ذ/عبد الفتاح بن اليماني الزويني: ماذا قال الشيخ محمد رشيد رضا عن الاعتصام للعلامة الشاطبي؟
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــ
{ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا } ( آل عمران : 101 ) .{ وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } ( آل عمران :101 ) .العلماء المستقلون في هذه الأمة ثُلة من الأولين ، وقليل من الآخرين ، والإمامالشاطبي من هؤلاء القليل ، وما رأينا من آثاره إلا القليل ، رأينا كتاب ( الموافقات )من قبل ، ورأينا كتاب ( الاعتصام ) اليوم ، فأنشدنا قول الشاعر :قليل منك يكفيني ولكن ... قليلك لا يقال له قليلادخل دار الكتب الخديوية وارم ببصرك إلى الألوف من المصنفات فيخزائنها ، تر أن كثرتها قلة ، وكثيرها قليل ؛ لأن القليل منها هو الذي تجد فيه علمًاصحيحًا لا تجده في غيره ؛ لأنه مما فتح الله به على صاحبه دون غيره . وقد كانكتاب ( الاعتصام ) من هذا القليل ، فأحسنت نظارة المعارف إلى الأمة الإسلاميةكلها بإجابة مجلس إدارة دار الكتب الخديوية إلى طبعه .اتفق علماء الاجتماع والسياسة والمؤرخون من الأمم المختلفة على أن العربما نهضوا نهضتهم الأخيرة بالمدنية والعمران إلا بتأثير الإسلام في جمع كلمتهم ،وإصلاح شؤونهم النفسية والعلمية ، ولكن اضطرب كثير من الناس في سبب ضعفالمسلمين بعد قوتهم ، وذهاب ملكهم وحضارتهم ، فنسب بعضهم كل ذلك إلى دينهم ،ومَن يتكلم في ذلك على بصيرة يثبت أن الدين الذي كان سبب الصلاح والإصلاح ،لا يمكن أن يكون سبب الفساد والاختلال ؛ لأن العلة الواحدة لا يصدر عنهامعلولات متناقضة ، فإذا كان لدين المسلمين تأثير في سوء حال خلفهم ، فلا بد أنيكون ذلك من جهة غير الجهة التي صلحت بها حال سلفهم ، وما هي إلا البدعوالمحدثات التي فرقت جماعتهم ، وزحزحتهم عن الصراط المستقيم .من أجل ذلك كان تحرير مسائل البدع والابتداع مما ينفع المسلمين في أمردينهم وأمر دنياهم ، ويكون أعظم عون لدعاة الإصلاح الإسلامي على سعيهم . وقدكتب كثير من العلماء في البدع ، وكان أكثر ما كتبوا في الترهيب والتنفير . والردعلى المبتدعين . ولكن الفرق التي يرد بعضها على بعض ، يدعي كل منها أنه هوالمحق ، وأن غيره هو الضال والمبتدع ، إما بالإحداث في الدين ، وإما بجهلمقاصده ، والجمود على ظواهره ، وما أرينا أحدًا منهم هدي إلى ما هدي إليه ( أبوإسحاق الشاطبي ) من البحث العلمي الأصولي في هذا الموضوع ، وتقسيمه إلىأبواب يدخل في كل واحد منها فصول كثيرة .لولا أن هذا الكتاب ألف في عصر ضعف العلم والدين في المسلمين لكان مبدأنهضة جديدة لإحياء السنة ، وإصلاح شؤون الأخلاق والاجتماع ، ولكان المصنفبهذا الكتاب وبصنوه كتاب الموافقات - الذي لم يسبق إلى مثله سابق أيضًا - منأعظم المجددين في الإسلام . فمثله كمثل الحكيم الاجتماعي عبد الرحمن بن خلدون ،كل منهما جاء بما لم يسبق إلى مثله ، ولم تنتفع الأمة - كما كان يجب - بعلمه .كتاب الموافقات لا ند له في بابه ( أصول الفقه وحِكَم الشريعة وأسرارها )وكتاب الاعتصام لا ند له في بابه ، فهو ممتع مشبع ، ولم يتمه المصنف رحمه اللهتعالى . وقد صدَّره بمقدمة في غربة الإسلام وحديث ( بدأ الإسلام غريبًا ) المنبئبذلك . ثم جعل مباحث ما كتبه في عشرة أبواب .( الباب الأول ) : في تعريف البدع ومعناها ( الثاني ) في ذم البدع وسوءمنقلب أهلها ( الثالث ) في أن ذم البدع والمحدثات عام ، وفيه الكلام على شبهالمبتدعة ، ومن جعل البدع حسنة وسيئة ( الرابع ) في مأخذ أهل البدع فيالاستدلال ( الخامس ) في البدع الحقيقية والإضافية والفرق بينهما ( السادس )في أحكام البدع وأنها ليست على رتبة واحدة ( السابع ) في الابتداع : يختصبالعبادات ، أم تدخل فيها العادات ؟ ( الثامن ) في الفرق بين البدع والمصالحالمرسلة والاستحسان ، ( التاسع ) في السبب الذي لأجله افترقت فرق المبتدعة عنجماعة المسلمين ( العاشر ) في الصراط المستقيم الذي انحرفت عنه المبتدعة .وفي هذه الأبواب مباحث تشتبه فيها المسائل ، وتتعارض الدلائل ، وتنتفجالشبهات ، وتتراءى في معارض البينات ، حتى يعز تحرير القول فيها ، والفصلبين قوادمها وخوافيها ، إلا على مَن كان مثل المصنف في نور بصيرته ، وغزارةمادته ، وقوة عارضته ، وفصاحة عبارته .ومِن أغمض هذه المسائل ما كان سنة أو مستحبًّا في نفسه وبدعة لوصفوهيئة عرضت له ، كالتزام المصلين المكث بعد الصلاة لأذكار وأدعية مأثورةيؤدونها بالاجتماع والاشتراك ، حتى صارت شعارًا من شعائر الدين ، ينكر الناسعلى تاركيها دون فاعليها ، وقد أطال المصنف في إثبات كونها بدعة وأورد جميعالشبه التي دعمت بها ، وكر عليها بالنقض فهدمها كلها .وما لي لا أذكر لعلماء الشرع الأعلام ، ولأهل السياسة من علماء الحقوقوالأمراء والحكام ، أهم ما شرحه لهم هذا الكتاب من أصول الإسلام ، وهو بحثالمصالح المرسلة والاستحسان ، من أصول مذهبي مالك وأبي حنيفة النعمان ،وبهما يظهر اتساع الشرع لمصالح الناس في كل زمان ومكان ؟بين المصنف وجه اشتباه ما سموه البدع المستحسنة ، بالاستحسان الفقهيوالمصالح المرسلة ، ثُم كَشَفَ كل شبهة . وأزال كل غمّة . فبين أن البدع ليست منهذين الأصلين في وِرد ولا صَدْر ، ولا تتفق معهما في علة ولا غرض ، فإنالبدعة كيفما كانت صفتها استدراك على الشرع وافتيات عليه ، وأما مسائلالمصالح المرسلة والاستحسان فهي موافقة لحكمته ، وجارية على غير المعين منعموم بيناته وأدلته . وقد أورد المصنف ما قيل في تعريف ذينك الأصلين ووضحذلك بالشواهد والأمثلة ، فلو أنك قرأت جميع ما تتداوله المدارس الإسلامية من كتبأصول الفقه وفروعه ، لانثنيت وأنت لا تعرف حقيقة المصالح المرسلةوالاستحسان ، كما تعرفها من هذا البحث الذي أوردها المصنف فيه تابعة لبيانحقيقة البدعة لا مقصودة بالذات .