هذه رسالة لطيفة لفضيلة شيخنا أبي مجاهد حفظه الله يرد فيها بأسلوب واضح ورصين على المجيزين لبدعة المولد ، أزفها لطلاب العلم والحق :
قال حفظه الله
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين , والصلاة والسلام على أشرف المرسلين , سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد , فهذه رسالة بعنوان " قالوا.. وقلنا.. : مناقشة هادئة لشبهات المجيزين للاحتفال بالمولد النبوي" قصدنا بها النصيحة لعامة المسلمين ليتركوا المحدثات , ويتعبدوا الله عز وجل بما صح من العبادات , وينهجوا نهج أئمة الهدى فإن الخير كل الخير في التأسي والاتباع , والشر كل الشر في الإحداث والابتداع , وفقنا الله وإياهم لما يحبه ويرضاه , إنه جواد كريم .

أصول مهمة بين يدي المناقشة :
1 - ينبغي أن يعلم أن الخلاف في مسألة ( الاحتفال بالمولد النبوي ) ليس خلافاً على فرع معزول عن أصوله ؛ بل هو خلاف على فرع يراد من خلاله تثبيت الأصول والمحافظة عليها , وأصل الأصول عندنا هو ( الشهادتان ) ومقتضاها هو : ( التوحيد لله عز وجل ) و ( الاتباع للرسول r ) وثمة منهج في الساحة يستهدف التوحيد بنشر الخرافة ، ويستهدف الاتباع بنشر البدع ، ويستغل الدين لبناء الأمجاد الخاصة ، والاحتفال بالمولد وسيلة من وسائل هذا المنهج المنحرف ، وبهذا تتبين أهمية رد هذه البدعة ، وكشف شبهات المجيزين لها .
2 - محبة الرسول r أصل عظيم من أصول ديننا الحنيف , وهي في قلب كل مسلم , والنزاع إنما هو في دليل المحبة , ونحن نعتقد أن دليل صدق المحبة هو ( الاتباع ) لا ( الابتداع ) كما أخبر الله عز وجل بذلك في قوله: [قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ] {آل عمران:31} .
3 - محمد r هو الرحمة المهداة , والنعمة المسداة ، ومن حقه علينا نفرح به ونشكر الله تعالى على نعمة مولده وبعثته , ولكن كيف يكون الفرح به ؟ وكيف يكون الشكر ؟ وهل هناك من هو أفرح برسول r وأشكر لله عز وجل على نعمته من أهل بيته الأطهار, وصحابته الأخيار, والأئمة الأبرار ؟ .
4 - لم يرد عن أحد من السلف قط أنه احتفل بالمولد النبوي , وقد اتفقت كلمة العلماء على ذلك حتى قال الإمام الفاكهاني رحمه الله في رسالته " المورد في الكلام على عمل المولد " : " لا أعلم لهذا المولد أصلاً في كتاب ولا سنة ولا نقل عمله عن أحد من علماء الأمة الذين هم القدوة في الدين المتمسكون بآثار المتقدمين ؛ بل هو بدعة أحدثها البطالون ، وشهوة نفس اعتنى بها الأكالون " ؛ بل حتى المجيزين للاحتفال بالمولد النبوي لم يخالفوا في كونه بدعة محدثة , ولكنهم يزعمون أنه بدعة حسنة .
5 - كل بدعة في الدين ضلالة لقوله r : ( كل بدعة ضلالة ) وكل : عام مخصوص بقولهr :( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) ومراده بـ ( أمرنا هذا ) الدين ، فخرج من العموم الأمور الدنيوية ، ويؤكد ذلك قوله r :( أنتم أعلم بشؤون دنياكم ) فالبدع الدنيوية تنقسم إلى محمودة ومذمومة ، وفيها الوسائل التي يستعان بها على أمور الدين فتكون بدعاً حسنة , وأما الدين فلا تكون البدعة فيه إلا ضلالة كما أخبر الصادق المصدوق - بأبي هو وأمي- والضلالة فيه على مراتب .
6 - أول من أحدث بدعة الاحتفال بالمولد النبوي هم ( الفاطميون ) الضلاّل وقد صرح بذلك الإمام المقريزي في خططه ونقله عن المؤرخين قبله , وصرح به كثيرون غيره , أما المظفر كوكبري فليس بأول من احتفل بالمولد النبوي وإنما نقله عن الصوفي عمر بن محمد الملا بالموصل كما صرح بذلك أبو شامة في ( الباعث ) فتأمل أصل هذه البدعة ومتى نشأت وعلى يد من نشأت تعرف حقيقتها .

قالوا.. وقلنا ..
- قالوا: نحن نحتفل بمولد الرسول r لنظهر الفرح بفضل الله تعالى وبرحمته لقوله تعالى: [قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ] {يونس:58} والرسول r من رحمة الله عز وجل .
- قلنا: نزلت الآية على رسول الله r وقرأها هو وأصحابه والسلف الكرام فلم يفهموا منها ما فهمتم ، مع أنهم كانوا أشد فرحاً برسول الله r منا ومنكم ، وكل فهم لآية أو حديث لم يرد عن السلف الصالح فهو باطل .
- قالوا : ليس كل ما لم يفعله السلف باطل ، ولعل السلف انشغلوا عنه بالجهاد .
- قلنا: ما كان مقتضاه وموجبه موجوداً في عهد الرسول r أو السلف ولم يمنع منه مانع فإن تركه مقصود وفعله بدعة ، ومقتضى الاحتفال بالمولد النبوي موجود وهو الفرح بالرسول r ، ولا مانع منه , فلما تركوه مع ذلك دل على أنه بدعة , ودعوى أن السلف الصالح انشغلوا عن ذلك بالجهاد مردودة ؛ لأن جلهم لم يكن في الثغور كالخلفاء الراشدين والحسن والحسين وابن مسعود ومعاذ وابن عمر وابن عباس وأنس وسعيد بن المسيب والحسن البصري والثوري والأئمة الأربعة رضوان الله عليهم أجمعين ، فمن الناس بعد هولاء ؟
- قالوا: سئل النبي r عن صوم يوم الاثنين فقال :( ذلك يوم ولدت فيه ويوم بعثت أو أنزل علي فيه ) رواه مسلم . فنبه r على يوم مولده وأنه يستحق الشكر .
- قلنا: صدقتم , وهذا يدل على أن النبي r وأصحابه الكرام لم يكونوا غافلين عن يوم مولده , ومع ذلك لم يحتفلوا به , وقد علمنا النبي r كيف نشكر الله تعالى على نعمته علينا بمولد الرسول r وبعثته وذلك بصوم يوم الاثنين ولم يأبه بشهر ربيع فلا نزيد على ما سنّه لنا رسول الله r ، ولو كان الاحتفال من الخير لدلنا عليه بأبي هو وأمي .
- قالوا: صام النبي r يوم عاشورا شكراً لله عز وجل ؛ لأن الله عز وجل نجى فيه موسى عليه السلام ومن معه من فرعون ، فدل على أن الأيام العظيمة تخص بمزيد عبادة وشكر كما استنبط ذلك ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى .
- قلنا: فعلام لم تفهم هذا الفهم أمة خلت قبل ابن حجر رحمه الله ؟ ثم إنكم لا تستقرون على هذا الأصل فهل تقولون بجواز الاحتفال بيوم بدر ويوم الخندق ويوم الحديبية ويوم فتح مكة ويوم تبوك ويوم القادسية ويوم اليرموك ويوم حطين ويوم ...ويوم ... , وعلام لم يفهم السلف ذلك ولا عملوا به ؟ ورحم الله السيد محمد رشيد رضا حيث قال في رده على فتوى الإمام ابن حجر رحمه الله تعالى: " إن تصريحه في تلك الفتوى بأن أصل عمل المولد بدعة لم ينقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة يكفي فقد قال الإمام مالك بن أنس رحمه الله :" لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها" " وانظر كلامه بطوله في ( فتاواه: 5/ 2112 ) .
- قالوا : النصارى يحتفلون بميلاد عيسى عليه السلام , فمحمد r أولى بأن يحتفل بميلاد ه .
- قلنا : وهل أخذ النصارى هذا عن الدين الحق ؟ ومنذ متى كان النصارى قدوة حسنة ؟ ولكن صدق فيكم قول المصطفى r :( لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه) . قلنا : يا رسول الله ! اليهود والنصارى ؟ قال : ( فمن ؟ ) متفق عليه .
- قالوا: قد أجاز الاحتفال بالمولد علماء أجلة كابن شامة وابن ناصر الدين وابن حجر العسقلاني والسيوطي والقسطلاني وغيرهم رحمهم الله تعالى .
- قلنا: هؤلاء العلماء الذين أجازوا الاحتفال بالمولد اعترفوا بأنه بدعة وحسبنا ذلك مهم , وأما دعواهم أنه بدعة حسنة فمردود عليهم , فليس في الدين وفيما شرع وجوباً أو استحباباً بدعة حسنة , وقد أنكر الاحتفال بالمولد النبوي جماعة من العلماء عارضوا هؤلاء كابن الحاج المالكي في ( المدخل ) والعدوي في (حاشيته على شرح مختصر خليل ) والفاكهاني في ( المورد ) وابن تيمية في ( اقتضاء الصراط المستقيم ) وغيرهم رحمهم الله تعالى , فبقيت الحجة مع المانع لاسيما وأن السلف الصالح أجمعين من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وغيرهم لم يستحب أحد منهم الاحتفال بالمولد النبوي ولم يذكروه وحسبنا من الدين ما كانوا عليه .
- قالوا: قد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى إلى أن فاعل المولد قد يؤجر عليه .
- قلنا: هذا من تلبيسكم على عوام المسلمين وتضليلكم لهم وهو دليل الإفلاس , فقد حكم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في ( اقتضاء الصراط المستقيم : 2/123) ببدعية المولد فقال : " وكذلك ما يحدثه بعض الناس إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى عليه السلام , وإما محبة للنبي r وتعظيماً , والله قد يثيبهم على هذه المحبة والاحتفال والاجتهاد لا على البدع من اتخاذ مولد النبي r عيداً ، مع اختلاف الناس في مولده , فإن هذا لم يفعله السلف مع قيام المقتضي وعدم المانع منه لو كان خيراً , ولو كان خيراً محضاً أو راجحاً لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله r وتعظيماً له منا ، وهم على الخير أحرص ".
فتأمل كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تاماً , وتأمل ما فعله المبتدعة في كلامه من البتر والتجزئة مما يدل على هوى في النفوس وتضليل لعوام المسلمين وإصرار على هذه البدع لما لها من مرود معنوي وحسي عليهم . وغاية ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله - بعد حكمه على بدعة الاحتفال بالمولد وتأكيده على أنه لو كان خيراً لسبقنا إليه السلف - أنه قد يؤجر بعض الناس على محبته للنبي r لا على البدعة , وهو يعني العوام المضللين الذين يزين لهم هؤلاء البدع فيفعلونها محبة للنبي r فقد - للتقليل والشك - يؤجر هؤلاء من جهة المحبة لا من جهة البدعة .
- قالوا: ورد في الأثر عن عروة ابن الزبير رحمه الله تعالى أن أبا لهب انتفع في النار بعتقه لثويبة لما بشرته بمولد الرسول r فإذا انتفع بالفرح بميلاد النبيr كافر ، فالمسلم من باب الأولى .
- قلنا: هذا الأثر مرسل ضعيف , ثم إنه مجرد رؤيا منامية . وهو مخالف لنص القرآن القاطع وهو قوله تعالى: [وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا] {الفرقان:23} . وقد أورد ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى في( الإصابة ) في ترجمة ثويبة ( نقلاً عن ابن سعد ) أن أبا لهب أبى أن يعتق ثويبة , ولم يعتقها إلا بعد هجرة النبي r وهذا يبطل ما قلتم من أصله .
- قالوا: أورد الإمام الذهبي وابن كثير رحمهما الله تعالى في تواريخهم ماحكاه المؤرخون عن صاحب إربل السلطان مظفر الدين أبي سعيد كوكبري من احتفاله بالمولد النبوي وتوسعه في ذلك ، فمدحاه ولم يذماه .
قلنا: هذا لا يدل على تجويزهما للاحتفال بالمولد النبوي ، ولو كان كل من حكى من المؤرخين شياً عُدَّ مقراً له ومجوزاً له ، لوقع المؤرخون في الكفر والفسق والبدع وكل شر ، لاسيما وأنهم لا يكفون عن مدح كل أحد بما فيه من خصال حميدة , ولا يدل ذلك على إقرارهم لكل أفعاله ، وإنما نقلا ما نقلا من شأن كوكبري عن سبط ابن الجوزي وكان مما نقلاه قوله: "... ويعمل للصوفية سماعاً من الظهر إلى الفجر ويرقص بنفسه معهم " (البداية والنهاية: 13/137 ) فهل يعتقد هؤلاء المضلون أن الذهبي و ابن كثير رحمهما الله تعالى كانا يجيزان سماع الصوفية ورقصهم - أيضاً - لأنهما نقلاه في تاريخيهما ؟
- قالوا: قد أشاد الله في القرآن بميلاد عيسى ويحيي عليهما السلام وأشاد النبي r بيوم ميلاده في الحديث ، فكل ما عظمه الله ورسوله فنحن مأمورون بتعظيمه .
- قلنا: لا يلزم من الذكر والإشادة تجويز الاحتفال واتخاذ اليوم عيداً وحسبنا ما ورد به الشرع ويدل على ذلك أنه لا يجوز الاحتفال بميلاد عيسى عليه السلام , ولا يمكن لمسلم صادق عاقل أن يدعي أنه أكثر تعظيماً للنبي صلى الله عليه وسلم وأفهم للدين من أهل القرون الثلاثة المفضلة .
- قالوا: يجوز أن نحتفل بالمولد النبوي كما يجوز أن نعمل حفلاً لمسابقة في القرآن ونحو ذلك , وإنما المولد ذكر لله تعالى ولرسوله r .
- قلنا: أنتم تتخذون الاحتفال بالمولد النبوي عيداً يعاد كلما عاد يوم الميلاد , وهذه بدعة حيث خصصتم واخترتم بقصد ليوم بعينه لذاته وهذا تفضيل واختيار وهذا من خصائص الله عز وجل قال تعالى: [وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ] {القصص:68} . وأنتم تجعلون هذا الاحتفال قربة بذاته ؛ ولذلك فإن بعض الناس من شدة اعتقادهم في المولد يتهاون في حضور صلاة الجماعة ولا يتهاون في حضور المولد وقد قال تعالى: [أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] {الشُّورى:21} . والدليل القاطع أنكم تجعلونه ديناً وقربةً بذاتها أنكم تتكفلون له الأدلة من الكتاب والسنة لتثبتوا أنه مشروع بذاته , وهذا فرق مابين احتفالكم واحتفال من سواكم ممن يجعلون الاحتفال وسيلة وليست قربة بذاتها .
وهذا كله لو سلم الاحتفال بالمولد النبوي من المنكرات والضلالات الأخرى فكيف وأنتم تعتقدون أن النبي r يحضر عند كل مولد في الدنيا , وهذا غاية الجهل وسوء الأدب مع النبي r وأما نحن فنعتقد أنه r لا يغادر نعيم الجنة طرفة عين بأبي هو وأمي . والأدهى والأمر هو التشبيب بالنبي r في بعض الموالد وذكر محاسنه كأنه امرأة حسناء وكما يشبب بالنساء المعشوقات فيذكرون مبسمه وخدوده الوردية وغير ذلك مما لا يرضي أن يوصف به نصف رجل ، فكيف تسمح لهؤلاء نفوسهم أن يقولوا ذلك في الطهر والجولة الكاملة ( محمد العظمة والبطولة ) صلوات ربي وسلامه عليه , فبئس الحب هذا الحب الزاائف الذي استبدل هوى النفس بالعمل والاتباع ، سلمنا الله وكل مسلم من الهوى والزيغ.
وختاماً حسبنا ما عليه أهل القرون الثلاثة المفضلة ، ومن الأمة سواهم , وإنها لمصيبة أن يحتفل أناس في يوم مماته r فقد مات محمد r باتفاق العلماء في يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول , وأهل السنة يتبعون ولا يبتدعون , ولا يحتفلون ولا ينوحون , وصلوات الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
أبو مجاهد صالح بن محمد بن عبد الرحمن باكرمان.