ذكر المقال والمحال والفرق بينهما: ذ/عبد الفتاح بن اليماني الزويني
الحمد لله ما سبحت بحمده ألسنة الذاكرين، وسبحان الله ما أشرقت أنوار ذكره وجوه العابدين، وما امتدت الى عطائه أكف السائلين، سبحان الله ما حنت الى لقائه قلوب العارفين، سبحان الله إله الأولين والآخرين، ورب الخلائق أجمعين يغشى الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين؛ أنزل الينا كتابا أوضح به منازل السالكين، وأيقظ به عقول الغافلين أنزل به الروح الأمين على قلب محمد سيد المرسلين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم؛ صلاة وسلاما دائما باقيا أبد الابدين ودهر الداهرين، سبحان من أذن لاوليائه في مناجاته إذا أرخى ستور الليل البهيم سبحان من فتح أقفال القلوب بمفاتيح الذكر الحكيم.إن الذكر هو جنة الدنيا التي يدخلها العبد في حياته ليلج بها إلي جنة الآخرة ، فمن استكثر في دنياه من مصاحبة الذكر كان في جميع أحواله في معية الله - عز وجل - فلا يستوحش فراق الناس ، ففي جمع قلبه على ذكر محبوبه أُنس، ولو غفل عن ذكره تفارطت ظنونه وشُغل بنفسه عن نفسه ،حتى يستوحش نفَسه الذي في صدره؛ فـفي القلب خلة وفاقه لا يسدها شيء البتة إلا ذكر الله عز وجل؛ فإذا صار شعار القلب بحيث يكون هو الذاكر بطريق الأصالة واللسان تبع له؛ فهذا هو الذكر الذي يسد الخلة، ويفني الفاقة؛ فيكون صاحبه غنيا بلا مال، عزيزا بلا عشيرة، مهيبا بلا سلطان؛ فإذا كان غافلا عن ذكر الله عز وجل؛ فهو بضد ذلك فقير مع كثرة جدته، ذليل مع سلطانه، حقير مع كثرة عشيرته[1].فمتى تحرك لسانه بذكره عز وجل أُعين على المراد من إقامة العبادة وتحصيل السعادة لـ"أن الذكر شجرة تثمر المعارف والأحوال التي شمر إليها السالكون؛ فلا سبيل إلى نيل ثمارها إلا من شجرة الذكر، وكلما عظمت تلك الشجرة، ورسخ أصلها؛ كان أعظم لثمرتها فالذكر يثمر المقامات كلها من اليقظة إلى التوحيد، وهو أصل كل مقام وقاعدته التي ينبني ذلك المقام عليها؛ كما يبني الحائط على رأسه، وكما يقوم السقف على حائطه، وذلك أن العبد أن لم يستيقظ لم يمكنه قطع منازل السير ولا يستيقظ إلا بالذكر كما تقدم فالغفلة نوم القلب أو موته[2]فغاية الخلق والأمر أن يذكر رب الخلق، وأن يشكر؛ يذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر؛ وهو سبحانه ذاكر لمن ذكره شاكر لمن شكره فذكره سبب لذكره، وشكره سبب لزيادته من فضله، فالذكر للقلب واللسان والشكر للقلب محبة وإنابة وللسان ثناء وحمد وللجوارح طاعة وخدمة[3].وليس المراد بالذكر مجرد الذكر اللسان بل الذكر القلبي واللساني، وذكره يتضمن ذكر أسمائه وصفاته وذكر أمره ونهيه، وذكره بكلامه؛ وذلك يستلزم معرفته والإيمان به وبصفات كماله ونعوت جلاله والثناء عليه بأنواع المدح، وذلك لا يتم إلا بتوحيده فذكره الحقيقي يستلزم ذلك كله، ويستلزم ذكر نعمه وآلائه وإحسانه إلي خلقه السماوات والأرض وما بينهما.وقد أمر الله سبحانه وتعالى عباده أن يذكروه على جميع أحوالهم وإن كان ذكرهم إياه مراتب؛ وبعضها أحب إلى الله من بعض، ومتى واطأ اللسان القلب في ذكره وواطأ القلب مراد حبيبه منه واستقل له الكثير من قوله وعمله واستكثر له القليل من بره ولطفه وعانق الطاعة وفارق المخالفة وخرج عن كله لمحبوبه فلم يبق منه شيء وامتلأ قلبه بتعظيمه وإجلاله وإيثار رضاه وعز عليه الصبر عنه وعدم القرار دون ذكره والرغبة إليه والاشتياق إلى لقائه ولم يجد الأنس إلا بذكره وحفظ حدوده وآثره على غيره فهو المحب حقا.والحاصل أن ذكر المقال بشتى أشكاله وتجلياته هو مرغب فيه ومطلوب في تحصيله مع العلم بأن ذكر المقال تختلف مراتبه الجزائية؛ فكل مرتبة لها أجرها وثوابها والله يضاعف لمن يشاء بحسب النية والإخلاص غير أن الأجر الكبير والثواب العظيم يحصل حال تحول ذكر المقال إلى ذكر المحال؛حيث تتحول أداءات الذكر المقالية من علياء التنظير إلى الواقع المعاش الدال على مدى الاتساق الخارجي بين الذكر المقالي والذكر المحالي.فالإيمان بالصفات الإلهية وأسماء الله الحسنى لها عظيم الأثر في حياة الفرد والجماعة عندما تتحول إلى المرتبة المحالية؛وهي المستهدفة من خلال الترغيب في الذكر المقالي بشتى أداءاته وأشكاله إذ هو وسيلة لتحقيق غاية الذكر المحالي؛ فالله سبحانه وتعالى خلق الإنسان على هذه الأرض لعبادته،والعباد ة في بعدها العام لا تتم إلا بتنفيذ وصية الخلافة وتحقيق مبدأ الاستخلاف على الأرض بالإصلاح والإعمار والتشييد والبناء ونشر قيم السلم والسلام والمحبة والوئام.فالذاكر من المفروض أن يوجهه الإيمان بالصفات الإلهية إلى اكتساب قيم ومواقف من خلال تخلية نفسه من صفات النقص والعيب المؤدية إلى موت القلب،وفي نفس الوقت من خلال تحلية نفسه بتهذيب أخلاقه وتقويم سلوكه مع ربه ونفسه وجميع الكائنات،ومع انتقال الفرد الذاكر من المرتبة المقالية إلى المرتبة المحالية ومن الفردانية إلى الجماعية والمؤسساتية كلما عظم الأثر وكبرت الأهمية.فذكر المحال في بعده الجماعي يسعى إلى توحيد وجهة وأهداف الجماعة وفق ما تدل عليه الصفات من صلاح وفلاح،وتعاون وتكامل من أجل تحقيق مبدأ الاستخلاف على الأرض بالإعمار والإصلاح.وذكر المحال في بعده المؤسساتي يستفيد من الإيمان بصفات الله تعال في تربية النفوس وزجرها عن غيها وشرها.فالإيمان بصفتي السمع البصر يستلزم من الذاكر في كل محل أن يستحضر عظمة الخالق السميع البصير في تدبيره لكونه ومخلوقاته بمقتضى سمعه وبصره المطلقين الذين يطلع بموجبهما على أحوال عباده في أدق تفاصيلها ومجرياتها؛ فالله سبحانه وتعالى مطلع على كل الأقوال والأفعال في سرها وعلانيتها،وبذلك ينتقل ذاكر المحل إلى تخلية نفسه من كل الردائل والخبائث وتحلية بكل الفضائل والطيبات،فذاكر المحل يتخلى عن الكذب والافتراء والبهتان والغيبة والنميمة وقول شهادة الزور والبطش والظلم وغير ذلك من الردئل،ويتحلى بالصدق والأمانة والعدل والنزاهة والشفافية والاحسان وغير ذلك من الفضائل ومكارم الأخلاق.وذكر المحل باستحضار قدرة الله وإرادته تستوجب تجلي قدرة الله القادر عزوجل في إبداع الكون في أبهى صوره وأعظمها وما يحتويه من مخلوقات من الذرة إلى المجرة وأن كل ذلك مخلوق بقدرته وإرادته والله يفعل في ملكه ما يشاء ولا مبدل لحكمه وكل المخلوقات مفتقرة إليه.وتتجلى أهيمة الإيمان بصفة القدرة والإرادة في حياة الفرد والجماعة من خلال تبني مواقف وسلوكات موجهة في نسقها العام بحسب درجة الإيمان، وما الذكر المحالي إلا دليل قاطع على ترقي العبد الذاكر أرقى المراتب وأعلى الدرجات وما الذكر المقالي باختلاف تجلياته وأداءاته اللفظية في هذا المقام إلا أدناها ما بين المبتدأ والمنتهى والغاية والوسيلة.فإيمان العبد بقدرة الله وإرادته تلزم الفرد بأن لا يلجأ في الشدائد إلا إليه ولا يفر في الكرب إلا إليه ولا يعتمد في المصاعب والمصائب إلا عليه، فقد روي عن ابن عباس أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قال:((احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إذا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ وإذا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لو اجْتَمَعَتْ على أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لم يَنْفَعُوكَ إلا بِشَيْءٍ قد كَتَبَهُ الله لك وَلَوْ اجْتَمَعُوا على أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لم يَضُرُّوكَ إلا بِشَيْءٍ قد كَتَبَهُ الله عَلَيْكَ رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ)).فلا يلجأ الإنسان إلى ما لا ينفعه ولا يدفع عنه مكروه من المخلوقات ؛ومن يفعل ذلك فإنه في ضلال مبين،فالأمة الذاكرة لا تقبل في مجتمعها ظهور آفات تعطل الإيمان بصفتي القدرة والإرادة في أبعادهما المجتمعية باختلاف تجلياتهما الوجودية؛ لذلك كان حري بنا أن نستحضر صفات الله تعالى في حياتنا وأعمالنا لما لها من آثار وأهمية عظيمة عند التحلي بها في سلوكاتنا الفردية والجماعية.

[1] الوابل الصيب،تأليف ابن القيم ،[ص:91]تح: محمد عبد الرحمن عوض،دار الكتاب العربي ببيروت/لبنان،ط1،1405هـ/1985م
[2] الوابل الصيب،تأليف ابن القيم ،[ص:93]تح: محمد عبد الرحمن عوض،دار الكتاب العربي ببيروت/لبنان،ط1،1405هـ/1985م
[3] الفوائد تأليف: ابن القيم،تح : أبو خالد الحسين آيت سعيد ،[ص:133]،دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع ببيروت /لبنان،ط1،1991م