أوضح وزير العدل عضو هيئة كبار العلماء الدكتور محمد بن عبدالكريم العيسى أن الفتوى الشرعية قول على الله تعالى، فإما أن تكون بعلم أو بغير علم، مشيراً إلى أن هذه تختلف عن مسألة أن تكون صحيحة، أو غير صحيحة، فالأُولى إما أن تصدر عن جاهل، أو صاحب هوى، أما الثانية فهي تتعلق بالاجتهاد، ممن يملك آلةَ الاجتهاد لكنه أخطأ في اجتهاده.
وقال دكتور العيسى عبر برنامج: «الوسيط في التفسير» في إذاعة القرآن الكريم: إن الفتوى لا يتصدر لها إلا من هو راسخ في علوم الشريعة، بصيرٌ بأحوال الناس؛ لأن الفتوى في الجملة وبضوابط شرعية، تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والعوائد والنيات والأشخاص.
وفرق بين الفقيه، وحامل الفقه، لكن الناس كثيراً ما يخلِطون، فمتى رأوا الحافظ الذي يهذ العلوم هذاً، ويحفظ الأسانيد والروايات يظنونه فقيهاً؛ ولذلك جاء في الحديث: «ربَّ حامل فقه ليس بفقيه»، ويُورطهم بإظهار أنه على فقهٍ، من خلال سرد أقوال الفقهاء بينما تجد سردَهُ غيرَ صحيح، أو أنه في غير محله.
والفقيه من صفاته أنه يتأسى بأسوته وقدوته صلى الله عليه وسلم، وهو الرحمة بالناس، والرفقُ بهم، وتوخي التيسير عليهم، وكما يقال تولى فلان القضاء، يقال أيضاً تولى شأن الفتوى، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً، فرفق بهم، فارفُق بهم، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً، فشق عليهم فاشقق عليه».
فلا بد من الرفق بالناس والرحمة بهم وهي ركيزة المفتين والدعاة، ولا يعني هذا إذابةَ الدين أو تجاوُزَ نصوصِهِ، فما جاءتْ هذه النصوصُ إلا بالرَّحمة والرفق، لكن كثيراً من الناس لا يَروق له إلا التخلصْ منها؛ لهواهُم وشهواتِهم.
وقد جاء في دُعا المؤمنين: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}، فهذه الرحمة التي سألوها، فيها الرفق بالخلق، التي من خلالها يَرفُقون بها مع الناس، ويرحمونهم، ويحملون النصوصَ على مقاصدها.
ويخطئ من يفتي الناس، ويظن أنه بتشديده عليهم يحتاط للدين، والاحتياط للدين، يشمل الحلال والحرام، فتحريم الحلال كتحليل الحرام، بل إن بعض أهل العلم قال إن تحريم الحلال أشد إثماً؛ لأن الأصل في الأشياء الحل والإباحة، وقد سوى الله تعالى بين الحلال والحرام في هذا الشأن حيث يقول سبحانه: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حلال وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ }، ومن التشديد على الناس توسيعُ باب سد الذرائع؛ لأن سعة بابه، تطال ما أحل الله لعباده.
وحول سؤال عن أن هناك ذرائع يخشى حقيقة أن تؤدي للحرام، أجاب الشيخ العيسى قائلاً: هذا صحيح، لكن هذه تُسد، وأنه يمكن اختصار باب سد الذرائع في ثلاثة أمور:
– إذا كانت الذريعة تفضي للمفسدة قطعاً أو بغلبة ظن، فهذه تسد بإجماع أهل العلم.
– إذا كانت الذريعة تفضي للمفسدة نادراً، فهذه لا تسد بإجماع أهل العلم.
– ثالثاً إذا كانت الذريعةُ تُفضي للمَفْسدة ظناً، نقصد بذلك أنه لم يصل لغلبة الظن، بل هناك شك، فهذه فيها خلاف، فقيل تُسد، وقيل لا تسد، وقيل يَرجع أمرُها للحاكم، بحسب الأحوال.
والصحيح أنها ما دامت ظناً، فلا تسد؛ لأننا لو توسعنا في ذلك لحرمنا على الناس كثيراً مما أحله الله لهم، فالظن والشكُّ لا يخلو من كثير من الحالات، أما من قال: تعود للحاكم، فهو يقول: قد يرى أن حال الناس تغيرت، ونقول هنا: إذا تغيرت الحال، فلم يعد الأمر شكاً أو ظناً فقط، بل يرتقي إما لغلبة الظن أو ربما اليقين، فعندئذ لا يدخل في هذا القسم الثالث.
ولذلك من يتصدر للإفتاء أو للدعوة لا بد له من شروط من بينها:
1-أن يكون ملماً بجملة من العلوم الدينية والعلوم الدنيوية.
2-أن يكون له أفق سياسي
3-تاريخي
4-اجتماعي
5-اقتصادي.
6-على قدر كاف أيضاً من الاطلاع على الثقافة العامة.
7-أن يكون أيضاً سوياً في جانبه الاجتماعي والنفسي.
فكثير من المفتين قد يفتي، ثم لما يقف على واقع الأمر وحقيقته وأبعاده يتراجع بعد أن بلغت فتواه ما بلغت، كما أنه من المهم أن يكون من يتولى شأن إفتاء الناس على قدر كاف أيضاً من الاطلاع على دساتير الدول وأنظمتها وثقافاتها، وشيخ الإسلام ابن تيمية، لما احتاج في سجاله العلمي، إلى تعلم منطق اليونان، تعلمه حتى رسخ فيه، ثم انتصر على المناطقة، وأبطل نظرياتهم وفلسفاتهم الفاسدة.
ولا يمكن أن يقبل منك أي عاقل أن تتحدثَ عن شيء أو تحكمَ عليه، حتى يقطعَ بأنك على دراية وتصور كاف عنه، والحكمُ على الشيء فرع عن تصوره.
ولا يمكن لأي عاقل أن يقبل منك الكلام العام والطرح المجمل؛ بل هذا يؤكد أنه لا علم عندك بما تتحدث عنه أو تحكمُ عليه.
ثم أسهب الدكتور العيسى في ذكر المثال، فقال: مثل الحكم على دساتير، وأنظمة الدول، لا يصح أن تقول بكلام مجمل: إنها فاسدة ومحادة لحكم الله، بل الصحيح أن تطلب من السائل أن يحدد أيَّ دستور أو أيَّ نظام، ثم تطلعَ عليه، فما كان فيه من حق، فيقالُ فيه كلمةُ الحق، ويقال كذلك إن الإسلام سبقه إلى هذا الحق لأن ديننا لم يترك خيراً إلا دلنا عليه، وما كان فيها من باطل يوضح بطلانه وفسادُه، فضلاً عن أن أصل كليات العدالة يتفق عليها العقلاء لكن يختلفون في تفاصيلها.
طبعاً هذا غيرُ الجوانب الثقافية والسلوكية وجانب التوسع في الحريات، حتى التوسع في الحريات، تجد في بعض أنظمة الدول حريات مقبولةً وأخرى غيرَ مقبولة وهي في نظام واحد، فينوه بالأولى وينبه على الأخرى بالتفصيل.
وسبق معنا أن شيخ الإسلام ابن تيمية تعلم منطق اليونان وكان -رحمه الله- منصفاً في ذلك فقبل الحق وطرح الباطل وبيّن أن الحق له أصل في شرعنا، المهم أن من يتصدر لذلك لا يقفُ الموقفَ المجملَ الصَّادر بإطلاقٍ إلا من لا يملك هذه الأدوات.
وإذا كانت شروط الفُتيا في السابق صعبة المنال، فهي اليوم أشدُّ صعوبة، والخطر اليوم في التساهل فيها أكبر.
وبعض الفتاوى في عالمنا الإسلامي مسيئة للإسلام وتصفه بالقصور والعجز عن مواكبة زمنه، وبالتالي تُبعد الناس عنه، وتنفرهم منه، ومن يقع في هذا من المفتين، تجده يظن أنه يَحتاط للناس، يحتاط للأمة، وهو قاصرٌ في تَصَوِّره، مُخْطِئٌ في ظنِّه، خَارجٌ عن جادِّة الصَّوَاب.
ولذلك عندما وضع علماؤنا قاعدة اختلاف الفتوى باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال والأشخاص والعوائد والنيات، وذلك طبعاً بضوابط معينة، كانوا مدركين بأن النص الشرعي مرنٌ؛ فهو للزمان والمكان.
لأن دين الإسلام دين خاتَم، بخلاف الأديان السابقة التي كانت لحِقبة زمنية، ثم يأتي رسول آخر، يكمل الرسالةَ للحِقبة الأخرى، فمؤهلات من يتصدر للإفتاء يصعب الوصول إليها، ولا يعني هذا عدمَ إفتاء الناس في الأمور التي لا علاقة لها بما ذكرنا من توسع، وخاصة الأسئلةَ المتعلقةَ بالعبادات.
فقد يكون لدى الشخص علمٌ في العبادات كاف لأن يفتيَ فيها، فهذا ليس بحاجة إلى أن يكون لديه الثقافة والاطلاع الذي أشرنا إليه.
وكثيراً ما يحصل الخطأ على الشريعة بفتاوى، ليس لدى من يفتي فيها فهم بدلالة النصوص، ومقاصدها، ولا بأحوال الناس، ولا قواعد الشريعة الأخرى، وخاصة مباحثَ الحاجيات والضروريات والكماليات، والترتيبَ بين المصالح والمفاسد.
وكذا قاعدةَ عموم البلوى، ومنها إذا ضاق الأمر اتسع وإذا اتسع ضاق، في جملة قواعد السياسة الشرعية، لكن من وظف هذه القواعد لتمرير مطالب الأهواء والشهوات بتكلفات التأويل؛ فهو من جملة تحريف الكلم عن مواضعه، والشعار في هذا هو تقوى الله تعالى، على أننا نشير في هذا، إلى أنه يوجد في بعض من يتصدر للفتوى، تأثرُ فتواه بشكل واضح، بمنهجه في التفكير وبجانبه النفسي وسلوكياته، فمن تغلب عليه من هؤلاء نزعة الشدة والحدة، تجد فتواه تميل مع الأسف نحو العُسر وسوء الظنِّ بالناس، ومن ثم التشديد عليهم في الاحتياط، حتى يُضيقَ عليهم دينَهم ويُحَرِّمَ عليهم ما أحله الله لهم، وتجد هذا أيضاً في ردوده فتلقاها تتصف بالعبارات الحادة، وأحياناً الخروجْ عن قواعد الحوار والأدب.
والمشكلة أن كلَّ ما يصدُر عنه في هذا ينسبُهُ للدين، ودينُ الله برئ من حدَّته، وسوء أدبه، ومع هذا تجده يتكلفُ في تتبع ما يمكن أن يجدَ من خلاله ذريعةً؛ لتسويغ خطئه وتجاوزه على الله.
ثم أكد الشيخ الدكتور محمد العيسى على أن من المفتين من يقدم الإسلام للعالمية، على حين يحصر بعضهم سعة الشريعة في نطاق ضيق، وتابع فضيلته قائلاً: عالمية الشريعة ورحمتها ورفقها بالخلق لا تعني تخطي النصوص والتلاعب في تأويلها، والتوازن في هذا لا يحسنه إلا أهل العلم والإيمان.