبحانه -:
(ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) [الأنفال: 53].
ما أعظمَه من توجيهٍ يُبيِّن سنةَ الله – جل وعلا – في خلقه، ويُوضِّح أسبابَ النجاة من الأخطار، وعوامِل الوقايةِ من الأضرار. إنه المنهجُ الربَّانيُّ الذي يرسُمُ للأمة العلاجَ الواقِيَ لرفع العقوبات، والدواءَ الشافِي لدفع البليَّات، والسببَ الأوحدَ لحفظِ نعمة الأمن لجميع المخلوقات.
من الأصول القطعيَّة: أن الذنوب والمعاصِي سببُ حلول المصائِب، وفنون النِّقَم، ووقوع النَّكبات لجميع الأُمم. وأن بالطاعة والتوبة تحصُلُ جميعُ النِّعم، يقول ربُّنا – جل وعلا -:
(فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَٰذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ) [قريش: 3، 4].
أعظمُ أسباب دفع العذاب قبل وقوعه، ورفعه بعد حُلوله: التضرُّع إلى الله – جل وعلا – في كل وقتٍ وحين، والافتِقارُ إليه – سبحانه -، والانكِسارُ إليه لاسيَّما عند البلاء والإحَن، واشتِداد المِحَن والفِتَن، يقول ربُّنا – جل وعلا -:
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) [الأنعام: 42]، ويقول – عزَّ شأنُه -: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ) [الأعراف: 94].
كيف لا نتضرَّع إلى الله – جل وعلا – عند حُلول المِحَن، وربُّنا هو القادرُ على رفع كل بلوَى؟!
(أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ) [النمل: 62].
كيف لا نلتجِئُ إليه – سبحانه – عند الضرَّاء والبأساء، وهو كاشِفُ كل ضرَّاء؟!
( قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ) [الأنعام: 63، 64].
إن الالتِجاء إلى الله – جل وعلا -، والتضرُّع إليه ظاهرًا وباطنًا، قلبًا وقالَبًا، هو منهجُ الأنبياء – عليهم أفضل الصلاة والتسليم -، وهو منهجُ عباد الله الصالِحين.
فلا غرْوَ، فكلنا يعرفُ في كتاب الله – جل وعلا – قصةَ أيوب، وقصة يونس – عليهما أفضل الصلاة والتسليم -، ورسولُنا – صلى الله عليه وسلم – كان أعظم المُتضرِّعين، وأفضل المُتقرِّبين، يظلُّ ليلةَ بدرٍ داعيًا مُتضرِّعًا، مُنكسِرًا إلى خالقِه – جل وعلا -. وهكذا هو في كل حالٍ من أحواله.
عند أحمد والترمذي بسندٍ حسن: أنه – صلى الله عليه وسلم – قال: «عرَضَ ربي عليَّ ليجعلَ لي بَطحَاء مكة ذهبًا. فقلتُ: لا يا ربي، ولكن أشبعُ يومًا وأجوعُ يومًا، فإذا جعتُ تضرَّعتُ إليك وذكرتُك، وإذا شبِعتُ ذكرتُك وحمِدتُك».
ذكر ابن عبد الهادي – رحمه الله – أن شيخَ الإسلام ابن تيمية قال لأمير من أمراء الشام: “يا فُلان! أوقِفني موقف الموت”، قال الأميرُ فسُقتُه إلى مُقابَلة العدو، وهم مُنحدِرون كالسَّيل تلُوح أسلحتُهم من تحت الغُبار المُنعقِد عليهم. ثم قلتُ له: “يا سيدي! هذا موقف الموت، وهذا العدو قد أقبلَ تحت هذه الغبرة المُنعقِدة، فدُونك وما تُريد”.
قال: فرفع ابن تيمية طرفَه إلى السماء، وأشخصَ بصرَه وحرَّك شفتَيه طويلاً، ثم انبعَثَ وأقدمَ على القتال. قال الأمير: “أما أنا فخُيِّل إليَّ أنه دعا عليهم، وأن دعاءَه استُجيبَ منه في تلك الساعة”، قال: “ثم حالَ بيننا القتال والالتِحام، وما عُدتُّ رأيتُه، حتى فتحَ الله ونصَر، وانحازَ التتارُ إلى جبلٍ صغير، عصمُوا فيه أنفسَهم من سيوف المسلمين تلك الساعة”.
مما يُنذِرُ بالخطر: أن يمُرَّ المسلمون بالخُطوب والكوارِث، فلا يستكِينُون لرب العالمين ولا يَستجِيبُون، ولا بطاعته يعملون؛ بل في المعاصِي مُنهمِكون، وعن شرع الله مُعرِضون، فربُّنا – جل وعلا – يقول فيمن هذه حالُهم:
(فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام: 43].
حينئذٍ كانت العاقبةُ وخيمةً والمآلُ سيئًا، (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ) [الأنعام: 44]؛ أي: فتَحنا عليهم من الأرزاق والخيرات والمتاع المُتدفِّق، بلا حواجِز ولا قيود، استِدراجًا لهم.
حينئذٍ قال الله:
(حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا) [الأنعام: 44]؛ أي: غمرَتهم تلك الخيرات بعد البأساء والضرَّاء، وفرِحوا بذلك بلا تضرُّعٍ لله – جل وعلا -، ولا شُكرٍ، ولا خشيةٍ له ولا تقوَى؛ بل انحصَرَت اهتماماتُهم في اللهو واللعب والاستِسلام للشهوات المُحرَّمة، وانهمَكُوا في أنواع الفساد المُختلِفة.
حينئذٍ تأتي السنَّةُ الإلهية، وهي التي أخبرَ الله بها في قوله:
(حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام: 44، 45].
لأنهم أعرضُوا عن التضرُّع إلى الله – جل وعلا – بعد حُلول البأساء، ولم تعُد النعمُ تُشكَر، ولا الكُروب تزجُر، ولا حُسن البيان يُرقِّق. حينئذٍ تأتي سُنَّةُ الله – جل وعلا -.
نعم، وإن كانت الأمةُ المحمديةُ أمةٌ مرحومة، لا تُعذَّبُ بالاستِئصال الكامِل كالأُمم السابقة، إلا أنها تُعاقَب حينما تُعرِضُ عن هذه السنَّة الإلهية، تُعاقَبُ بما يحصُلُ من الشقاء والعناء والتفرُّق والاختِلاف، حتى يكون بعضُهم يقتُلُ بعضًا، ويسبِي بعضُهم بعضًا، كما أخبرَ النبي – صلى الله عليه وسلم – في كثيرٍ من الأحاديث.
إن الواجب على الحُكَّام في مُؤتمراتهم، والواجب على الإعلاميين في إعلامهم، والواجب على المُحلِّلين في تحليلاتهم للواقع أن يصدُروا عن هذه السنَّة الإلهية، وألا ينظُروا إلى الأمور المادية، إنما ينظُروا إلى سُنَّة الله – جل وعلا – التي سطَّرها في كتابه، فهي التي فيها النجاةُ والسلامةُ والفوزُ لهذه الأمة دُنيًا وأخرى.
الواجبُ على أهل الإسلام: الاتِّحادُ والتعاوُن، الاتِّحادُ على الحقِّ، والتعاوُن على دَحر الباطِل، وأن يتعاوَنوا على ردِّ المكائِد التي تُحاكُ لبلاد المُسلمين، تهدُفُ لشقِّ وحدة الصفِّ، والكيد للمُسلمين في عقائِدهم ودينِهم ومصالِحهم.
على المُسلمين جميعًا في مثلِ هذه الظُّروف أن يقِفُوا صفًّا واحدًا لكشف دسائِس الأعداء في الإفساد والتدمير، ودحضِها وإبطالِها وردِّها، الله – جل وعلا – يقول:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ) [النساء: 71].
على المسلمين أن يعلَموا أن بلاد الحرمين بلادُ أهل الإسلام جميعًا، فليتكاتَفُوا على الحِفاظ على لُحمتها، وجمع وحدتها، وعلى أمنها واستِقرارها، وأن يكون ذلك هو الخطُّ الأحمر لجميع المُسلمين.
الواجبُ على المسلمين جميعًا: الحَذَر من الشائعات، التي هي سبيلُ المُنافقين والكفار في تفتيتِ الصفِّ الإسلاميِّ إبَّان عصر النبوَّة. فكيف بهذا العصر؟!
إن الشائِعات مسلَكٌ مذموم، ومنهَجٌ يسلُكُه الأعداءُ والمُتربِّصون، لحصول تحصيل الهزيمة المعنوية في قلوب المُؤمنين، والوقوع في الفتنة والأمور المشينة للتأثير على المعنويات والعزائِم.
إن الواجب على أهل بلاد الحرمين وهم تُوجَّه إليهم سِهامُ الأعداء المُتعدِّدة أن يلتَفُّوا مع قائِدِهم خادم الحرمين الشريفين، وأن يحذَروا الاختلافَ والفوضويَّة، وأن يصدُروا عن علمائِهم الربَّانيين، وأن يكون كل فردٍ جُنديًّا يحفظُ الله به الأمنَ والرخاءَ والاستِقرار مما هو من المقاصِد الضرورية التي يجبُ مُراعاتُها وحِفظُها والدفاعُ عنها، خاصَّةً وقت الشدائِد والأزمات.
اللهم احفَظ بلادَنا وبلادَ المسلمين، اللهم احفَظ بلادَنا وبلادَ المسلمين، اللهم احفَظ بلادَنا وبلادَ المسلمين.
—————–