تُعدُّ الرؤى المنامية من الأدلة الصحيحة على تغيُّر الحال والمآل ، بشرط صحة تعبيرها ، وموافقتها لأصول التعبير . وقد افتتحت نبوة سيِّد الخلق صلى الله عليه وسلم برؤيا صالحة .
والتوفيق فيها باب مدح ، لأن الله امتن بذلك على يوسف عليه السلام بقوله: ” وكذلك يجتبيك ربُّك ويُعلِّمك من تأويل الأحاديث ” ( يوسف :6 ) .
والدلالة الأصولية لهذه الآية تفيد وجوب معرفة مواطن الخطأ والصواب في تأويل الرؤى .
ومدارسة الرؤى ليست حراماً ولا جُرماً في واقع الناس كما يُعيَّر به أهل الإستقامة في عصرنا من العلمانييِّن وأفراخهم .
بل إن الرؤى – في أقلِّ أحوالها – تُهذِّب خُلق المسلم ، كما في المرفوع : ” أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثاً ” أخرجه مسلم .
والعالم الفرنسي ” شارل رينيه” أثبت في مقالاته أن للرؤى تأثيراً في المستقبل بهيئة معجزة لا تُوصف ، وفي هذا ردٌّ على المتأسلمين ممن يطعنون في الرؤى . فاليهود والنصارى يعتقدون بحقيقة الرؤى والمنامات لكن بمقامات متعدِّدة ومتباينة .
وإذا كانت الأمثال والقصص يُستدلُّ بها عند عوام الناس وخواصِّهم ، فالرؤى أولى بالاستدلال إذا صح مأخذها وثبت وقوعها من مُخْبرٍ صادق ، لأن أصلها ثابت .
وبعض المسلمين اليوم يستدلون بالاختراعات العلمية ونظريات الغرب، بينما تهمل الرؤى المنامية وتُرمى بحجة مصادمتها للواقع وضعف تأثيرها .
فإذا كانت النظريات والاختراعات العلمية قامت على الملاحظة والتجريب ، فإن الرؤى المنامية قائمة على الملاحظة والقياس والأمثال ومعرفة أحكام اللِّسان العربي .وهذه حجة عقلية يردُّ بها على المنكرين للرؤى .
بعض المسلمين لا يثقون بالرؤى لعدم معرفة أحكامها الأصولية وإعجام أصولها عند العوام وغيرهم من المثقفين .
· الأحكام الأصولية للرؤى المنامية :
1- الرؤى غيب والإيمان بشواهد الغيب واجب :
فالله تعالى عالم الغيب والشهادة ، والرؤى غير محسوسة ، لكنها مشهودة ، وهي قَدَر قدَّره الله ، شاء من شاء وأبى من أبى .
وقد صح عن أبي سلمة رضي الله عنه : ” لقد كنتُ أرى الرؤيا فتمرضني حتى سمعتُ أبا قتادة يقول :وأنا كذلك حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ” الرؤيا الحسنة من الله ” متفق عليه . فهي شاهدة على قدرة الله لمعرفة حكمته وتدبيره
2- الرؤى لها تعلُّق بالروح وهي من أمر الله
فالعلم المادي إلى هذه الساعة لم يقف على حقيقة هذا التعلُّق المعجز ، ولم يتعرَّف على كُنه الرؤى وكيفية حدوثها بدقة ،. ولهذا تخبَّط الغربيون وعلماء النفس ك ” فرويد ” و ” يونج” ممن قالوا إن الرؤى صراع من أجل الغرائز أو تراكمات شخصية لا شعورية .والصحيح عند الأصوليين أن للرؤى معاني وفوائد ودلالات يعرفها الراسخون ، وبعضها يقوي العزائم ويجدِّد التوبة
3- الرؤى اعتقادات يخلقها الله في القلب :
وقد قرَّر هذا المعنى الإمام المازري (ت: 536هـ) رحمه الله تعالى حين قال : ” الله يخلق في قلب النائم اعتقادات كما يخلقها في قلب اليقظان ، وهو سبحانه يفعل ما يشاء لا يمنعه نوم ولا يقظة ” . وقد وافقه على هذا الإمامان النووي (ت: 676هـ) وابن حجر(ت: 852هـ ) رحمهما الله تعالى.
4- الفرق بين الرؤيا والرؤية :
وفائدة التعرف على الفرق بينهما مهم ، فبه تتميز الرؤى الحقيقية والرؤى المتخيَّلة ، فالرؤيا المنامية أحداث متسلسلة ومنطقية ، وتعبيرها بأُصول العلم والأمثال لا بالظن ، فإن خالفت الأصول المعتبرة للرؤى أضحت اعتقاداً للرائي أو للمعبِّر الذي تميل إليه النفس، لأنهما ينطقان بما تكن صدورهما لا بالعلم الموافق للحق . وقد قصد الرسول صلى الله عليه وسلم هذا المعنى بقوله : ” الرؤيا من الله والحلم من الشيطان ” أخرجه البخاري. وقد تقرر عند الأصوليين وجوب التمييز بين القياس الصحيح والفاسد ، وفي الحديث إشارة إلى مراعاة هذا الأصل
5- الرؤيا درجات فلا يجوز التعميم في أحكامها :
من الخطأ النظر في رؤيا الناس بدرجةٍ واحدة ، فرؤيا الكافر تختلف عن رؤيا المسلم ، ورؤيا الفاسق تختلف عن رؤيا الصالح ومستور الحال ، ومشاهدة الرائي ومعرفة حاله نصف التعبير ، فلا يجوز إهمال هذا الباب والاعتماد على سرد الرؤيا فقط كما هو مشاهد اليوم . أو تعبير رؤيا المجاهيل .
وبعض الرؤى تكون حجة على صاحبها يعرفها من نفسه ، وبعضها يُلْهم الإنسان الحق فيها وإن كانت عامة لا تتعلَّق به . وبعضها دقيقة مبهمة لا يعرفها إلا البصير من الناس الحاذِق بالمعاني . وقد تقرر عند الأصوليين أن المجتهد إذا اجتهد في مسألة فلا يجوز له إلزام الناس باتباع قوله
6- توافق الرؤى دليل على صحة المخبر عنه
تواتر الرؤى في واقعة معينة يُبعد شبهة استحالتها ، وهذا ما يُسمَّى بالتواطؤ عند الفقهاء والأصوليين . وقد استدل ابن حجر رحمه الله تعالى بحديث رؤيا بعض الصحابة لليلة القدر في السبع الأواخر بحديث ابن عمر رضي الله عنهما المشهور، وقال : ” في الحديث دليل على جواز الاستناد على الرؤيا في الأمور الوجودية بشرط أن لا يخالف القواعد الشرعية ” .
والمقصود بالقواعد الشرعية الأصول العامة لسنن الله في الخلق والأحكام والتدبير . وهذه لا يُحسنها إلا الراسخون .
7- حصر أنواع الرؤى ليس له دلالة :
وهذا التقعيد صحيح ، فقد يوجد رؤى لا معنى لها ،فعلماء التشريح يرون أن من غلبت عليه السوداء رأى الأموات والأهوال والدمار ، ومن غلبت عليه الصفراء رأى النار والمصابيح ، ومن غلبت عليه البلغم رأى رأى الباض والمياه والأمواج ، ومن غلب عليه الدم رأى الرياحين وما يبهج النفس من سرور . وهي أسباب من تقدير الله . وما صح سببه وجب تقديره .
وقد تتوارد هذه الأخلاط للرائي في سنة واحدة بسبب نشاطه وفتوره ومرضه ، فيجب على المعبِّر التنبُّه لهذا الأمر فلا يغتر بالرؤيا بل يجب عليه التريث في فك رموزها وبيانها .
8- التأويل بالدلالات جائز وله أصل
وفائدته نقض التركيب في الرؤى ومعرفة المنحول منها ، والتميِّيز بين الرؤيا الصحيحة والمركبة ، والعامة والخاصة ، والقوية والضعيفة . وقد روي عن ابن سيرين ( ت: 110هـ )رحمه الله تعالى أن امرأة سألته أنها رأت في منامها رجلًا مُقيَّدا مغلولًا، فقال لها :” لا يكون هذا لأن القيد ثبات في الدِّين وإيمان ، والغِل خيانة وكفر ، ولا يكون المؤمن كافراً ” .
ولهذا صح تعبير يوسف عليه السلام لما عبَّر البقرات السِّمان بالسنين الخصبة ، والبقرات العِجاف بالسنين الجدبة. وذُكر أن عمر رضي الله عنه وجَّه قاضياً إلى الشام فسار ثم رجع من الطريق . فقال له عمر : ما ردَّك ؟ قال : رأيتُ في المنام كأن الشمس والقمر يقتتلان وكأن الكواكب بعضها مع الشمس وبعضها مع القمر . فقال عمر : مع أيها كنت ؟ قال : مع القمر . قال : انطلق لا تعمل لي عملاً، ثم قرأ : ” فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرةً ” ( الإسراء : 12 ) .
ولهذا اشتهر عند المعبِّرين ضعف رؤيا الشتاء وأول الليل لضعف الأعصاب فيهما .
وقديماً كان يُعبِّر السلف التمر بحلاوة الدِّين ، والعسل بالقرآن والخير . واليوم انعكس الأمر لشدة التعلُّق بالدنيا . فالتمر يعبر بالتعب في تحصيل الحياة والعسل بالزواج . فيجب على المعبِّرين التنبُّه إلى هذا الأصل ، فإن عامة الخطأ في كشف الرؤى يعود إليه .
9- لا يجوز تعبير كل رؤيا
المشاهد اليوم تعبير كل رؤيا ترد للمعبِّرين ، وهذا خلاف هدي السلف في التعبير الصحيح . فيجب الإمساك عن تأويل الرؤى المتشابهة التي تحتمل أكثر من وجه ، ويحرم تعبير الرؤى المهلكة للناس المفزعة لهم ، ويندب تأويل الرؤى المبشِّرة والمفرحة . وقد قال قرة بن خالد رحمه الله تعالى : ” كنتُ أحضر ابن سيرين يُسأل عن الرؤيا فكنت أحزره يُعبِّر من كل أربعين واحدة ” . فأين أهل زماننا عن هذا ؟! .
وقد تقرر عند الأصوليين أن تنقيح المناط لازم لتهذيب الحكم مما علق به ، وهذا مما يُلحق به ، ولهذا اتفق أهل العلم على أن الرؤى لا يستخرج منها حكم شرعي .
10- تحديد وقت حصول المراد هو الغلط بعينه
لا يصح في علم التعبير تحديد وقوع المراد ، لا بالدلالات ولا بالرموز لأنه يفتقر إلى بينة شرعية ، والبينة المناط بها التعبير ظنية في الغالب وليست يقينية ، لأنها من غير معصوم .
وتحديد الوقوع علم غيبي لم يحصل للمتقدِّين فضلاً عن المتأخِّرين .
وقد روي عن السلف أن الرؤيا قد تتأخَّر في وقوعها إلى أربعين أو خمسين سنة . وقد صحَّح ذلك الذهبي ( ت: 748هـ )في تلخيصه وابن عبد البر( ت: 463هـ ) في بهجة المجالس رحمهما الله تعالى.
وسبب الغلط في تعبير الرؤى اغترار بعض المعبِّرين بظاهر الحديث المرفوع : ” إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب ” أخرجه مسلم .
فَيُعلِّقون صحة تعبيرهم على ظاهر الحديث مع التجاسر على تحديد الوقت.
ولفظة ” تكد ” لا تُفيد العموم، إنما تفيد الإجمال والتقريب . وآخر الزمان مُطلق يصعب تقيِّيده بزمن معين . والعلة عند الأصوليين إذا كانت قاصرة لا يُعتدُّ بها .
وختاماً فإن تعبير الرؤى ليس من الضروريات بل من الحاجيات التي يندب معرفتها والوقوف عليها . لكن يكره الاشتغال بها عن العمل والسعي والجِد لتحصيل منازل المتقين .
ومن اللطائف أن ابن سيرين إمام المعبِّرين للرؤى على كثرة عجائبه في إتقان هذا الفنِّ لم يؤلِّف فيه ورقة واحدة ، وهذا من ورعه ومن البيان بالحال ، وهو أبرع من البيان بالمقال .
هذا ما تيسر تحريره ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
3/12/ 1435هـ

http://ahmad-mosfer.com/?p=1028