«... ولقد كان مِن مُقتضى كون الرجل محدِّثًا : أن يكونَ سلفيّ العقيدة ، وقّافًا عند حدود الكتاب والسنَّة، يرى ما سواهما من وسواس الشياطين.
وأن يكونَ مستقلًّا في الاستدلال لما يُؤخذ ولما يُترك من مسائل الدين.
وقد تعالَت هِمَمُ المحدّثين عن تقليد الأئمة المجتهدين ؛ فكيف بالمبتدعة الدجّالين؟!
وعُرفوا بالوقوف عند الآثارِ ، والعملِ بها، لا يَعْدونها إلى قول غير المعصوم ؛ إلا في الاجتهاديات المَحْضَة التي لا نَصّ فيها.
ولكنَّ المعروفَ عن هذا المحدّث [عبد الحي الكَتَّاني] أنه قضى عمرَه في نَصر الطُّرُقيّة ، وضلالات الطُّرُقيِّين ومُحْدَثاتهم –بالقول، والفعل، والسكوت-، وأنه خصمٌ لَدُود للسلفيِّين، وحربٌ عَوانٌ على السلفيَّة!
وهل يُرْجَى ممّن نشأ في أحضان الطُّرُقيّة - وفتح عينيه على ما فيها من مالٍ ، وجاهٍ ، وشهواتٍ مُيَسَّرةٍ ، ومخايلَ مِن المُلْك- أن يكون سلفيًّا -ولو سلسل الدنيا -كلَّها- بمُسلسلاته-؟!
إن السلفية نشأةٌ ، وارتياضٌ ، ودراسةٌ:
* فالنشأة: أن يَنشأ في بيئةٍ - أو بيتٍ- كلُّ ما فيها يجري على السُّنّة –عملًا ؛ لا قولًا-.
* والدراسة: أن يَدْرُسَ من القرآنِ والحديثِ الأصولَ الاعتقادية، ومن السيرةِ النبويةِ الجوانبَ الأخلاقيَّة والنفسيَّة.
ثم:
* يُرَوِّض نفسَه -بعد ذلك- على الهَدْيِ الُمعتصَر من تلك
السيرة ، وممّن جرى على صِراطها من السلف.
و(عبد الحي) محدّثٌ بمعنى آخرَ! فهو (راوية!) -بكل ما لهذه الكلمة مِن معنى-؛ تتصلُ أسانيدُه بالجِنّ ، والحِنّ ، ورَتَن الهندي -وبكل مَن هبّ ودبّ-!
وفيه -مِن صفات المحدِّثين-: أنه جاب الآفاق، ولقي الرجال، واستوعب ما عندهم من الإجازات بالروايات!
ثم غلبت عليه نزعةُ التجديد ؛ فأتى مِن صفات الُمحْدِثين -بالتخفيف- بكل عجيبة! فهو مُحْدِّثٌ مُحْدِثٌ -في آنٍ واحدٍ-!
وهمُّه -وهمُّ أمثاله من مجانين (الرواية)-: حفظُ الأسانيد! وتحصيلُ الإجازات! ومكاتبةُ علماء الهند والسند –للاستجازة-!!
وأن يرحلَ أحدُهم ، فيَلْقى رجلًا من أهل (الرواية) -في مثل فَوَاق الحالب-، فيقول له: أجزتُك بكل مروياتي ومؤلفاتي-... إلى آخر الكليشي -!
فإذا عَجَزَ عن الرحلة : كتب مُستجيزًا ، فيأتيه علمُ الحديث -بل علومُ الدين والدنيا –كلُّها!- في بطاقة- !!
أهذا هو العلمُ؟!
لا والله.
وإنما هو شيءٌ اسمُه : جنونُ (الرواية)!
ولقد أصاب كاتبَ هذه السطورِ مَسٌّ من هذا الجنونِ في أيَّام الحداثة!
ولم أتبيّن منشأَه في نفسي إلا بعد أنْ عافاني الله منه ، وتاب عليّ.
ومنشأُه هو الإدلالُ بقوّة الحافظة.
وكان مِن آثار ذلك المرضِ : أنني فُتِنتُ بحفظ أنساب العرب، فكان لا يُرْضيني عن نفسي إلا أن أحفظ أنساب مُضَر وربيعةَ -بجماهرها ومَجامعها-، وأن أَنْسُبَ جماهرَ حِمْيَر وأخواتِها، وأن أعرف كل ما أُثِرَ عن دَغْفَل في أنساب قريش، وما اختلف فيه الواقديُّ ، ومحمد بن السائب الكَلْبيّ.
ثم فُتِنْتُ بحفظ الأسانيد، وكدت ألتقي بعبد الحيّ في مستشفى هذا الصنفِ من المجانين بـ (الرواية)!!
لولا أن الله سلّم..
ولولا أنَّ الفطرةَ ألهمتني: أن العلمَ ما فُهِم وهُضِم، لا ما رُوي وطُوي!
زرتُ –يومًا- الشيخَ أحمدَ البَرْزَنْجِيَّ- رحمه الله- في داره -بالمدينة المنوّرة- وهو ضريرٌ-.
وقد نُمِي إليه شيءٌ من حفظي ، ولُزومي لدور الكتب، فقال لي -بعد خوض في الحديث-: أجزتُك بكل مرويّاتي -من مقروء، ومسموع –بشرطه- ... –إلخ-.
فأُلْقِيَ في رُوعي ما جرى على لساني ، وقلتُ له: إنك لم تعطني علمًا بهذه الجمل، وأَحْرِ أن لا يكونَ لي ولا لك أجرٌ ؛ لأنك لم تَتْعب في التلقين ، وأنا لم أَتْعَب في التلقّي!
فتبسّم ضاحكًا مِن قولي ، ولم يُنكر.
وكان ذلك بَدْءَ شفائي مِن هذا المرض، وإنْ بَقِيَتْ في النفس منه عقابيلُ تَهيجُ كلّما طاف بيَ طائفُ العُجْبِ ، والتعاظمُ الفارغُ ؛ إلى أنْ تناسَيْتُهُ مُتعمّدًا!
ثم كان الفضلُ لمصائب الزمان في نسيان البقيّةِ الباقيةِ منه.
وإذا أَسِفْتُ على شيء مِن ذلك –الآنَ-: فعلى تَنَاسِيَّ لأيام العرب؛ لأنها تاريخٌ، وعلى نسياني أشعارَ العرب؛ لأنها أدبٌ.
وحَضَرْتُ -بعد ذلك- طائفةً من دروس هذا الشيخ في «صحيح البخاري» -على قلّتها وتقطُّعها-.
وأشهدُ أنِّي كنتُ أسمعُ منه علمًا وتحقيقًا؛ فقلت له يومًا: الآنَ أعطيتني أشياءَ ، وَأَحْرِ بنا أن نُؤْجَر –معًا- أنت وأنا-.
فتبسّم مُبتهجًا ، وقال لي: يا بنيّ، هذه (الدرايةُ) ، وتلك (الروايةُ).
فقلتُ له: إنَّ بين (الدراية)، و(العلم) نَسَبًا قريبًا في الدِّلالة- تُرادفُه ، أو تقفُ دونه- ؛ فما نسبةُ (الرواية) إلى (العلم)؟
وقَطَعَ الحديثَ صوتُ المؤذّن ، وقال لي: بعد الصلاة حَدِّثْني بحديثك عن نسبةِ (الرواية) إلى (العلم).
فقلتُ له -ما معناه-: إنّ ثمرةَ (الرواية) كانت في تصحيح الأصول، وضَبْط المتون ، وتصحيح الأسماء؛ فلما ضُبطت الأصولُ، وأُمِنَ التصحيفُ في الأسماء: خَفَّ وزنُ (الرواية)، وسقطت قيمتُها.
وقلتُ له: إن قيمةَ الحفظ- بعد ذلك الضبطِ- نَزَلت إلى قريبٍ مِن قيمة (الرواية).
وقد كانت صَنْعَةُ الحافظ شاقَّةً يومَ كان الاختلافُ في المتون ؛ فكيف بها بعد أن تَشَعَّبَ الخلافُ في ألفاظ «البُخاري» -في السند الواحد- بين أبي ذَرّ الهَرَوي، والأَصِيلي، وكَرِيمة، والْـمُسْتَمْلي ، والكُشْمِيهَني - وتلك الطائفة-؟!
وهل قال: «حَدَّثَني»، أو: «حَدَّثَنا» ،أو: «كتاب» ،أو :«باب»؟!
إنَّ هذا لَتطويلٌ ما فيه من طائل!
ولا أراه علمًا ؛ بل هو عائقٌ عن العلم!!
وقلتُ له: إنّ عملَ الحافظ اليُونِيني -على جَلالة قَدْرِه في الجمع بين هذه الرواياتِ- ضَرْبٌ في حديدٍ بارد - لا أستثني منه إلا عملَ ابنِ مالك-.
وإنَّ ترجيحَ ابن مالكٍ لإعراب لفظةٍ : لَأَدَلُّ على الصحة -في اللفظ النبويِّ- من تصحيح (الرواية).
وقد يكونُ الراوي أعجميًّا -لا يُقيم للإعراب وزنًا- ؛ فلماذا لا نَعْمَدُ إلى تقويةِ الـمَلَكَةِ العربيَّة في نفوسنا، وتقويمِ المنطقِ العربيِّ في ألسنتنا، ثم نجعلُ من ذلك موازينَ لتصحيحِ (الروايةِ)؟!
على أن التوسُّع في (الروايةِ) أَفْضى بنا إلى الزهد في (الدراية).
وقلتُ له: إنَّك لو وَقَفْتَ على حِلَقِ الُمحَدِّثين بهذا الحَرَم - محمد بن جعفر الكَتَّاني ، ومحمد الخَضِر الشِّنْقيطي –وغيرهما-: لَسمعتَ (رواية) وسَرْدًا! لا (دراية) ودرسًا!!
وإنَّ أحدَهم لَيَقْرَأُ العشرين –والثلاثين- ورقةً -من الكتاب- في الدولة الواحدة !
فأين العلمُ؟!
وقلتُ له: إنَّ مَن قَبْلَنا تَنَبَّهوا إلى أن دولة (الرواية) دالَتْ بـ : ضبطِ الأصولِ وشُهرتِها ؛ فاقتصروا على (الأوائلِ) – يعنون [بها] الأحاديثَ الأولى من الأُمَّهات-، وصاروا يكتفون بسماعِها ،أو قراءتِها في الإجازات.
وما اكتفاءُ القُدَماء بالمناولة والوِجادة إلا مِن هذا الباب.
قلتُ له هذا -وأكثرَ مِن هذا-.
وكانت معارفُ وجهِه تَدُلُّ على الموافقةِ ، ولكنّه لم يَنطِق بشيء!
وأنا أعلمُ أنَّ سببَ سُكوتِه هو مخالفةُ ما سَمِعَ لِـمَا أَلِفَ-رحمه الله-.
ولقيتُ –يومًا- الشيخَ يوسُفَ النَّبَهانيَّ- رحمه الله- ببابٍ من أبواب الحَرَم ، فَسَلَّمْتُ عليه .
فقال لي: سمعتُ –آنفًا- درسَك في «الشمائل»، وأعجبني إنحاءَك باللومِ على مُؤلِّفي السِّيَر في اعتنائهم بالشمائل النبويّة البدنيّة، وتقصيرِهم في الفضائل الروحيّة.
وقد أجزتُك بكل مُؤلّفاتي ومرويّاتي، وكُلِّ ما لي مِن مقروء ، ومسموع -من كل ما تضمّنَه «ثَبَتي..» -... –إلخ-.
فقلتُ له: أنا شابُّ هاجرتُ لأَستزيدَ علمًا ، وأستفيدَ من أمثالكم ما يُكَمِّلُني منه.
وما أرى عملَكم هذا إلا تزهيدًا لنا في العلمِ.
وماذا يُفيدني أن أرويَ مؤلفاتِك وأنا لم أستفدْ منك مسألةً من العلم؟!
ولماذا لم تُنَصِّبْ نفسَك لإفادة الطلّاب؟!
فسكتَ.
ولم يكن له- رحمه الله- درسٌ في الحَرَم.
وإنما سمعتُ مِن خادم له –جَبَرْتيٍّ- أنه يَتلقّى عنه -في حُجرته- درسًا في فقه الشافعيّة.
وكان بعد ذلك يُؤْثِرُ محلِّي -على ما بيننا مِن تفاوتٍ كبيرٍ في السنّ، وتبايُنٍ عظيمٍ في الفكرة-.
رحم الله جميعَ مَن ذَكَرْنا، وألحقَنا بهم -لا فاتنين ، ولا مفتونين-.
أمَّا أولئك السلفُ الأبرارُ؛ فعنايتهم بـ(الرواية) والرجال راجعةٌ –كلُّها- إلى الجرح والتعديل ؛ اللذين هما أساسُ الاطمئنانِ إلى (الرواية).
وقد تعبوا -في ذلك- ، واسترحنا.
وما قولُكم- دام فضلُكم- لو فرضنا أنّ محدِّث القرن الرابع عشر ومُسْنِدَه -عبد الحي- عُرض -بعُجَره وبُجَره- على أحمد بن حنبل، أو على يحيى بن معين، أو على عليّ بن المديني- أو على مَن بعدهم مِن نقّاد الرجال ؛ الذين كانوا يُجَرِّحون بلحظةٍ، ويُسقطون العدالة بغَمزةٍ في عقيدة، أو نَبْزةٍ في سيرة- أو بغير ذلك مما يُعدّ في جَنْب (عبد الحيّ) حسناتٍ! وقُرُباتٍ!- ؛ فماذا نراهم يقولون فيه؟
وبماذا يحكمون عليه؟!
خصوصًا إذا عاملوه بقاعدة (الجرح لا يُقبَل إلا مفسَّرًا)!
وبعد:
«فقد أطال ثَنائي طولُ لابسِه» ؛ فلْيعذرنا (عبدُ الحيّ)...
ووالله ما بيننا وبينه تِرَةٌ ، ولا حَِسيفةٌ...
ووالله ما في أنفسِنا عليه حقدٌ ولا ضَغينةٌ.
ووالله لَوَدِدْنا لو كان غيرَ مَن كان ؛ فكان لقومِه -لا عليهم-؛ وإذًا لأفاد هذا الشَّمالَ بالكنوز النبوية التي يحفظُ متونَها، ونفع هذا الجيلَ -الباحثَ الناهضَ المتطلِّع- بخِزانته العامرة، وكان روّادُ دارِه تلامذةً يتخرّجون، لا سيّاحًا يتفرّجون! وعلماءَ يتباحثون، لا عوامَّ يَتعابثون...!!»!
"آثار الشيخ محمد البشير الإبراهيمي"(544/3).