الدرس الخامس
قال البخاري – رحمه الله - :
{ - بَاب فِي الْقَدَرِ
6594- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ أَنْبَأَنِي سُلَيْمَانُ الأَعْمَشُ قَالَ سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ وَهْبٍ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ قَالَ "إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكًا فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعٍ بِرِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ فَوَاللَّهِ إِنَّ أَحَدَكُمْ أَوْ الرَّجُلَ يَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا غَيْرُ بَاعٍ أَوْ ذِرَاعٍ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا غَيْرُ ذِرَاعٍ أَوْ ذِرَاعَيْنِ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا" قَالَ آدَمُ: إِلاَّ ذِرَاعٌ"
6595- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَنَسٍ "عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "وَكَّلَ اللَّهُ بِالرَّحِمِ مَلَكًا فَيَقُولُ أَيْ رَبِّ نُطْفَةٌ أَيْ رَبِّ عَلَقَةٌ أَيْ رَبِّ مُضْغَةٌ فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَقْضِيَ خَلْقَهَا قَالَ أَيْ رَبِّ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ فَمَا الرِّزْقُ فَمَا الأَجَلُ فَيُكْتَبُ كَذَلِكَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ"}.
الشرح :
هذان الحديثان متفق على صحتهما وفيهما مسائل :
المسألة الأولى/ المعنى العام للحديثين.
"اعلم أن هذا الحديث جامع لجميع أحوال الشخص إذ فيه من الأحكام بيان حال المبدأ وهو ذاته ذكرا وأنثى وحال المعاد وهو السعادة والشقاوة وما بينهما وهو الأجل وما يتصرف فيه وهو الرزق" (عمدة القاري شرح صحيح البخاري لبدر الدين العيني الحنفي:5/460 شاملة).
"وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ سَبَقَ الْكِتَابُ بِمَا يَعْمَلُ وَبِمَا يَصِيرُ إِلَيْهِ ، وَأَنَّهُ قَدْ سَبَقَ الْكِتَابُ بِأَنْ يَعْمَلَ فِي أَوَّلِ عُمُرِهِ عَمَلًا صَالِحًا ، ثُمَّ فِي آخِرِهِ عَمَلًا سَيِّئًا ، ثُمَّ يَمُوتُ عَلَيْهِ وَيَنْقَلِبُ إِلَيْهِ وَقَدْ سَبَقَ الْكِتَابُ بِأَنْ يَعْمَلَ فِي أَوَّلِ عُمُرِهِ عَمَلًا سَيِّئًا وَفِي آخِرِهِ عَمَلًا صَالِحًا ، ثُمَّ يَمُوتُ عَلَيْهِ فَيَصِيرُ إِلَيْهِ ".(المنتقى شرح الموطأ: 4/278 شاملة).
المسألة الثانية/ معاني بعض المفردات، وما يتعلق بها.
1) [الصادق المصدوق]: "فمعناه الصادق في قوله المصدوق فيما يأتي من الوحي الكريم"(النووي، مسلم). والصادق كذلك"يطلق على الفعل، يقال: صدق القتال وهو صادق فيه" (الفتح:15/7).
2) [إن أحدكم]: "فبكسر الهمزة على حكاية لفظه صلى الله عليه و سلم"(النووي، مسلم:16/190).
3) [يجمع في بطن أمه]: "المراد بالجمع ضم بعضه إلى بعض بعد الانتشار"(الفتح/15/9). وقع في رواية زيادة: (نطفة) ، "فبين أن الذي يجمع هو النطفة"(الفتح:15/9).
"قال القرطبي في (المفهم): المراد أن المني يقع في الرحم حين انزعاجه بالقوة الشهوانية الدافعة مبثوثا متفرقا فيجمعه الله في محل الولادة من الرحم" (الفتح:15/9).
4) [نطفة]: "المراد بالنطفة المني، وأصله الماء الصافي القليل"(الفتح:15/9).
"والصواب أن النطفة مختلطة من ماء الرجل وماء المرأة، خلافا لمن زعم: أنها من ماء الرجل وحده"(أضواء البيان:5/21).
وقوله: (أي رب نطفة ...) "أي: يقول كل كلمة من ذلك في الوقت الذي تصير فيه كذلك"،"وفائدة ذلك أنه يستفهم هل يتكون منها أو لا؟ " (الفتح:15/24-25).
5) [أربعين يوما] بغير شك، وفي بعض روايات الحديث (أو أربعين ليلة) بالشك، وفي رواية: (أربعين ليلة) بغير شك، "ويجمع بأن المراد يوم بليلته، أو ليلة بيومها" (الفتح:15/9).
6) [علقة]: "بفتح اللام، قال الأزهري - في التهذيب - :العلقة الدم الجامد الغليظ ومنه قيل لهذه الدابة التي تكون في الماء علقة لأنها حمراء كالدم"(عمدة القاري:5/453).
7) [مضغة]: "والمضغة قطعة اللحم سميت بذلك لأنها قدر ما يمضغ الماضغ"(الفتح:15/12).
8) [يبعث الله ملكا]: وفي لفظ لمسلم: (ثم يرسل الله)، فمعناه: "ثم يرسل إليه الملك قال القاضي المراد بإرساله في هذه الأشياء أمره بها وبالتصرف فيها بهذه الأفعال وإلا فقد صرح في الحديث بأنه موكل بالرحم وأنه يقول يا رب نطفة يا رب علقة...". (الديباج على مسلم)، (عمدة القاري:6/6).
ونصر هذا القول الحافظ فقال: "فينبغي أن يفسر الإرسال المذكور بذلك"(الفتح15/13).
9) [فيؤمر بأربع] وفي رواية: (بأربعة) "والمعدود إذا أبهم جاز تذكيره وتأنيثه"، وفي رواية: (فيؤمر بأربع كلمات) "والمراد بالكلمات القضايا المقدرة، وكل قضية تسمى كلمة" (الفتح:15/13).
10) [برزقه وأجله وشقي أو سعيد]: كذا وقع في هذه الرواية ونقص منها ذكر العمل وبه تتم الأربع، وقد ثبت قوله: (وعمله) في رواية أخرى. (الفتح:15/13).
11) [رزقه]: الرزق: ما ينتفع به العبد. قال السفاريني:
والرزق ما ينفع من حلال أو ضده فحل عن المحال
لأنه رازق كل الخــلق وليس مخـلوق بغير رزق
12) [أجله]: "الأجل: هو الزمان الذي علم الله أن الشخص يموت فيه، أو: مدة حياته؛ لأنه يطلق على غاية المدة، وعلى المدة" (عمدة القاري:5/495).
13) [شقي أو سعيد]: "ومعنى (شقي): عاص لله – تعالى - ،و (سعيد): أي: مطيع له" ،"شقي أو سعيد مرفوع خبر مبتدأ محذوف أي: وهو شقي أو سعيد (النووي، مسلم).
"وكان ظاهر السياق أن يقول: ويكتب شقاوته وسعادته لكن عدل عن ذلك لأن الكلام مسوق إليهما والتفصيل وارد عليهما، أشار إلى ذلك الطيبي"(الفتح:15/14).
لطيفة: قال ابن القيم – رحمه الله - :"قال أبو الحسن علي بن عبيد الحافظ: سمعت أبا عبد الله بن أبي خيثمة يقول: سمعت عمرو بن علي الفلاس يقول: انحدرت من سر من رأى إلى بغداد في حاجة لي فبينما أنا أمشي في بعض الطريق فإذا بجمجمة قد نخرت فأخذتها فإذا على الجبهة مكتوب (شقي) والياء مكسورة إلى خلف" وهؤلاء كلهم أئمة حفاظ، ذكره الطبري في السنة" (طريق الهجرتين ص/100).
14) [بعمل]: الباء زائدة "للتأكيد، أو ضمن (يعمل) معنى يتلبس في عمله بعمل أهل النار" (الفتح:15/19).
15) [غير باع أو ذراع]: "التعبير بالذراع تمثيل بقرب حاله من الموت فيحال بينه وبين المكان المقصود بمقدار ذراع أو باع من المسافة" (الفتح:15/19).
16) [فيسبق عليه الكتاب]: "الفاء في قوله: (فيسبق) إشارة إلى تعقيب ذلك بلا مهلة، وضمن يسبق معنى يغلب، قاله الطيبي" (الفتح:15/20).
المسألة الثالثة/ لطيفة.
قال ابن القيم – رحمه الله - :"ذكر الطبري عن الحسن بن علي أنبأنا محمد بن يزيد الأسفاطي محدث البصرة قال: رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في النوم فقلت: يا رسول الله، حديث عبد الله بن مسعود حدثني الصادق المصدوق – أعني حديث القدر – فقال: أي والله الذي لا إله إلا هو حدثت به، رحم الله عبد الله بن مسعود حيث حدث به، ورحم الله زيد بن وهب حيث حدث به، ورحم الله الأعمش حيث حدث به، ورحم الله من حدث به قبل الأعمش، ورحم الله من حدث به بعد الأعمش" (طريق الهجرتين ص/99-100).
المسألة الرابعة/ ما يستفاد من الحديث.
الفائدة الأولى: قال ابن رجب – رحمه الله - :" في هذا الحديث أن السعادة والشقاوة قد سبق الكتاب بهما وأن ذلك مقدر بحسب الأعمال وأن كلا ميسر لما خلق له من الأعمال التي هي سبب للسعادة والشقاوة" (جامع العلوم والحكم ص/144 .)
وقال ابن عثيمين – رحمه الله - :"أن أحوال الإنسان تكتب عليه وهو في بطن أمه .. رزقه .. عمله .. أجله .. شقي أم سعيد , ومنها بيان حكمة الله عز وجل وأن كل شيء عنده بأجل مقدر وبكتاب لا يتقدم ولا يتأخر "(شرح الأربعين ، ص/15).
الفائدة الثانية: في بيان وجه الجمع بين روايات الباب، قال ابن القيم – رحمه الله -: "الجمع بين الروايات: أن للملك ملازمة ومراعاة بحال النطفة، وأنه يقول: يا رب هذه نطفة، هذه علقة، هذه مضغة في أوقاتها. فكل وقت يقول فيه ما صارت إليه بأمر الله، وهو أعلم بها وبكلام الملك، فتصرفه في أوقات:
_ أحدها: حين يخلقها الله نطفة، ثم ينقلها علقة، وهو أول أوقات علم الملك بأنه ولد، لأنه ليس كل نطفة تصير ولدا، وذلك بعد الأربعين الأولى في أول الطور الثاني. ولهذا – والله أعلم – وقعت الإشارة إليه في أول سورة أنزلها على رسوله :{اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق} إذ خلقه من علقة هو أول مبدأ الإنسانية، وحينئذ يكتب: رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته.
_ ثم للملك فيه تصرف آخر وهو تصويره وتخليق سمعه وبصره وجلده وعظمه ولحمه وذكوريته وأنوثيته وهذا إنما يكون في الأربعين الثالثة قبل نفخ الروح فيها، فإن نفخ الروح لا يكون إلا بعد تمام تصويره." (طريق الهجرتين ص/103-104).
الفائدة الثالثة: قال الحافظ: "استدل الداودي بقوله: (فتدخل النار) على أن الخبر خاص بالكفار، واحتج بأن الإيمان لا يحبطه الكفر، وتعقب بأنه ليس في الحديث تعرض للإحباط وحمله على المعنى الأعم أولى فيتناول المؤمن حتى يختم له بعمل الكافر مثلا فيرتد فيموت على ذلك فنستعيذ بالله من ذلك، ويتناول المطيع حتى يختم له بعمل العاصي فيموت على ذلك، ولا يلزم من إطلاق دخول النار أنه يخلد فيها أبدا بل مجرد الدخول صادق على الطائفتين" (الفتح:15/23).
الفائدة الرابعة: فيه :"أن للأرحام ملكا موكلا بها لقوله : " فيبعث إليه الملك " أي الملك الموكل بالأرحام " (شرح الأربعين للعثيمين).
الفائدة الخامسة: "وفيه أن جميع الخير والشر بتقدير الله – تعالى – وإيجاده وخالف في ذلك القدرية والجبرية" (الفتح:15/23-24).
الفائدة السادسة: "وفيه أن الله يعلم الجزئيات كما يعلم الكليات لتصريح الخبر بأنه يأمر بكتابة أحوال الشخص مفصلة" (الفتح:15/23).
الفائدة السابعة: "وفيه أنه – سبحانه – مريد لجميع الكائنات بمعنى أنه خالقها ومقدرها لا أنه يحبها ويرضاها"(الفتح:15/23).
الفائدة الثامنة: "وفي الحديث أن الأقدار غالبة والعاقبة غائبة فلا ينبغي لأحد أن يغتر بظاهر الحال، ومن ثم شرع الدعاء بالثبات على الدين وبحسن الخاتمة" (الفتح:15/24).
الفائدة التاسعة: "أن الجنين قبل أربعة أشهر لا يحكم بأنه إنسان حي , وبناء على ذلك لو سقط قبل تمام أربعة أشهر فإنه لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه , لأنه لم يكن إنسانا بعد ... أنه بعد أربعة أشهر تنفخ فيه الروح ويثبت له حكم الإنسان الحي , فلو سقط بعد ذلك فإنه يغسل ويكفن ويصلى عليه كلما لو كان ذلك بعد تمام تسعة أشهر " (شرح الأربعين للعثيمين ، ص / 16).
الفائدة العاشرة: "أنه لا ينبغي لإنسان أن يقطع الرجاء فإن الإنسان قد يعمل بالمعاصي دهرا طويلا ثم يمن الله عليه بالهداية فيهتدي في آخر عمره " (شرح الأربعين للعثيمين ، ص / 16).