مسألة: متى يصح أن يقال عن قول أو فعل ما: إن هذا القول أو الفعل مذهب للسلف؟
الجواب: لقد نبه ابن تيمية على كثرة الغلط في هذه المسألة، وقال: "إنها مسألة عظيمة غلط فيها جملة من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم".
يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: "وهنا ثلاث طرق: طريقان معروفان للمحققين من أصحاب السنة، وطريق ثالث ذكره بعض الفقهاء، وأصله عن جملة من المتكلمين المنتسبين للسنة والجماعة.
وهو عند التحقيق -يعني: الثالث- من طرق أهل البدع، وليس من طرق أصحاب السنة والجماعة".
أما الطريقان المحققان لمعرفة أن هذا القول مذهب للسلف هما:
- الطريق الأول: "أن يستفيض هذا القول ذكراً عند الأئمة ولا يذكر غيره".
أي: أنك إذا نظرت أقوال الأئمة السالفين كالتابعين ومن بعدهم كالأئمة الأربعة وأمثالهم وجدت أن قولاً من الأقوال قد استفاض عندهم، ورأوا أنه هو السنة اللازمة، ولم يعرف عنهم خلافه، فإذا وجد مثل هذا واستفاض فإنه يكون مذهباً للسلف، وإذا كان مذهباً للسلف فالنتيجة أنه يجب اتباعه ولا يجوز مخالفته، ومخالفته بدعة وضلالة، كاستفاضة قولهم: إن القرآن ليس مخلوقاً، وأنه كلام الله، منزل من عنده ..
وكاستفاضة قولهم: إن أفعال العباد مخلوقة لله ..
فهذه جمل مستفيضة عن السلف والأئمة من أهل الحجاز والشام والعراق وغير ذلك".
- الطريق الثاني: "أن يحكي من عرف بقدر من التحقيق من أهل العلم أن هذا إجماع للسلف، كالإجماع الذي يذكره محمد بن نصر، وأبو عمر بن عبد البر وأمثال هؤلاء، فهؤلاء -أي: من عرف من أصحاب الأئمة بالتحقيق والانضباط في السنة- إذا حكوا إجماعات في مسائل وقالوا: إن هذا إجماع للسلف؛ فإن هذا الإجماع إذا لم يكدر عليه شيء فإنه يكون طريقاً لمعرفة مذهب السلف".
وأنت إذا تأملت الطريقين وجدت أنهما يرجعان في الجملة إلى الإجماع، فإن الإجماع إما أن يكون بتصريح عالم كـ محمد بن نصر أو كـ أبي عمر بن عبد البر أو أمثال هؤلاء، أو باستفاضة كلام من هو أجل من هؤلاء ممن تقدم بلا مخالف أو معارض منهم.
فإذا نص عالم من الأئمة والأكابر المعروفين بالسنة على أن هذا إجماع، ولم يكدر عليه شيء، فهذا مذهب للسلف، أو تواتر هذا القول نقلاً عنهم واستفاض.
فتحصل من هذا أن المعرفة بمذهب السلف ترجع إلى طريق واحد هو انضباط الإجماع، إما تواتراً معنوياً واستفاضةً للكلمة، أو تصريحاً من بعض الأعيان المعتبرين بأن هذا إجماع، ولو لم تستفض الكلمة بينهم.
-الطريق الثالث: وهو المزلة، وللأسف فإن بعض المعاصرين من طلبة العلم وغيرهم قد يقعون في شيء منه، وهو طريق الغلط.
يقول شيخ الإسلام: "إن هذا الطريق قد استعمله جملة من الفقهاء المنتسبين للسنة، المعظمين لطريق السلف وهو الفهم لكلام السلف، فإذا فهموا عن السلف كلاماً جعلوه مذهباً للسلف"، إذا فهموا جملة أو أعيان من السلف كلاماً جعلوه مذهباً للسلف.
قال: "وهذا له اطراد في كلام كثير من الفقهاء، فمن فقه من كتاب الله معنىً في أبوب أصول الدين، وتبين له أن هذا ظاهر من كلام الله جعل هذا مذهباً للسلف؛ لأن السلف عنده لا يخرجون عن ظاهر القرآن".
أي أنهم يقولون: عمن يقول عن قول من الأقوال: إنه مذهب للسلف مع أنه ليس فيه إجماع ولا استفاضة عن السلف، إنما فهم فهماً من قبل هذا الناظر، فهذا الفهم لما بان له باجتهاده أنه فهم منضبط، وأنه على وفق ظاهر النصوص، وأن النصوص تؤيده قال: إن هذا مذهب للسلف؛ لأن السلف لا يخرجون عن النصوص، فهو تحصيل لمذهب السلف بطريق الفهم وليس بطريق النقل، ومن هنا حملوا السلف ما لا يحتملوه.
وهنا تقول: إن الطرق التي استعملت تنقسم إلى طريقين:
الطريق الأول: تحصيل مذهب السلف نقلاً، وهذا صواب.
الطريق الثاني: تحصيل مذهب السلف فهماً؛ لأن من قال عن قول ما: إنه مذهب للسلف؛ فمعناه أن اتباعه يكون واجباً، وأن غيره يكون بدعةً، وأن الاجتهاد ولو كان من عالم كبير وهو مخالف لمذهب السلف فإنه لا يكون سائغاً، بل اجتهاده مخالف للحق ابتداءً ..
فهذا هو وجه التشديد في هذه الجملة.
ومن ذلك مثلاً: لا يصح لقائل أن يقول: إن من السنة السلفية إسبال اليدين بعد الرفع من الركوع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنه أنه وضع اليدين على الصدر بعد الرفع من الركوع ..
وهذه مسألة خلافية، وكون العالم أو المجتهد أو الناظر أو حتى طالب العلم يذهب إلى أن هذا هو القول الراجح، وأنه ظاهر النصوص عنده ..
هذا لا بأس به، لكن أن يجعله سنةً لازمة فلا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنه أيضاً أنه أسبل يديه بعد الركوع.
والفقهاء الكبار: كـ أحمد والشافعي ومالك وأبي حنيفة وأمثالهم، قالوا بأفهامهم في أقوال كثيرة، ومعهم ظواهر من النصوص قد تصل أحياناً إلى حد التصريح، ومع ذلك لم يعتبروا قولهم سنةً لازمة، بل اعتبروه قولاً، من ظهر له أن هذا القول موافق للقرآن وجب اتباعه، ومن لم يظهر له ذلك فلا يلزم اتباعه، ولا سيما أن مقام الظهور للحق في النصوص المحتملة مقام قد يتأخر ويختلف بحسب المجتهدين.
فالمحصل: أن مذهب السلف الذي ينسب إليهم ليس هو الآحاد الفقهية، فالآحاد الفقهية: هي محل خلاف في الجملة بين السلف، إنما مذهب السلف الذي يجب اتباعه هو ما انضبط بالإجماع أو استفاض نقله عنهم سواء كان في المسائل العلمية أو العملية، وأما إذا لم ينضبط انضباطاً بيناً فلا يجوز نسبته إلى السلف كمذهب، وإنما يذكر على أنه قول لطائفة من السلف، أو أنه محل نزاع بينهم، أو ما إلى ذلك.


من شرح اللمعة لابن قدامة