واصلي وصلكِ الله برضاه .
واصلي وصلكِ الله برضاه .
رابعا: الديانة المصرية القديمة والهرمسية:
يعبر بالديانة المصرية القديمة عن مجموعة من المعتقدات والطقوس المتعلقة بالمجتمع الذي كان يقطن بلاد مصر ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد.
وهي -بصورتها البسيطة- ديانة تعددية وثنية تنسب الظواهر الطبيعية للآلهة المتعددة، والخصائص الألوهية للفرعون.
انتقلت المعتقدات المصرية إلى خارج أرض مصر (فانتشرت في أنحاء البحر الأبيض المتوسط، ومنه انتقلت إلى بلاد العالم المتحضر)...
للديانة المصرية القديمة عدد من الخصائص التي تتميز بها، والتي كان لها أثر في بعض توجهات حركة (العصر الجديد) من بعد.
يمكن إجمالها في الجوانب التالية:
(1) الموت والبعث والخلود:
لقد كانت أبرز سمة للديانة المصرية القديمة اهتمام أتباعها بالموت وما بعده، فقد أشغل المصريين ما يرونه من حتمية الموت، وأرهبهم الفناء، حتى كان هدفهم الأكبر تجاوزه، والخلاص منه.
ومن هنا أتى اهتمامهم بأجساد الموتى، ومحاولاتهم المتكلفة في الإبقاء عليها...
ثم إن المصريين القدماء خشوا أن لا يستطيع الإنسان -بعد اتحاد روحه وجسده- معرفة كيفية تجاوز العقبات التي قد تحول بينه وبين الخلود المنشود في العالم الآخر، فأصبحوا يكتبون للموتى الأدلة التي تحتوي على الإرشادات، وسبل تخطي العقبات، وبعض الترانيم السحرية المعينة على ذلك...
(2) الطقوس السحرية:
كان للسحر أهمية كبرى في الديانة المصرية القديمة، فقد كان يعتقد أن الاتصال بالآلهة يكون من خلال الطقوس السحرية، وأنه وسيلة تمكن الإنسان من فعل الخوارق والعجائب-بل وتحقيق الخلود. وقد وُظف الصوت في الطقوس السحرية المصرية تماما كالـ مانترا في الهندوسية والبوذية.
ربما يعود هذا الاهتمام بالسحر عند المصريين إلى قصة تروى عن إلهة هي من أعظم الآلهة المصرية، وأكثرها شهرة: الإلهة إيزيس (Isis).
تحكي الأسطورة أن زوج إيزيس قتل بسبب خصومته مع أحد الآلهة، فوضع في تابوت ورمي في النيل. فبحثت عنه زوجته حتى وجدت أشلاءه المقطعة، ومن خلال قيامها ببعض الطقوس السحرية جمعت جسده، وأعادت له الحياة ليصبح ملك العالم السفلي (Underworld) فبالسحر اكتشفت إيزيس الدواء الذي يتحقق به الخلود.
لقد خُط اسم إيزيس ورسمت صورها في مواضع كثيرة جدا من الآثار المصرية. وهي ترمز للخصومة والسحر، ويعتقد أنها ولدت السماوات والأرض.
وبعد احتلال الإسكندر للبلاد المصرية انتقل الاعتقاد بتأليه إيزيس إلى الإغريق والرومان، ولا تزال هذه الإلهة مقدسة عند بعض الجماعات الاستسرارية المصنفة ضمن حركة (العصر الجديد) كــ ((جماعة إيزيس)) (Fellowship of Isis) التي تأسست في إيرلندا عام 1976م.
يتبع إن شاء الله
(3) الحلول ووحدة الوجود:
لقد كان للديانة المصرية القديمة جانب باطني ومعتقدات استسرارية، حتى اعتبرت مصر منبعا من منابع العلوم الباطنية المتعلقة بالكون والنفس.
فالوثنية التعددية الساذجة لم تشبع العقل المصري و روحه، وأصبح ينظر إلى الآلهة على أنها متفاوتة في السلطة والسيادة يطغى بعضها على بعض.
ثم تطورت الديانة المصرية إلى أن تقرر لدى أتباعها أن الإله واحد، ولكن هذا التطور قصر دون التوحيد وانحرف إلى وحدة الوجود، فكان ينظر إلى الآلهة -وجميع الكائنات- على أنها ليست سوى تجليات لذلك الإله الواحد والوجود المقدس، أو على أن (( روح )) الإله قد حلت فيها.
وكنتيجة حتمية للاعتقاد بوحدة الوجود يأتي القول بتأليه الذات البشرية، فكان تأليه الإنسان من أهم أهداف الأسرار المصرية...
(4) الأهرامات:
تطلق الإهرامات في اللغة المصرية القديمة على مكان الصعود.
وهي - في الواقع- قبور ضخمة صنعت للأسر المالكة وأبناء العلية، وقد شكلت جذب للمهتمين من جميع أنحاء العالم حتى صنفت أهرامات الجيزة على أنها إحدى عجائب الدنيا السبع.
لقد توالى اهتمام الجماعات الباطنية الغربية بالأهرامات، ونسبوا لها العجائب والأساطير.
يتبع إن شاء الله
الهرمسية
عندما استولى الإغريق على البلاد المصرية في ما يعرف بالفترة الهيلينية، ظلت المعتقدات المصرية هي السائدة -بل اكتسبت الآلهة المصرية بعض الأتباع الجدد من اليونان.
ولكنها مع مرور الوقت أخذت تتشرب بعض الخصائص الإغريقية. وقد حفظت الجوانب العملية والباطنية للديانة المصرية القديمة في مجموعة مخطوطات مصرية ويونانية وعبرية تعرف بــ كوربُس هِرمِتكم
(Corpus Hermeticum) تم جمعها في القرنين الأول والثاني قبل الميلاد، وتنسب إلى شخصية أسطورية يدعى هرمس (Hermes) مثلث العظمة، وهو المقابل الإغريقي للإله تحوت(Thoth) المصري، أو صورة مدمجة لهما.
فنشأ عن تلك الكتابات منظومة من الاعتقادات والفلسفات الغنوصية التي مثلت مذهبا باطنيا متميزا أطلق عليه اسم: الهرمسية.
وهو من أقوى المؤثرات في التيارات الباطنية الغربية ومن أبرز مصادرها، خاصة في عصر النهضة عندما نقلت الكتب المنسوبة إلى هرمس إلى اللغات الأوروبية، واعتقد بعض المفكرين أنهم وجدوا فيها أصولا لفلسفات أفلاطون وفيثاغورس.
اكتنف شخصية هرمس شيء من الغموض واختلف المؤرخون كثيرا في تحديد زمن ظهوره وموطنه -بل وفي حقيقة وجوده-، وهذا كله لا يشكل أهمية تذكر في ما نحن بصدده، فإن المقصود دراسة الديانة والفلسفات التي تنسب إليه، وآثارها دون الخوض في صحة تلك النسبة من عدمها.
وإن كان بعض الباحثين يرجع أن الكتابات المنسوبة إلى هرمس هي من وضع بعض فلاسفة مذهب الاسكندرية أو الفيثاغورية المحدثة.
أما ما يذكره بعض الكتاب من كون هرمس هو نبي الله إدريس عليه السلام، فلا يمكن أن يتصوره مسلم.
فــ هرمس هذا -إن ثبت وجوده- لم يعرف إلا من خلال المتون المنسوبة إليه، وهي مليئة بالفلسفات الباطنية، والعبارات الإلحادية التي لا يمكن أن تخرج من مشكاة النبوة، فكيف يجعل قائلها نبيا؟
فإن قيل: ربما أصابها تحريف، قيل: لا حاجة لنا إلى هذا القول، حيث لا يوجد ما يثبت النسبة إلى النبي أصلا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (( وفي كتب هؤلاء: هرمس الهرامسة، ويزعمون أنه هو إدريس. والــ هرمس عندهم اسم جنس، ولهذا يقولون: هرمس الهرامسة، وهذا القدر الذي يذكرونه عن هرمسهم يعلم المؤمن قطعا أنه ليس هو مأخوذا من نبي من الأنبياء على وجهه، لما فيه من الكذب والباطل)).
يتبع إن شاء الله
ومن أبرز العقائد الهرمسية ما يلي:
(1) وحدة الوجود وتأليه الذات:
يُصور الإله في متون هرمس أنه فكر وعقل ليس له وجود مفارق للعالم، ولا وجود له خارج الذهن إلا متجسدا في الكائنات...
والعالم -في الهرمسية- صادر عن (الإله) عن طريق التولد والفيض..
فالكون جزء من الإله، ولكنه ظهر بهذه الصورة المفارقة ظاهريا لتلبسه بالأدران والشرور.
لذلك فالإنسان ذو طبيعة إلهية تكمن في ذاته البشرية.
ويقرر هرمس أن معرفة الإله لا تتحقق من طريق الوحي، وإنما تكون من خلال تأليه الذات.
وفي الهرمسية عقيدة تشبه إلى حد كبير مفهوم (الطاقة) الشهير في حركة ((العصر الجديد)) والمأخوذ في الأصل عن الديانات الشرقية، فهي جزء من التولد الفيضي، وصورة من صور وحدة الوجود إذ هي تمثل أوائل الصادرات عن (الإله) أو الوجود الأزل.
(2) تناسخ الأرواح:
من المعتقدات الهرمسية الرئيسة الاعتقاد بتناسخ الأرواح. وأن الروح إذا خرجت من الجسد لا تنتقل إلى عالم آخروي فيه الحساب والجزاء، وإنما تعود لتسكن في جسد آخر في دوامة لا تنتهي.
ولا يكون الخلاص من هذه الدوامة المقيتة إلا من خلال الاتحاد بــ (الإله)، وهو تعبير عن العودة إلى الطبيعة الإلهية الأصلية.
والاتحاد بــ(الإله) لا يمكن أن يحدث إلا حال الإعراض عن ذكره تماما، والكف عن الحديث عنه.
(3) التنجيم:
في الهرمسية اعتقاد صريح بتأثر الأجرام السماوية على المجريات الأرضية بل وتصرفها بالكون، ويسميها هرمس: الكائنات الإلهية.
...لم يقتصر أثر الهرمسية على التيارات الباطنية الغربية، بل كان لها أثر في التوجهات الباطنية في العالم الإسلامي، وفي بعض الفلاسفة المنتسبين إلى الإسلام كذلك.
فحين أنشئت (دار الحكمة) ببغداد في القرن التاسع للميلاد، ترجمت فيها كثير من الكتابات الفلسفية والمتون الوثنية، منها: متون هرمس، ووجدت نسخ منها في مكتبة الإسكندرية، حتى صارت (الهرمسيات) من المعارف السرية لبعض التيارات الفلسفية في الإسلام.
بل ويرجع بعض الباحثين أصول التصوف الإسلامي إلى هرمس مثلث العظمة(1)، لوضوح أثره في كتب المتصوفة.
______________________________ ___
(1) هرمس: سمي هرمس بــ (مثلث العظمة) للاعتقاد بأنه جمع العلم بأجزاء الحكمة الثلاثة: الخيمياء، والتنجيم، والسحر. وقيل: لأنه أعظم كاهن (رجل دين)، وأعظم فيلسوف، وأعظم ملك. وقيل غير ذلك.
يتبع إن شاء الله
المطلب الثاني
الاتجاهات الباطنية في الفلسفة اليونانية
لقد كان للثقافة اليونانية توجهان بارزان:
توجه ديني.
توجه فلسفي.
أثر كل منهما في حركة (العصر الجديد) بطريقة مختلفة.
أما التدين الإغريقي فهو من أشهر الديانات الوثنية في العالم القديم، وله منظومة من الآلهة الأسطورية التي تشبه البشر إلى حد كبير.
ورغم أن حركة (العصر الجديد) تعظم بعض تلك الآلهة، وتستشهد بالأساطير الإغريقية أحيانا -كإله النور أبولو (Apollo)، و زيوس (Zeus) إله السماء، وأبو الآلهة- إلا أن الجوانب الدينية الأكثر تأثيرا في فكر الحركة هي ما يلي:
1- الجانب الطبيعي في الديانة اليونانية: والمقصود به تعظيم الطبيعة وعبادة مظاهرها، ومن ذلك عبادة آلهة الأرض جايا (Gaia)، التي اعتبرت الأم الصابرة جزلة العطاء.
2- الديانات الإغريقية السرية: وهي تمثل التوجه الباطني في الديانة الإغريقية الوثنية، حيث يعتقد أتباعها -كسائر أتباع التوجهات الباطنية- بأن الإنسان في أصله (إله) قد سجن في الجسد المادي، ومن ثم لابد من السعي لتحريره، والعودة به إلى أصله بطرق متنوعة، فكانت تقام الاحتفالات السرية التي يتم فيها الكشف عن رموز مقدسة تعين على تحقيق ذلك الهدف، لا يطلع عليها إلا الخواص من الناس.
للرفع
وأما التوجه الفلسفي فقد ظهر متأخرا عن التدين الوثني، وكان مناهضا له في كثير من الأحيان، فقد كان يعظم العقل البشري، ويُعمله في القضايا الغيبية، ناسفا الأساطير والآلهة المقدسة. إلا أن هذا التوجه -كسابقه- لم يخل من لوثات التصوف، والمعتقدات الباطنية.
لقد ظهر النزعات الباطنية في الفلسفة اليونانية في مراحل مبكرة تبدأ من مرحلة ما قبل سقراط(١)، وتمتد إلى تلاميذه من بعده. ويرى بعض الباحثين أن الفلسفة اليونانية قد تأثرت بالديانات الشرقية وقدمتها في ثوب إغريقي، وأن تلك الديانات هي مصدر التوجه الباطني داخل الفلسفة اليونانية.
تأثرت حركة العصر الجديد بفلاسفة اليونان ذوي التوجه الباطني، لا سيما فيثاغورس، وأفلاطون، وأفلوطين(٢)،بطرق مباشرة، وغير مباشرة.
وفيما يلي عرض مختصر لمرحلة ما قبل سقراط، ومرحلة ما بعده:
.
.
٠
—————————— ————-
١- سقراط: فيلسوف يوناني من أساطين الفلسفة، ولد عام ٤٧٠ ق.م، ويعد من واضعي أسس الفلسفة الغربية. لم يترك سقراط أي أثر مكتوب، فجل فلسفته مأخوذة عن المحاورات التي كتبها تلميذه أفلاطون. سجن وهو في السبعين من عمره بتهمة إنكار الآلهة اليونانية وإفساد الشباب، وقتل مسموما عام ٣٩٩ق.م.
٢-أفلوطين:: فيلسوف روماني مصري النشأة، ولد عام ٢٠٤م، انتقل إلى الإسكندرية في الثامنة والعشرين من عمره، وبقي فيها أحد عشر عاما، وكان له اهتماما بالفلسفة الفارسية والهندية، فرحل مع الجيش الروماني لغزو فارس، ولكن الجيش انهزم، فعاد إلى روما، وبقي فيها إلى أن توفي عام ٢٧٠م.
أولا: مرحلة ما قبل سقراط:
لقد كانت الفلسفة اليونانية في مطلعها فلسفة ((طبيعية))، تبحث في الأصل الطبيعي للعالم وتسمى المدرسة (الأيولية) وعلى رأسها طاليس(١).
جاءت بعدها المدرسة (الإيلية) التي كانت تبحث في الفكر والوجود لا في أصل العالم فحسب، وتعتمد على العقل في إدراك الواقع. كما ظهرت بعض المدارس التي تُرجع الكون إلى أصل واحد غير مادي كالأعداد، أو العقل، أو المطلق، كالمدرسة الـ فيثاغورية. وإذا نظرنا إلى ما ينقل عن فلسفة طاليس، نجد أنه كان يعتقد أن الماء هو أصل الموجودات، وأنه النوع الأول الواحد للوجود، وكل موجود ليس إلا تغيرا للماء.
لقد كان طاليس -رغم سذاجة فكرته- يسمى أبا الفلسفة، ولعل ذلك راجع إلى أنه أول من أقحم العقل في المسائل الغيبية، ولم يلتفت إلى الأساطير المتعلقة بالآلهة. ثم إن هذه الفلسفة البدائية قد تعتبر تمهيدا للفلسفات الباطنية التي جاءت من بعدها، وتبنت عقيدة وحدة الوجود. ومن أبرزها فلسفة فيثاغورس.
فيثاغورس:
يعتبر الرياضي اليوناني فيثاغورس أبرز فلاسفة مرحلة (ما قبل سقراط) ممن ظهرت النزعة الباطنية في فكرهم وكتاباتهم،وقد يعد أول من قدم فكرة الوجود المطلق للعقلية الغربية. لقد اشتهر فيثاغورس في الأوساط العلمية بأنه أبو الهندسة ورائدها، ولكنه -مع ذلك- انغمس في الـ ما ورائيات(٢)، وشكل مذهبا باطنيا يشبه إلى حد كبير التوجه الفكري في الفلسفات الشرقية…
ويمكن تلخيص أبرز المعتقدات الباطنية التي تُنسب إلى فيثاغورس فيما يلي:
١-تتميز الـ فيثاغورية باعتقادها أن (الأعداد) هي أصل الوجود، واعتمدت عليها في إنشاء علم الكونيات.
٢-يرى فيثاغورس أن الوجود متولد عن المطلق، وفائض عنه…
٣-القول بتناسخ الأرواح، وأن الخلاص منه يكون بتحقيق المعرفة الفلسفية، والتربية العقلية، فالإنسان يهدف إلى تأليه ذاته.
٤-الحقيقة عند فيثاغورس ذاتية، ولديه نزعة إنسانية، فلا حقيقة إلا الإنسان، وكل ما عداه فهو باطل وخداع.
لقد كانت الـ فيثاغورس شبيهة بالجماعة الصوفية، فقد اهتم أتباعها بالأسرار والخوارق، والخرافات، مع ما لديهم من فلسفة عقلية. وتشكل الأنغام والمعازف أهمية كبرى عند فيثاغورس في تحقيق مبادئ فلسفته.
وقد تأثرت حركة العصر الجديد بجوانب متعددة من فلسفة فيثاغورس الباطنية، خاصة في ربط الأعداد بعلم الكونيات.
…وقد أصبح فيثاغورس رمزا للباطنية أهل الغنوص في الإسلام، خاصة من حيث الاهتمام بالأعداد…
——————————
١- طاليس: فيلسوف يوناني من الفلاسفة الطبيعيون، وأحد الحكماء السبعة، عاش في القرن السادس قبل الميلاد، وكان مهتما بالهندسة والفلك…
٢-الـ ما ورئيات (الميتافيزيقيا): وهي الأمور التي لاتقع تحت الحس، كالإله والقضايا الغيبية.
وفقكم الله
واصل وصلك الله بفضله
معلومات نافعة نفع الله بكم العباد
وإياكم جزاكم الله خيرا
ثانيا: سقراط وتلاميذه (المدرسة العقلية):
كانت الفلسفة قبل سقراط تهتم بعموم الوجود، والكون الخارجي، أما سقراط فجعل موضوعها الإنسان، والعقل، والنفس البشرية.
…ولعل أبرز ما يمكن أن يستدل به على هذا التوجه الباطني لدى سقراط يتمثل في تصويره المجازي الشهير الذي عبر عنه بـ (الكهف)(١)، وذكره أفلاطون في كتابه (الجمهورية).
في الصورة إشارات إلى الفرق بين من (يعلم الحقيقة) -التي هي مصدر المظاهر كلها- وبين من لا يعلم سوى تلك المظاهر، وكيف يكون هذا الإنسان (الكامل) بالنسبة لعوام البشر الذين لا يرون إلا المظاهر.
كما وجدت ببعض الإشارات التي تدل على اعتقاد سقراط بتناسخ الأرواح.
وعلى كل حال، فإن أثر سقراط على التيارات الباطنية في الغرب محدود جدا، وإنما الأثر الأكبر كان لتلميذه أفلاطون، والمدارس التي تنتسب إليه.
لقد كان تأمل المطلق الأبدي هو غاية الوجود البشري عند أفلاطون، وهو الوسيلة التي تكتمل بها الروح وتتطهر، فتتحرر من الجولان في العالم، إذ لا يبقى حاجة لتكرار الولادة. وهي فلسفة مطابقة للفلسفة الشرقية، إن لم تكن مأخوذة عنها. وبذلك تتبين أبرز الملامح الباطنية في فلسفة أفلاطون.
١-يرى بعض الباحثين أن أفلاطون يعتقد بتناسخ الأرواح.
٢-كما كان يقول بـ(عالم المثل)(٢)، وأن ما نراه من العالم هو وهم وأشباح.
٣-يرى تأليه النفس البشرة واحتواءها على الطبيعة الإلهية.
وهذه العقائد الأفلاطونية ظاهرة في المنظومة الفكرية لحركة العصر الجديد، وهي جزء من تكوينها الفلسفي. إلا أن أفلوطين، وفهمه لفلسفة أفلاطون كانت من أبرز المؤثرات الإغريقية -إلى جانب- الـ فيثاغورية في تشكيل فكر الحركة.
—————————— ———————-
١-سياق القصة: تخيّل طائفة من الناس يعيشون مقيدين في كهف مظلم تحت الأرض منذ نعومة أظفارهم. وتصور قبسا من نار، يبعث من خلفهم، فيلقى على الجدار الذي أمامهم ظلالا متحركة كأن أناسا يمشون، بعضهم يتكلم، وبعضهم صامت. إن أصحاب الكهف يحسبون هذا الظلال حقائق. هب أن أحدهم حل وثاقه، والتفت إلى الوراء، ربما استنكر الضوء في البداية ، ولكن سرعان ما سيدرك الحقيقة، ولن يقبل حياة الكهف بعد ذلك. ولو أخبر أصحابه بما رأى لسخروا منه!
٢-المُثُل: هي -في رأي أفلاطون- حقائق كلية موجودة وجودا فعليا مفارقا للإنسان، ووجودها ليس ماديا، وإنما معان مجردة خالدة، وهي مصدر المعرفة، وعلة لها، كما أنها مصدر لوجود الأشياء في العالم المحسوس. وأعظم هذه المثل وأعلاها هي المثل الأعلى، وجوهر الوجود.
أفلوطين والأفلاطونية المحدثة:
ظهرت الأفلاطونية المحدثة (مذهب أفلوطين) في العصر الهيليني الذي يمثل الطابع الفكري الناشئ بعد فتوح الإسكندر للشرق، وامتزاج الفكر اليوناني بالثقافة الشرقية. وللعصر الهيليني خصائص تميزه ،من أبرزها:
١-العناية بمذهب أفلاطون.
٢-التشبه بالأفكار الدينية والوثنية كالبوذية واليهودية والنصرانية.
٣-انتشار النزعات الصوفية الباطنية والتعلق بالسحر والتنجيم والغيبيات والخوارق. لقد أسهمت خصائص العصر الهليني في تشكيل الأفلاطونية المحدثة التي تعتبر -عند أتباعها- شرحا لفلسفة أفلاطون. ولكن أفلوطين جنح في شرحه بعيدا عن الفكر الأصلي فاعتبر الباحثون فلسفته مذهبا جديدا أطلقوا عليه: الأفلاطونية المحدثة. وتعتبر من المذاهب الفلسفية المتأثرة بالهرمسية، والفيثاغورية، والديانات الشرقية.
وقد كان ليهود الإسكندرية لا سيما فيلون(١) اليهودي دور الوساطة في نقل الفكر الشرقي إلى الفلسفة اليونانية، وهو مانتج عنه مذهب أفلوطين. ولذلك تعتبر الأفلاطونية المحدثة غنوصية شرقية بشكل يوناني، ومن أبرز معتقداتهم ما يلي:
١-وحدة الوجود: يعتقد أفلوطين بمصدر واحد للوجود كله، وأن العالم هو صورة لذلك الواحد…
٢-الفيض والتولد: يرى أفلوطين أن الوجود فائض عن المصدر الواحد، وأن العقل أول ما صدر عنه. ثم الروح، أو مبدأ الحياة، فالكون عنده صادر عن العقل الأول، وهو الذي جاء به إلى الوجود…
٣-تناسخ الأرواح والخلاص منه: وهنا يختلف أفلوطين عن أستاذه، فهو يهدف إلى الاتحاد بالمطلق للتخلص من التناسخ -كما هو في الفلسفة الهندية- والاتحاد الصوفي بالإله…
٤-تأليه الذات: وهو نتيجة حتمية للاعتقاد بالاتحاد ووحدة الوجود.
٥-المعرفة عند أفلوطين: تقوم المعرفة عنده على الحدس، وهو ما يتوصل إليه بالتحرر من سلطة البدن والحواس، ثم بالفكر والتفلسف، ثم بالسمو فوق التفكير؛ ليصل الإنسان إلى المعرفة أو -في الاصطلاح الصوفي- (العلم اللدني).
كما أن أفلوطين كان يعتقد بالتنجيم والطقوس السحرية ويتبنى التصوف المغالي، ففلسفته أقرب للتصوف والأسطورة منها للفلسفة العقلية والمنطق.
وقد بقيت فلسفته متضمنة في الفكر اللاهوتي لحركة العصر الجديد.
—————————— ————-
١-أشهر فلاسفة اليهود في القرن الأول للميلاد، ولد في عام ٢٥ق.م لأسرة نبيلة في الإسكندرية، وأشرب في قلبه حب الفلسفة، حتى لقب بأفلاطون اليهود. حاول الجمع بين اليهودية والفلسفة فنتج عن ذلك مذهب باطني يفسر التوراة تفسيرا رمزيا، ولا يمت لليهودية بصلة. توفي عام ٤م.
المطلب الثالث(الغنوص) هي كلمة يونانية معناها اللغوي يفيد: المعرفة أو العرفان.
الغنوصية
ومعناها في الاصطلاح: التوصل بنوع من الكشف(١) إلى المعارف العليا والحقائق الكلية بشكل داخلي ذاتي مباشر، لا من خلال الوحي الخارجي، ولا العمليات العقلية. وهي تعتبر -عند أتباعها- أقدم عقيدة في الوجود.
أما (الغنوصية) فهي توجه فكري يضم فرقا متعددة يجمعها الاعتقاد بأن (الخلاص) يكون من خلال العلوم الباطنية الاستسرارية وأحيانا بالاستعانة بالطقوس السحرية.
لو تتبعنا جذور الغنوصية -كحركة فكرية دينية متعددة الأوجه- لوجدنا أن بداياتها الأولى ظهرت منذ القرن الأول الميلادي، ثم إنها برزت ونشطت في القرنين الثاني والثالث، وإن كان بعض الباحثين يرجع أصولها الباطنية إلى ما قبل ذلك بكثير، باعتبار وجود ذلك الفكر في بيئات مختلفة…
فالغنوصية ليست اسما لفرقة محددة، بل هي مظلة فكرية تندرج تحتها العديد من الفرق ذات التوجه الباطني المشترك، وأول من أطلق عليها هذا الاسم هو أسقف مدينة ليون بفرنسا…
فالغنوصية اسم علم على اتجاه باطني خاص، لاشك أنه مسبوق بتوجهات شبيهة قي بيئات مختلفة.
وعلى أية حال فالغنوصية المقصودة هنا هي تلك التي نشأت في البيئة النصرانية، أما غيرها فتبحث في غير هذا الموضع.
لقد تشكلت النصرانية -كما نعرفها اليوم- في القرن الثاني الميلادي تقريبا حين وجدت صراعات عقدية بين عدد من التوجهات الداخلية…
وفي الفترة الانتقالية من القرن الأول إلى الثاني -وقت تدوين إنجيلي لوقا ويوحنا- ظهرت الحركة الغنوصية في مصر وسوريا، فظهر توجه باطني فلسفي في الديانة النصرانية استعار فكره من الديانات الفلسفات في البيئة المحيطة، وحاول الجمع بين تلك الآراء الفلسفية الكونية المعقدة، وما عنده من معطيات دينية، فتأثر خواص القوم بالنواحي الفلسفية، وتأثر عوامهم بالسحر والخرافة.
—————————— ————-
١-الكشف: اصطلاح صوفي يريدون به الاطلاع على المعاني الغيبية والحقائق المحجوبة.
لم تحمل الغنوصية تنظيما عقديا، أو هيكلة كهنوتية، وقدمت نفسها على أنها الممثل الحقيقي للدين العالمي الجديد غير المقيد بالشرائع، كما أظهرت العداوة للميراث التوراتي، وتصوراته عن (الإله) والإنسان.
…وقد استمر الصراع بين الغنوصية والنصرانية حتى استطاعت الكنيسة في آخر الأمر التغلب على التوجهات الغنوصية مستعينة بالحجج العلمية، والقوة السياسية. وبذلك لم تعد الغنوصية توجها نصرانيا خاصا، رغم أنها نشأت في بيئة نصرانية، فمع هجمة الكنيسة عليها تحول الغنوص إلى المعتقدات السرية والخفية - بل والملحدة أحيانا.
ومن أبرز المعتقدات الغنوصية ما يلي:
١-التأويل الباطني للنصوص الدينية: ادعى الغنوصيون أن لديهم تعاليم سرية من المسيح عليه السلام، وأنه لايزال متصلا بتلاميذه بعد قيامه. فباتوا يفسرون النصوص الدينية بأهوائهم، ويؤولون القضايا العقدية الأصولية عند النصارى…
٢-المعرفة: ترى الغنوصية أن المعرفة تحصل من خلال الرؤية المباشرة للحقيقة، فالغنوص هو المعرفة المباشرة بلا واسطة.
٣-الإله والعالم: تعتقد الغنوصية بأن (الإله) وجود واحد غير عاقل، صدر عنه وجود زوجي متتابع، كلما كلما ابتعدت عن الوجود الأول ازدادت كثافة ولما أراد بعضها الترقي إلى (الإله) من غير طريق الغنوص طرد وتكونت منه المادة والعالم المادي، وحبست الأنفس في الأجسام. فمن أراد (العودة) إلى الطبيعة الإلهية لزمه الغنوص، فالأصل وحدة الوجود والهدف هو الاتحاد.
وقد نتج عن هذا المعتقد معتقد فاسد آخر وهو القول بأصلين للوجود ، أحدهما خير والآخر شر. بينما ينظر للمسيح في الغنوصية على أنه قوة أزلية غير محدودة.
٤-الثنوية: إن الوجود -حسب المعتقد الغنوصي- متولد عن الإله بطريق الفيض، و(الإله التوراتي) ضمن تلك الموجودات الصادرة عن (الإله النوراني) الذي يطلق عليه الرأس الإلهي، وهو بلا اسم، وبلا وصف، وهو مصدر الأرواح. ولكن (إله التوراة) لم يتبع طريق الغنوص، فهو إله ناقص ساقط، أو هو تجسيد للخبث والشر على اختلاف بينهم…
٥-تناسخ الأرواح: الغنوصية ديانة خلاص تهدف للتحرر والانعتاق، والصراع الرئيس الذي يخوضه الإنسان هو بين العرفان الذي يقود إلى الخلاص وبين الجهل الذي يبقيه في دور الميلاد والموت…
٦-تأليه الإنسان: الروح عند الغنوصية صادرة عن (الإله النوراني) ولكنها ابتعدت عنه بسبب انحباسها في المادة، وبعدها عن الغنوص، فهم يسعون لاكتشاف الإله الذي في (الداخل) وتحريره، ليتحقق لهم الخلاص من خلال التأمل الباطني الصامت.
تعتبر الغنوصية -إلى جانب الهرمسية والفيثاغورسية والأفلاطونية المحدثة- من المذاهب (التلفيقية)، تجمع بين المعتقدات المتباينة، والأفكار المنتمية لمدارس فكرية متنوعة، وهي ظاهرة نشأت عن الفكر الهيليني، والتفاعل مع المعتقدات الشرقية إثر احتلال الإغريق للعالم الشرقي القديم…
لقد انتقل الفكر (التلفيقي) عبر الغنوصية إلى عدد من التيارات الباطنية الغربية، حيث أسهمت في تشكيل فكر الـ ثيوصوفي وحركة (الفكر الجديد)، ومن ثم فإن الغنوصية -التي جمعت بين الأفكار الوثنية والفلسفات المعقدة في القرون الثلاثة الأولى- تعتبر من أبرز المصادر العقدية لحركة (العصر الجديد) التي اتبعت الأسلوب ذاته.