الفروق بين كتب الفقه وكتب الحديث :


فمن نظر في كتب الحديث وأراد أن يستفيد – يعني في شروح كتب الأحاديث – فلا بد أن يكون مؤصلًا في الفقه ، فإذا أُصِّل في الفقه كان نظره في كتب الحديث جيدًا ، والفروق في هذا الباب كالتالي :

الفرق الأول : أن كتب الحديث لا تصور المسألة ، وإنما تبني على أن المسألة صورتها واضحة ، وأما كتب الفقه فهي تصور المسألة ثم تذكر دليلها .
الفرق الثاني : أن كتب الحديث ليس فيها استيعاب للأدلة على اختلافها ، لكن كتب الفقه يُذكر فيها ما في الباب من أدلة هذه المسألة ، سواء كان من الكتاب ، أو السنة ، أو القياس ، أو القواعد إلى آخر ذلك .
الفرق الثالث : أن كتب الحديث فيها إيراد المسألة بحسب مجيئها في الحديث دون تكامل للباب ، أي أن الباب في كتب الحديث لا يتكامل في ذهن طالب العلم ، فإذا نظرت مثلًا في كتاب الجهاد في البخاري ، أو الإمارة في مسلم ، أو نظرت في باب من الأبواب في كتب الحديث ، فستجد أن هذه الأبواب فيها من الفوائد بقدر مجيئها في السنة ، لأنه مبني على الاستدلال من السنّة فقط ، لكن كتب الفقه يكون فيه عرض الباب بذكر المسائل التي تدخل تحت هذا الباب ، ودليلها من القرآن أو من السنة ، أو من القياس ، أو من القواعد ، أو من قول صاحب ، أو استنباط ، أو فتوى للإمام ، فتجد أن المسائل في كتب
الفقه أكثر منها في كتاب الحديث .

ومعنى ذلك : أن من نظر في كتب الحديث جميعًا فإنه يخلص بنتيجة، وهي : أن المسألة إذا كان دليلها حديثًا عن النبي – عليه الصلاة والسلام – فهو موجود في كتب الحديث بتفصيله ، وببيان الخلاف فيه ، ودرايته ، وروايته ، وما يتصل بذلك ، لكن إذا كان دليلها قاعدة عامة ، دليلها آية ، أو القياس ، أو قول صاحب ، أو فتوى الإمام فلا يجدها في كتب الحديث ، وينبني على ذلك أن الناظر في كتب الفقه يكون الباب في ذهنه أحسن ترتيبًا وأوسع .
الفرق الرابع : كتب الفقه المذهبي يكون النظر في الحديث بناء على مذهبه ، وهذه الحيثية نوع من القصور في كتب الفقه من جهة طالب العلم المتوسع ، فيكملها بالنظر في كتب الحديث .
الفرق الخامس : كتب الحديث – يعني الشروح المطولة – تجد فيها أن المسألة لا يتصورها طالب العلم تصورًا دقيقًا ، حيث لا تستخدم أصول الفقه في الاستنباط ، بخلاف كتب الفقه الموسعة ، فهي تستخدم أصول الفقه .
الفرق السادس : يظن كثير من طلاب العلم أن شارح الحديث يسلم من التعصب، فيُقبل على كتب الحديث بناء على أن أصحابها متجردون – رحم الله أهل العلم جميعًا -، ويقول أن أصحاب كتب الفقه مقلدة ، وعندهم نصرة لمذاهبهم ، فلا ينظر فيها ، وهذا غلط ؛ لأن أصول الاستنباط التي بها يستنبط العالم الذي سيشرح كتب الحديث ويرجح بناء على ما عنده من أصول الفقه ، لأن أصول الفقه هي أصول الاستنباط ، فهو سينظر في هذه المتون وألفاظ الأحاديث ويستنبط ويرجح بين الأقوال ، لكنه لن يسلم من التقليد لأنه سيرجح بناء على ما في مذهبه من أصول الفقه ، ويظن الناظر أنه يرجح بناء على الصحيح المطلق ، وهذا غير وارد البتة .

فإنه ما من شارح للحديث إلا وعنده تبعية في أصول الفقه وهي التي عليها مدار الاستنباط ، فهو سيشرح ويقول : هذا الراجح لأنه كذا ، لذا لا بد أن يُعلم أن شراح الحديث إنما هم أتباع مذاهب وليسوا مجتهدين الاجتهاد المستقل أو المطلق ، لأن الاجتهاد المطلق أو المستقل – على خلاف في التسمية والتعريف – راجع إلى أنه يجتهد في أصول الفقه ، كما أنه يجتهد في النظر في الرجال ، فله اجتهاداته في الفنين جميعًا ، مثل الأئمة الأربعة وبعض من اندرست مذاهبهم كـ : سفيان ، والأوزاعي ، وابن جرير ، فهؤلاء لهم اجتهادات في أصول الفقه وفي الرجال جميعًا .
وكذلك كان لابن حزم طريقة مخالفة لما قبله في أصول الفقه ، وكذلك في النظر في الرجال ، لا يقلد ، وإنما له نظره المستقل ، فهذا مجتهد مستقل .

لكن بعدما دونت المذاهب وانتشرت لا يوجد الاجتهاد المطلق ، حتى شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى – فإنه في أصول الفقه يتبع مذهب الحنابلة ، إلا ما ندر مما رجحه أو بحثه بحثًا مستقلًا مثل الكلام في عموم البلوى وأشباه ذلك ، في مسائل أخذها من غير أصول الحنابلة ، ولهذا إذا نظرت في مسودة آل تيمية في أصول الفقه وجدت أن استدراكات شيخ الإسلام على قول أبيه وجده – في هذه المسائل – نادرٌ أو قليلٌ .

إذا أتيت إلى مثل الحافظ ابن حجر ، والنووي وأشباه هؤلاء ، فإنهم من جهة الاستنباط سيدخلون في النظر في : هل هذا اللفظ من ألفاظ العموم أم لا ؟ هل المفهوم يخصص أم لا ؟ هل مفهوم المخالفة معتبر في هذا أم لا ؟ هل الدلالة دلالة نصية أو دلالة ظاهر ؟ هل ينسخ هذا أم لا ؟ والنووي وابن حجر – رحمهما الله تعالى – في الاستنباط في أكثر المسائل ، بل في جل المسائل هم تبعٌ للشافعية ، ويأتي الناظر ويقول : رجحه النووي ، ويترك قول ابن قدامة ، أو قول فلان من الحنفية ، أو غيره باعتبار أن ذاك ينصر مذهبه ، لأنه رأى القول في كتاب فقهي ، وهذا لن ينصر مذهبه باعتبار أنه وجده في كتاب شرح مسلم ، أو البخاري ، أو غير ذلك ، وهذا من عدم معرفة الفرق بين كتب الفقه وكتب الحديث .

في كثير من المسائل يأتي طالب العلم وينقل أقوالًا عن الحافظ ابن حجر ، أو عن النووي حتى في صورة المسألة ، في نوعية النظر في الخلاف ، وإذا تأمل وتوسع وجد أنهم نقلوها من كتب الفقه الشافعية ، وعلماء الشافعية – رحمهم الله تعالى – خدموا كتب الحديث ، ولهذا صارت ترجيحات المحدثين المتأخرين ، أو ترجيحات الناظر في كتب الحديث من المتأخرين تبعًا لترجيحات الشافعية ، لأنهم خدموا كتب الحديث أكثر من غيرهم ، بينما خدمة الحنفية لكتب الحديث قليلة ، وخدمة الحنابلة لكتب الحديث أقل ، وهكذا .


http://salehalshaikh.com/wp2/?p=741