قراءة أولى في فكر المؤرخ جمال الدين فالح الكيلاني بقلم د.جمال محمد شيبان


التساؤل عن حجم التناقض بين التطلع إلى الخارج والتعلق بالنموذج الغربي، وبين الذاتية والتشبث بالخصوصية؟


أجاب الكيلاني قائلاً: هناك تناقض مرحلي وليس تناقضاً مرضياً قاتلاً! لماذا؟ لأن من طبيعة النهضات أنها لا تبدأ واعية وعياً كاملاً فهناك مراحل لهذه النهضات؛ فالأمة في حالات الضعف والتخلف تكون فيما نسميه "الغياب الاجتماعي" غائبة عن التحديات وعن الحاجات الأساسية في قضايا محلية ثانوية، إما اهتمامات فردية تدور حول الاستهلاك والإنتاج المحلي، أو في دوائر وولاءات عصبية؛ كما نرى اليوم في أقطار آسيوية وأفريقية ينتهي ولاء الفرد عند دائرة قبيلته وأسرته ثم تتصارع هذه القبائل وتنسى قضية الوطن الكبير.

فهذا هو ما نسميه في العلم الاجتماعي والتاريخي بالغياب الاجتماعي، ولا يمكن نقل الأمة من الغياب الاجتماعي دفعة واحدة إلى الوعي الكامل، وإنما ننقلها من مرحلة الغياب إلى مرحلة الحسّ: أن تحس بمشكلاتها، وهذا الإحساس هو المشار إليه في القرآن الكريم بقوله تعالى: (أفمن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس) وبالنظر في هذا التعبير القرآني نلاحظ ذكر المشي في الناس وليس في الأرض، لأن الإنسان يمشي في الأرض بعينيه اللتين في رأسه أما مشيه في الناس فهو بعقله ووعيه وحسه؛ فالإحساس بالمشاكل هو نقلة في خطاب المفكرين والمصلحين، ويتخذ الخطاب الإصلاحي غالباً في هذه المرحلة لوناً انفعالياً يعتمد على البلاغة والشعر، لاستهدافه إثارة المشاعر والإحساس، لكن هذه المرحلة لا تكون واعية، والوعي فيها هو وعي سطحي، أو عبور نصفي للوعي، ففي هذه المرحلة يتلمس الناس التقليد أو يقعون فيه، ويجب هنا أن ننطلق من أن التقليد نوعان: تقليد الحاضر،أي حاضر الأمم الأخرى، أو تقليد الآباء للأجداد.

وبما أننا نحن نعيش في هذه المرحلة، مرحلة الوعي السطحي، فإننا ضمن هذا السياق منقسمون- بدورنا- قسمين، مثلاً: الإسلاميون يريدون تقليد الآباء، والعلمانيون أو التقدميون يقلدون حاضر الأمم الأخرى، وفي الحقيقة فإن التقليد هو تقليد سواء كان تقليداً للقدماء أو المعاصرين، فهو في جوهره واحد: غياب عن المشكلات الحاضرة وغياب عن التحديات والاكتفاء بالإحساس بها فقط، ولكن ما يحتاجه كل واحد من هذين المقلدين هو الانتقال من مرحلة "الحس الظاهري" إلى "مرحلة الوعي الكامل". ومن أبرز خصائص هذا الوعي تشريح الواقع وتنظيره تنظيراً علمياً، وليس تنظيراً عاطفياً، ثم ينظر في آيات القرآن والحديث ليستخرج الفقه الملائم للعصر، ثم ينظر في تجارب الأمم الأخرى، بحثاً عن الحكمة التي هي ضالة المسلم أنى وجدها.

نحن لا نبحث عن عقائد في التجارب الأخرى وإنما نبحث عن وسائل وبمعنى آخر، الغايات نحددها من منطلقاتنا العقدية في حين نتلمس الوسائل من أي مكان، وهذا ما يجب على المصلحين، وعلى الحركات الإسلامية الإصلاحية بالذات إدراكه، لأننا ومن منطلق موضوعي نرى أن بعض هذه الحركات قلدت التنظيمات الغربية في تبني نظرية الصراع في المجتمع فئة ضد فئة، وعلى العكس من ذلك، وطبقاً للفحوى القرآني والسُني، فالمفروض أن الحركة الإسلامية حركة تحريرية لجميع الطبقات: تحرر الظالمين من ظلمهم والمظلومين من ظالميهم، ثم ترضي الطرفين وتجمع جهدهما لخدمة الإسلام؛ فإدارة الصراع نابعة من الغرب ووقعت فيها بعض التيارات الإسلامية لتواجه بعض الأنظمة، فضعف الاثنان ونهكا وكانت النتيجة تبدد الموارد البشرية، وهذه نتيجة لما سبقت الإشارة إليه من عدم اكتمال الوعي، والذي أطلقنا عليه مرحلة الحسّ، فلو انتقلنا لمرحلة الوعي لفكرنا تفكيراً سننياً، والتفكير السنني هو النظرة الشمولية الكلية، ومشكلة الوعي الظاهري أنه يعالج فقط المضاعفات الآنية، ولا يعالج الأمور من جذورها، وكمثال نسوقه على ذلك من العهد النبوي حيث كان بعض الصحابة ما زال في تلك المرحلة، فكان هؤلاء يؤذون إيذاءً شديداً من أعدائهم المشركين الكبار مثل عمرو بن العاص و أبي سفيان و خالد بن الوليد فلما أسلم هؤلاء بعد الفتح أو قبله رغب أولئك الصحب في عدم إسلامهم وفي القضاء عليهم بسبب سجل العداوة والحرب معهم.

ولنا أن نتصور ما يحدث لو طبق رأي هؤلاء وبمعنى آخر نتصور حجم الخسارة الكبرى التي كان سيمنى بها الإسلام وتاريخه لو حرم خالد بن الوليد أو عمرو بن العاص رضي الله عنهما؛ فالمسالة أن القوي قوي وينبغي أن لا نسعى إلى تهديمه وإنما إلى تهذيبه، والمؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف، ومثال آخر له دلالته وعبرته في هذا المجال وهو سياسة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وتعيينه لبعض من تأخر إسلامهم مثل خالد ويزيد بن أبي سفيان قادة للجيش على الرغم من وجود السابقين إلى الإسلام من القرشيين وغيرهم، لقد كان السبب فقط هو قوتهم وخبرتهم الطويلة في قيادة الجيوش وإدارة الحرب، ولأن" خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا ".