المعتبر في تكفير أهل البدع هو قول السلف، وقد قسموا الطوائف المبتدعة على ثلاثة أصناف:
صنف أجمع السلف على تكفيرهم وهم غلاة الجهمية
وصنف ترددوا في تكفيره وهم الخوارج والروافض
وصنف لم يتنازع الأئمة في عدم تكفيرهم كالمرجئة والشيعة المفضلة،
كما أن لأهل السنة قاعدة نفيسة في هذا الشأن وهي أنه لا يلزم من عدم تكفير قائل البدعة أن تكون أقواله غير كفرية.
أقسام الطوائف عند السلف

[وهذا يبنى على أصل آخر، وهو تكفير أهل البدع، فمن أخرج الجهمية منهم لم يكفرهم، فإنه لا يكفر سائر أهل البدع؛ بل يجعلهم من أهل الوعيد بمنزلة الفساق والعصاة، ويجعل قوله: "هم في النار" مثل ما جاء في سائر الذنوب، مثل أكل مال اليتيم، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً [النساء:10] ومن أدخلهم فيه، فهم على قولين، منهم من يكفرهم كلهم، وهذا إنما قاله بعض المستأخرين المنتسبين إلى الأئمة أو المتكلمين] .

قول المصنف: "وهذا يبنى على أصل آخر، وهو تكفير أهل البدع"
هذا التقرير الذي ذكره المصنف إنما هو تقرير المتأخرين من أهل السنة، فهم الذين فصلوا من جنس هذا التفصيل.
وأما المعتبر في مسألة تكفير أهل البدع فهو المأثور عن السلف، وهو ما أبانه المصنف بقوله: وأما السلف والأئمة فلم يتنازعوا.. إلخ. إذاً التقرير السابق هو تقرير المتأخرين، وليس هذا التقرير على وجه تام من التحقيق، بل فيه بعض القصور والتردد، وإنما المعتبر في مراد شيخ الإسلام رحمه الله -وهو المعتبر الشرعي الصحيح- هو ما كان دارجاً عند السلف ومستقراً عندهم رحمهم الله.
وقد بين في كلامه هذا أن الطوائف عند السلف في الجملة تنقسم إلى ثلاث طوائف:

الطائفة الأولى: طائفة أجمع السلف على عدم كفرهم.

الطائفة الثانية: طائفة حصل في كلام السلف تردد أو تنازع في كفرهم.

الطائفة الثالثة: طائفة قد استقر الأمر على كفرهم. وهذا التقسيم إذا ذكر فهو باعتبار المعاني والحقائق ولا يلزم أن يكون باعتبار الأعيان، فإن هذا الاطراد قد لا يكون متحصل العلم على الضرورة.
الطوائف التي لم يتنازع السلف في عدم تكفيرها

[وأما السلف والأئمة فلم يتنازعوا في عدم تكفير المرجئة والشيعة المفضلة، ونحو ذلك].
هذا هو النوع الأول، وهو الطوائف التي لم يتنازع السلف في عدم كفرها، وقوله: "في عدم تكفير المرجئة والشيعة المفضلة" لا يعني انحصار هذا النوع في هاتين الطائفتين.

والشيعة المفضلة هم الذين يفضلون علياً على أبي بكر وعمر ، فبدعة التفضيل عند الشيعة بإجماع السلف ليست من البدع الكفرية. أما المرجئة فهم: من أخرج الأعمال -إما الظاهرة فقط، أو الظاهرة والباطنة- عن مسمى الإيمان، وهذا الذي عليه عامة المرجئة، وهؤلاء -أيضاً- لم يتنازع السلف في عدم تكفيرهم.
فإذا قيل: إن جهم بن صفوان من المرجئة، وفي تكفيره والجهمية كلام معروف للسلف.

قيل: جهم بن صفوان ومن معه يعتبر القول في تكفيرهم بجملة أصول، أعظمها وأجلها: قولهم في باب الأسماء والصفات، فهو أشد أغلاطهم وضلالاتهم.. هذه جهة.

الجهة الثانية: أن قول جهم بن صفوان في مسألة الإيمان قد نص غير واحد من السلف على أنه كفر إذا ما التزم جهم ظاهر مقالته، فإنه يقول: إن الإيمان هو المعرفة.

فمن التزم أن الإيمان هو المعرفة -بمعنى العلم الإدراكي الذي لا يصاحبه قبول- وجعل هذا هو الإيمان الذي أوجبه الله ورسوله، فلا شك أن قوله هذا كفر؛ لأنه يلزم منه أن يكون اليهود والكفار مؤمنين أي: إذا ما فسر الإيمان بالعلم أو بالمعرفة التي هي محض الإدراك للمسائل أو للمعاني، وإن لم تقع استجابة وإذعان وقبول، فلا شك أن هذا القول كفر؛ لأنه يلزم منه أن اليهود وفرعون مؤمنون؛ لقول الله تعالى في اليهود: يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146] ولقوله في فرعون ومن معه: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْ هَا أَنْفُسُهُمْ [النمل:14].

إذاً: إنما قرر من قرر من السلف في قول جهم في الإيمان أنه كفر؛ لهذا الاعتبار. أي: إذا ما قصر الإيمان على العلم أو المعرفة الإدراكية المحضة التي ليس معها قبول فهذا القول كفر؛ لأنه قطع لامتياز الإسلام عن غيره من الملل، وتسوية بين الإسلام واليهودية وكفر فرعون... إلى غير ذلك، وهذا لا شك أنه كفر. فإذا قيل: هل جهم يقول بذلك؟

قيل: من تكلم من السلف في مقالته فعلى هذا المراد.
وأما أن جهم يقول ذلك أو لا يقوله فهذه مسألة سبق أن بينا أنها مسألة محتملة ومترددة. [ولم تختلف نصوص أحمد في أنه لا يكفر هؤلاء] .
قال: ولم تختلف نصوص أحمد أنه لا يكفر هؤلاء، مع أن الإمام أحمد وردت عنه رواية أن قول جهم بن صفوان في الإيمان كفر، وقد نقلها شيخ الإسلام عن الإمام أحمد في مسألة قول جهم ، وهذا ليس تعارضاً في كلام الشيخ، فإذا ما كان كذلك فهو على التفسير السابق.
القول بتكفير جميع أهل البدع ليس قولاً للسلف
[وإن كان من أصحابه من حكى في تكفير جميع أهل البدع -من هؤلاء وغيرهم- خلافاً عنه أو في مذهبه] .
وقد تقدم أنه لا يعتبر تقرير المتأخرين في فهمهم لكلام المتقدمين إلا إذا حكوا الإجماعات، وأما تحصيل مذهب السلف في أي باب من الأبواب -وهذا الباب منها، وهو باب التكفير- بمحض الفهم، حتى لو كان المحصل من أهل السنة، فإن تحصيله لا يلزم، وأما إذا بنى تحصيله على النقل استفاضةً أو إجماعاً فإنه يلزم.

وقد يعترض معترض، فيقول: يلزم من هذا أن تحصيل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لمذهب السلف لا يعتبر جميعه.. فما الجواب؟
نقول: أمثال شيخ الإسلام من المحققين لا يمكن أن يجزموا بقول ما أنه مذهب للسلف إلا وقد انضبط عندهم النقل فيه، فهو ممن يقرر هذه القاعدة، بل هو الذي قررها: أن مذهب السلف لا يعتبر بالفهم وإنما يعتبر بالنقل.

وعليه: فكل ما جزم شيخ الإسلام بأنه مذهب للسلف فهو قد انضبط عنده نقلاً: إما استفاضةً وإما إجماعاً، وإنما التعليق الذي يشار به لا إلى أمثال شيخ الإسلام من المحققين، فإن المحققين من المتأخرين لا يلتزمون ذكر مذهب السلف إلا فيما انضبط نقله، بالإجماع أو الاستفاضة، وإنما ينبه في ذلك إلى بعض أصحاب الأئمة كبعض أصحاب أحمد وغيرهم؛ فإن كثيراً من أصحاب أحمد وغيرهم إذا ذكروا مسألة تكفير أهل البدع قالوا: وفيها قولان للأئمة. فبعض الشافعية يقول: فيها قولان للشافعي .
وكثير من الحنابلة يقولون: عن أحمد روايتان في هذا: التكفير وعدم التكفير
..

والحق أن إطلاق القول بتكفير أهل البدع أو عدمه ليس قولاً لواحد من السلف، فليس هناك إمام من أئمة السلف -لا أحمد ولا غيره- نطق بتكفيرهم أو عدمه على الاطراد، بل هذا حكم ممتنع في الشرع وممتنع في العقل، فإن البدع تختلف، والطوائف تختلف... إلى غير ذلك، فمن الممتنع عقلاً وشرعاً أن يذهب ذاهب إلى أن هذا الكفر يطلق إثباتاً، أو يطلق نفياً.
وعليه: فجمهور تقرير المتأخرين لمسألة تكفير أهل البدع إما أن يكون غلطاً محضاً، وإما أن يكون دخله شيء من التقصير، وهذا كلام يلتزم على ظاهره. وهذا يدل على أن هذه المسألة مسألة استقراء في كلام السلف أنفسهم، وفي كلام المحققين من أصحابهم من المتأخرين كأمثال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. [حتى أطلق بعضهم تخليد هؤلاء وغيرهم، وهذا غلط على مذهبه وعلى الشريعة] .
وعلى مذهبه: أي: مذهب الإمام أحمد ، وغلط على الشريعة: أي: على الديانة؛ فإن الدلائل الشرعية تمنع هذا الإطلاق بتكفيرهم أو عدمه


شرح حديث الافتراق [7] - للشيخ : ( يوسف الغفيص )