في الرواية المشهورة في المذهب الحنبلي أن خطبة الاستسقاء تكون بعد الصلاة، واستدلوا على ذلك بحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا يَسْتَسْقِي، فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ بِلَا أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ، ثُمَّ خَطَبَنَا وَدَعَا اللَّهَ وَحَوَّلَ وَجْهَهُ نَحْوَ الْقِبْلَةِ رَافِعًا يَدَيْهِ، ثُمَّ قَلَبَ رِدَاءَهُ فَجَعَلَ الْأَيْمَنَ عَلَى الْأَيْسَرِ وَالْأَيْسَرَ عَلَى الْأَيْمَنِ([1]).
ولكن هذا الحديث ضعيف لا يصح.
واستدلوا أيضًا على أنَّ الخطبة بعد الصلاة بحديث ابن عباس رضي الله عنهما: ((ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، كَمَا يُصَلِّي فِي العِيدِ)).
قالوا: صرح ابن عباس رضي الله عنهما بأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الاستسقاء كصلاة العيد، ومن المعلوم أنَّ خطبة العيد تكون بعد الصلاة.
قلت: وهذا استدلال غير صحيح؛ لأمرين:
الأمر الأول: أنَّ ابن عباس رضي الله عنهما ذَكَرَ صفةَ الصلاة ولم يذكر صفة الخطبة؛ والدليل على ذلك أنه ذكر في نفس الحديث أنَّ الخطبة قبل الصلاة؛ حيث قال: ((وَلَكِنْ لَمْ يَزَلْ فِي الدُّعَاءِ، وَالتَّضَرُّعِ، وَالتَّكْبِيرِ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، كَمَا يُصَلِّي فِي العِيدِ))([2]).
الأمر الثاني: أنَّ الاستدلال بحديث ابن عباس على كون الخطبة بعد الصلاة استدلال بالمفهوم؛ والقاعدة: أنَّ المفهوم إذا عارض المنطوق، قُدِّم المنطوق.
قلت: والصحيح – وهو رواية أخرى عن أحمد([3]) - أنَّ الخطبة تكون قبل الصلاة؛ ودليل ذلك حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ المَازِنِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا يَسْتَسْقِي، فَجَعَلَ إِلَى النَّاسِ ظَهْرَهُ يَدْعُو اللهَ، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ([4]).
فدل على أَنَّ الخطبة قبل الصلاة؛ لأنَّ الدعاء والاستغفار هو خطبة الاستسقاء.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَبَذِّلًا مُتَوَاضِعًا، مُتَضَرِّعًا، حَتَّى أَتَى الْمُصَلَّى، فَرَقَى عَلَى الْمِنْبَرِ، وَلَمْ يَخْطُبْ خُطَبَكُمْ هَذِهِ، وَلَكِنْ لَمْ يَزَلْ فِي الدُّعَاءِ، وَالتَّضَرُّعِ، وَالتَّكْبِيرِ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، كَمَا يُصَلِّي فِي العِيدِ([5]).
[1])) أخرجه أحمد (8327)، وابن ماجه (1268)، وابن خزيمة (1422)، والبيهقي في ((الكبير)) (6401)، من طريق النعمان بن راشد عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة، به، قال ابن خزيمة: ((في القلب من النعمان بن راشد؛ فإن في حديثه عن الزهري تخليط كثير))، وقال البيهقي: ((تفرد به النعمان بن راشد عن الزهري))، وقال الألباني في ((الضعيفة)) (12/ 285، 286): ((منكر بذكر الخطبة بعد الصلاة.. وقال البيهقي: "تفرد به النعمان"، قلت: قال البخاري في "التاريخ" (4 / 2 / 80): "في حديثه وَهَمٌ كثير، وصدوق في الأصل"، وقال أحمد: "مضطرب الحديث، روى مناكير"، وضعفه آخرون؛ ولذلك؛ قال الحافظ في "التقريب": "صدوق سيئ الحفظ".
قلت: فمن كان هذا حاله فأحسن أحواله أن يستشهد بحديثه ويتقوى بغيره، وأما أن يحتج به فلا))اهـ كلام العلامة الألباني.
[2])) تقدم.
[3])) ذكرها في ((المغني)) (2/ 321).
[4])) متفق عليه: أخرجه البخاري (1012)، ومسلم (894).
[5])) تقدم.