بسم الله الرحمن الرحيمالحمد لله كما يحب أن يُحْمَد، والصلاة والسلام على النبي محمد. وبعد:
حول صُدور كتابنا (رحمات الملأ الأعلى بتخريج مسند أبي يعلى)
بَاعِثُ إفْرَاد هذا الموضوع
أتحدَّث هذه المرَّة حول صُدور كتابنا: (رحمات الملأ الأعلى بتخريج مسند أبي يعلى)، بعد أن ترادفَتْ الأحاديث إلينا تستطلع منا أخباره، وتسْتَنْبِئُ عن أحواله، حتى أفرد جماعة من الفضلاء عدة مواضيع يَنْشُرون فيها أسئلتهم، ويكشفون في تضاعيفها عن رغباتهم.
فرأيتُ تقصير الأمْر على طالبيه، ودرْءَ عناء إخواني عمَّا هم بسبيله إذا كان في مُسْتطاعي إجابة تلك الرغبات الشريفة.
ألَا لِيَعْلَم كلُّ أحد: أنني لسْتُ مِن المغرمين بإفراد الصفحات للتحدث عن أعمالنا الصادرة، أو تحقيقاتنا الواردة؛ وإنما نفعل ذلك اتفاقًا من غير تقصُّد، وربما نَشَرْنا في ذلك موضوعًا لأهمية الأمر؛ ريثما لا نُتَّهم بالسرقة أو قلة الجدوَى من وراء عملنا، كما فعَلْنا في الإعلان عن تعليقاتنا على (المحلى) لشيخ الإسلام أبي محمد الفارسي.
قصة تنقيح الكتاب
ثم نعود إلى كتاب الرحمات ونقول: صدَر الكتاب (ولله الحمد) منذ شهور عدة، وكانتْ عيون الحوادِث قد طرقَتْني قبله بما جعلتْنِي أصْدِف عن المشاركة في شبكة المعلومات عمومًا، فلا مقال ولا كلمة، فضلًا عن أنْ أرُوزَ مِن الأمر تكلُّفَ الكلام على (الرحمات) أو غيره، ابتهاجًا بإسفارِه، أو طَربًا لِدُنُوِّ ذَيَعانِه وانتشاره.
على أن لطباعة الكتاب قصة عندي: وهي أنني عقيب انتهائي من مسوَّدته؛ شرعْتُ في تبييضه وتحرِيره؛ فانكشف لي جملة من الأمور التي تنكَّبْتُ عنها أخيرًا؛ سواء كانت تتعلق بالمنهج الحديثي، أو الحُكْم على الأخبار، أو تقويم النَّقَلَة وغرْبلة مروياتهم.
وقد تمَّ لي مِن ذلك التحرير بضْعُ مجلدات مِن أوله وآخره، ثم استعجل الناشر طباعة الكتاب؛ فحاولْتُ إثناءه عن تلك الخُطَّة؛ فجعل يأبى ويتأبَّى، وعزَم على ما هو بسبيله.
فلمَّا عِيلَ معه صبري، ونفدَ في سبيل إقناعه وَكْدِي؛ رأيتُ التسليم لِمَا يُرِيغ مع الحسرة البالغة مِن الموافقة؛ إذ كان «الرحمات» آنذاك هو كتاب عمري، وثمرة فؤادي وقلمي؛ فقلت: الله المستعان؛ وبدأتُ في مراجعته سريعًا باستدراك الأخطاء والتصحيفات القريبة.
حول مقدمة الكتاب
وكنت في مواضع من تخريجاتي لأحاديثه أُحِيل على مقدمة الكتاب؛ لكوني كنتُ قد عزَمْتُ إذا خرج الكتاب على النحو الذي أرغب = أن تكون له مقدمة حافلة أذكر فيها عيون ما وقع لي من فوائده، وأنْشُرُ جُمَلًا مِن مأثور عوائده، وأنْثُرُ ما اجتمع لي من فرائد المأثورات في الأخبار والرجال والأسماء، كما يتناثرُ الجوهرُ على صدْر الحسناء.
وقبل كل ذلك: أُحَرِّر ترجمة صاحب المسند (أبي يعلى) بما انكشف لي مِن عِلْمه ومعرفته ومنزلته؛ تبعًا لِمَا استخلَصْتُه مِن هذا المسند الصغير.
فلمَّا قُضِيَ الأمر بالعزْم على طباعة الكتاب دون ما كنتُ أرجوه من تحريره وضَبْطِه = عَزَفَتْ نفسي عن كل هذا، وكدْتُ لا أذكر بين يدَي تخريجي شيئًا قط! لا ترجمة ولا تقدمة، ولا فوق هذا أو دُونه، غير أن بعضهم ما زال بي حتى تعجّلْتُ بمقدمة يسيرة استخلَصْتها من أبحاث بعض الفضلاء حول (أبي يعلى ومسنده). ثم دفعْتُ بالكتاب إلى الناشر، فامتثل للطبع، وخرج في عشر مجلدات كبار. وقدَّر الله وما شاء فعَل.
شَكَاتِي في تخريج الكتاب
هذا الكتاب شرعْتُ في نَسْجِه وأنا في سِنٍّ (أراها كبيرة، ويراها غيري صغيرة)، لَم أبْلُغ بها بعْدُ الخامسة والعشرين، ومكثْتُ في تسطيره حوالي عام ونصف من جملة السنين، ما فَتِئْتُ أُواصِل فيه الليل بالنهار، وأُكابِدُ السَّبْحَ في قاموس هاتيك البحار، حتى ظهرَتْ الثآلِيلُ على أصابع يُمْنايَ من الجَريَان بأقلام الكتابة على تلك الأكْداس المُكدَّسة مِن آلاف الورقات (فلَم أكن وقتها اهتديْتُ لمعرفة الكتابة على الحاسب الآلي، ولا عرفتُ لشبكة المعلومات طريقًا).
وربما انكفَفْتُ على التخريج في هوَادِي بعض الليالي حتى مجيء جُهْمَةٍ الليْل من يوم آخر! وكمْ دِيرَ (مِن الدورَان) برأسي غير مرة مِن جرَّاء انكبابي على العمل في هذا الكتاب؟! وكم مرة اشتدَّ الرمَدُ بعيني حتى اضطُرِرْتُ أخيرًا إلى ارتداء آلَة النظَر (النظارة) بِرَغْم أَنْفِي؟! ولستُ أُحْصِي ما بَرِيَ بيدي من أقلام، ولا ما عانيْتُ في تضاعيفه مِن أَوْصاب وآلام؛ سائلا ربي أن يصْرِف كل ذلك في مرضاته، وأن يتقبَّلنا في عِداد أهل مغفرته ورَحَماته.
يُتابَع البقية: ....