وتأمل قول عبد الكريم الخضير: شرح اختصار علوم الحديث -(8/ 24، بترقيم الشاملة آليا):
(نعم المبتدع، يعني من ارتكب البدعة، والبدعة المراد بها: ما أحدث في الدين على وجه التقرب إلى الله -سبحانه وتعالى-، من ارتكب بدعة فلا تخلو هذه البدعة: إما أن تكون مكفرة مخرجة عن الملة، أو غير مكفرة، إن كانت البدعة مكفرة فلا إشكال، فالكافر لا تصح روايته قولاً واحداً، لكن يختلف مثل هذا عن الكافر الأصلي، أن هذا يدعي أنه مسلم، ويأتي ببعض شعائر الإسلام، بل قد يأتي بالشعائر كلها، ويرتكب مع ذلك ما يخرجه عن الدين، أو قد يعتقد ما حكم أهل العلم بكفر معتقده، افترضنا أن شخصاً حلولياً أو مجسماً أو نافي للرؤية، أو قائلٌ بخلق القرآن، أو ما أشبه ذلك من البدع المغلظة، العلماء كفروا الجهمية، افترضنا أن جهمي يروي الحديث، أو رافضي من الروافض الغلاة، فما حكم روايته للحديث؟ الجمهور على أن من كفر ببدعته لا تقبل روايته، والذي رجحه ابن حجر أنه لو حكم بكفره بسبب هذه البدعة أن روايته مقبولة، ما لم ينكر أمراً معلوماً من الدين بالضرورة، يقول: لأن كل طائفة تدعي فسق الطائفة الأخرى، وقد تبالغ فتكفر الطائفة الأخرى، لكن العبرة بالطائفة المعتدلة التي دينها الكتاب والسنة، تدور معهما حيث ما دارا، أما كوننا لا نقبل الجهمية؛ لأننا نكفرهم، وهم يكفروننا إذاً لا نقْبَل منهم، هذا الكلام ما هو بصحيح، العبرة بأهل السنة الذين هم أهل الكتاب والسنة.
يقول: "فلا إشكال في رد روايته، وإذا لم يكفر فإن استحل الكذب ردت أيضاً" لأن استحلال الكذب عمدة الرواية الصدق، فإذا كان الراوي ممن يكذب أو يستحل الكذب، فهذا مردود اتفاقاً، يخالف مقتضى الرواية، فهذا لا وجه لقبوله، وإن لم يستحل الكذب، إذا عرف بالكذب، كذب على النبي -عليه الصلاة والسلام- ولو مرة واحدة، أو يتعاطى الكذب في حديثه مع الناس، فإن هذا أيضاً مردود الرواية.
أو يفرق بين كونه داعية أو غير داعية؟ الجمهور على أن الداعية لا يقبل، وغير الداعية يقبل، ونقل ابن حبان عليه الاتفاق، اتفاق أئمتهم، والخلاف في المراد بأئمتهم هل هم المحدثون؟ أو الشافعية؟ على كل حال رد الداعية قول الجمهور، وقال بعضهم بقبول روايته لوجود رواية بعض الدعاة في الصحيح، وأشار الحافظ ابن كثير إلى عمران بن حطان، وهو من الدعاة إلى قول الخوارج، الخوارج القعدية من رؤوس الخوارج، وقد مدح قاتل علي، وهذه دعوة، والحافظ ابن حجر يدافع عن تخريج البخاري لعمران بن حطان أنه ما المانع من قبول روايته وقد عرف بصدق اللهجة؟ ومعروف أن الخوارج من أصدق الناس لهجةً؛ لأنهم يرون الكذب كبيرة، ومرتكب الكبيرة كافر، إذاً لا يكذبون، وأشار إلى ذلك شيخ الإسلام في مواضع، وأن الخوارج من أصدق الناس لهجة، وبهذا أجاب ابن حجر عن رواية البخاري وتخريجه لحديث عمران بن حطان، والعيني تعقبه بقوله: "وأيُّ صدقٍ في لهجة مادح قاتل علي" تعقب في مكانه، في محله، فالذي يمدح قاتل علي أي صدقٍ في لهجته؟ لكن إذا عرفنا أنه يعتقد مثل هذا الكلام، فمثل هذا صدق بالنسبة له، وابن حزم يرجح الداعية على غير الداعية، يقول: الداعية أولى بالقبول من غير الداعية، لماذا؟ لأن هذا الداعية ينصر ما يراه الحق، ينصر ما أداه إليه اجتهاده، وأنه هو الحق، علماً بأن من أهل العلم من يرد المبتدعة مطلقاً، وهو قولُ الإمام مالك، لكن رد المبتدعة مطلقاً، وعدم قبول روايتهم من غير تفصيل هذا قولٌ مباعد عن الشائع عن استعمال أهل العلم، فروايات المبتدعة كتب السنة طافحة بها، بما في ذلك الصحيحين، فكتب السنة مشحونة بالرواية عن المبتدعة، لكن غير من كبرت بدعته أو من غلظت بدعته، والحافظ الذهبي -رحمه الله- في مقدمة الميزان قسم البدع إلى بدع كبرى وبدع صغرى، بدع مغلظة مثل هؤلاء لا تقبل رواية من اتصف بها، وأما البدع الصغرى فمثل هؤلاء تقبل رواياتهم.
قلتُ -يقول الحافظ ابن كثير-: "وقد قال الشافعي: أقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية من الرافضة لأنهم يرون شهادة الزور لموافقيهم، فلم يفرق الشافعي في هذا النص بين الداعية وغيره"، لكن ماذا عن الاتفاق الذي ذكره ابن حبان وهو شافعي المذهب؟ هل يخفى عليه رأي الإمام الشافعي الذي نقل الاتفاق على رد رواية الداعية؟ اتفاق أئمتهم والشافعي داخل على الاحتمالين، يقول: "ثم ما الفرق في المعنى بينهما" يعني هل الدعوة إلى البدعة مؤثرة في الرواية؟ ابن كثير يرى أن الدعوة إلى البدعة لا تؤثر، لكن لنعلم أن الداعية إلى البدعة قد يحمله الحماس إلى بدعته فيكذب في الرواية، وتؤثر هذه البدعة في روايته، حماس، وهذا قد يحمله على أن يضع الحديث للحط من خصومه، هذا وقع، وهذا قد يقول قائل: إنه وقع من الأتباع أيضاً فلنرد المبتدعة جملةٍ وتفصيلاً، نقول: من وقع منه هذا رُد، ومن لم يعرف بهذا يقبل خبره، والحافظ ابن كثير كأنه يميل إلى عدم التفريق بين الداعية وغيره لوجود رواية عمران بن حطان مادح عبد الرحمن بن ملجم قاتل علي في الصحيح، صحيح البخاري، يقول: "وهذا من أكبر الدعاة إلى البدعة".
أجيب عن تخريج الإمام البخاري لعمران بن حطان بأمور: أولاً: أنه خرج عنه ما تحمل عنه قبل اتصافه بالبدعة، عمران بن حطان كان من أهل السنة، والذي حمله على البدعة واعتناق مذهب الخوارج أنه تزوج امرأة جميلة لكنها من الخوارج، فتزوجها بنية دعوتها ليكسب أجرها، وفي هذا يخطئ من يقول: نبحث عن الجميلة ونكسب الأجر في دعوتها، والدين يجيء هذا الكلام ليس بصحيح، هذا خطرٌ عظيم، النتيجة أنها دعته فاعتنق مذهب الخوارج، أثرت فيه، ولم يستطع التأثير فيها، فمما أجيب به عن الإمام البخاري أن الإمام البخاري خرج عنه ما حُمل عنه قبل ابتداعه، ومنهم من قال: إن الإمام البخاري خرج عنه بعد توبته من هذه البدعة، ومنهم من يقول: خرج عنه في المتابعات والشواهد، على كل حال له ذكر في موضعين من الصحيح، والحديث الذي رواه عنه ... موجود هنا؟ ...