الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
سكتت المصادر الشرقية الإسلامية العربية والمسيحية عن علاقة الرشيد بالفرنجة , غير أن الكُتب اللاتينية تحدث عن هذه العلاقة خصوصاً بين الرشيد وشارلمان ( وهذه الكُتب يكتنفها الغموض والاضطراب ) .
ويبدو أن الصلات بدأت بين الطرفين عن طريق شارلمان حيثُ قام بإرسال وفدين إلي الرشيد [ سنة 797 وسنة 802 م ] , ورسولاً إلي بطريق القُدس [ سنة 799 م ] , فقام الرشيد بإرسال وفدين [ سنة 801 وسنة 807 م ] , بينما أرسل بطارقة القُدس أربعة سفارات على الأقل إلي شارلمان [ سنة 799 وسنة 800 وسنة 803 وسنة 807 م ] , وكان شارلمان هو البادئ بمُراسلة الرشيد .
وقد أراد شارلمان من خلال هذه السفارات والمُراسلات , أن يكسب ود وثقة الرشيد , وأيضاً رغبة شارلمان في فتح الأندلس وحاجته للدعم المعنوي من خليفة المُسلمين خصوصاً أن العلاقات بين الرشيد وبني أُمية في الأندلس يكتنفها شيءٌ من التوتر , ورغبةً منهُ أيضاً بالشُهرة والتفوق على إمبراطور البيزنطيين في الشرق ( نقفور ) , كما أنه أراد أن يظهر بمظهر الحامي للنصارى في البلاد الإسلامية , ورغبته أيضاً بالاستفادة من التألق العلمي والحضاري عند المُسلمين في ذلك الوقت , وأيضاً رغبة البابا في التواصل مع البطارقة في المشرق _ وهذه النقطة أيضاُ تُمثل رغبة شارلمان , لأنه لا يستطيع رفض طلب البابا لأنه هو من يعزل ويُعين الأباطرة وباعتباره أيضاً صاحب السُلطة العُليا في روما _ .
ويُقال أن الرشيد استجاب لهذه السفارات والمُراسلات _ حسب زعم الكُتب اللاتينية _ نتيجة العداء بينه وبين البيزنطيين , ورغبته في القضاء عليهم عسكرياً ومعنوياً , وأيضاً عداءه للأمويين في الأندلس ورغبته في بسط نفوذه عليهم .
وهذا زعمٌ بطل ومردود , فهل يُعقل أن يقبل الرشيد هذه السفارات والمُراسلات من أجل القضاء على البيزنطيين عسكرياً ومعنوياً , وهو من كان يغزوهم كُل عام ويُرسل الجيوش واحدة تلوا الأُخرى , ويُكبدهم الخسائر المادية والمعنوية , حتى أنه جعل ملوكهم يدفعون الجزية _ الإتاوة _ وهم صاغرين ؟! , وهل يُعقل أن يتحالف الرشيد مع شارلمان من أجل القضاء على بني أُمية في الأندلس ؟! , وهل يجوز لخليفة مُسلم أن يتفق مع نصراني من أجل القضاء على مُسلمين ؟! , وهل من المعقول أن يُفكر الرشيد باسترجاع الأندلس من الأمويين في وقت اضطُر فيه إلي أن يتخلى عن سُلطته الحقيقية في تونس ( إفريقية ) وبلاد المغرب ؟! , كما أن العلاقات لم تكن سيئة بين الرشيد والأمويين في الأندلس لدرجة أن يتحالف مع دولة الكُفر الغربية من أجل القضاء عليهم ! , ثم أن الطرفان العباسي والأموي لم يُلحقا أي ضرر ببعضهما ! .
وخُلاصة الحديث , إن سكوت المصادر الإسلامية والعربية بل حتى المسيحية عن هذه العلاقة يجعلها في حيز التاريخ غير الموثوق , وقد مال كثير من المؤرخين إلي أن هذه العلاقة لم تتجاوز العلاقات التجارية , وأن ما حصل من مُقابلة الوفود للرشيد وشارلمان لم تزد عن حدود المُجاملات التجارية , وأن إرسال الهدايا والتُحف يؤكد ذلك , حرصاً من التجار على
تأمين سوق لتجارتهم في كلا الدولتين , وهذا سر سكوت المصادر القديمة والمُعاصرة لهذه الفترة عن هذه السفارات , لأن المؤرخين وجدوها لا تستحق الذكر والتأريخ (1) .
_ كتبه : أبو الليث الصنهاجي ...
23 / ربيع الآخر / 1436 هـ .
12 / 2 / 2015 م .
______________________________
1_ العصر العباسي الأول / د. عبد العزيز الدوري / ص116-121 ؛ هارون الرشيد " الخليفة المظلوم " / الشيخ : أحمد القطان , أ . محمد طاهر الزّين / ص123-124 ؛ مُحاضرات تاريخ الأمم الإسلامية " الدولة العباسية " / الشيخ : محمد الخصري بك / تحقيق الشيخ : محمد العثماني / ص153 .( بتصرف شديد ) , وأرى أيضًا أنه يوجد صلات علمية إلي جانب التجارية , وذلك أن بغداد عاصمة العباسيين في بلاد الرافدين كانت معقل العلم والحضارة وبلغت أوج رُقيها العلمي والحضاري في عهد الرشيد , وكذلك قُرطبة عاصمة الأمويين في الأندلس كانت معقل العلم والحضارة وبلغت أوج رُقيها العلمي والحضاري في عهد عبد الرحمن الداخل ، والذي كان يُعاصر الرشيد , بينما كانت أوروبا تغرق في ظلام الجهل والتخلف العلمي والحضاري , فمن المؤكد أن شارلمان وغيره من الأباطرة أرسلوا وفودًا إلي بلاد الإسلام لتنهل من العلم الزاخر والحضارة الراقية هُناك , وكُتب التاريخ شاهدة على هذه الوفود العلمية الأوروبية لبلاد الإسلام سواء قبل أو بعد أو في عهد الرشيد .