قال ابن قدامة رحمه الله: ((هَلْ يَجُوزُ الْجَمْعُ لِمُنْفَرِدٍ، أَوْ مَنْ كَانَ طَرِيقُهُ إلَى الْمَسْجِدِ فِي ظِلَالٍ يَمْنَعُ وُصُولَ الْمَطَرِ إلَيْهِ، أَوْ مَنْ كَانَ مُقَامُهُ فِي الْمَسْجِدِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: الْجَوَازُ؛ لِأَنَّ الْعُذْرَ إذَا وُجِدَ اسْتَوَى فِيهِ حَالُ وُجُودِ الْمَشَقَّةِ وَعَدَمِهَا؛ كَالسَّفَرِ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ الْعَامَّةَ إذَا وُجِدَتْ أَثْبَتَتِ الْحُكْمَ فِي حَقِّ مَنْ لَيْسَتْ لَهُ حَاجَةٌ، كَالسَّلَمِ، وَإِبَاحَةِ اقْتِنَاءِ الْكَلْبِ لِلصَّيْدِ وَالْمَاشِيَةِ فِي حَقِّ مَنْ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِمَا، وَلِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ فِي الْمَطَرِ، وَلَيْسَ بَيْنَ حُجْرَتِهِ وَالْمَسْجِدِ شَيْءٌ.
وَالثَّانِي: الْمَنْعُ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ لِأَجْلِ الْمَشَقَّةِ، فَيَخْتَصُّ بِمَنْ تَلْحَقُهُ الْمَشَقَّةُ، دُونَ مَنْ لَا تَلْحَقُهُ؛ كَالرُّخْصَةِ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ، يَخْتَصُّ بِمَنْ تَلْحَقُهُ الْمَشَقَّةُ، دُونَ مَنْ لَا تَلْحَقُهُ، كَمَنْ فِي الْجَامِعِ وَالْقَرِيبِ مِنْهُ([1])))اهـ.
قلت: والصحيح هو الوجه الثاني، وأن الجمع إنما يكون لجماعة المسجد، وأما من صلي في بيته أو في عمله لأجل المطر ونحوه فليس له الجمع، ولا تصح صلاته؛ ما لم تكن هناك ضرورة كمرض ونحوه.
وأما قياسهم جمع الصلاة على إباحة السَّلَمِ وإباحة اقتناء كلب الصيد والماشية لمن ليس في حاجة إلى ذلك، فقياس غير صحيح؛ وذلك لأن الشرع الحنيف قد أباح هذه الأشياء إباحة مطلقة؛ فكل من تعامل بالسَّلَمِ فمعاملته صحيحة - وإن لم يكن في حاجة إليه – لأن الشرع لم يقيده بالحاجة أو الضرورة. وكذلك كل من أراد الصيد أو كانت عنده ماشية، فله اقتناء كلب لذلك – وإن لم يكن في حاجة للصيد، أو في اقتناء الماشية – لأن نصوص الشرع أباحته إباحة مطلقة، ولم تقيده بالحاجة أو الضرورة.
وأما الجمع بين الصلاتين فلا يقاس على هذا لأمور ثلاثة:
الأمر الأول: أن الجمع لأجل المطر قد أُبيح لضرورة رفع المشقة عن الناس، وعدم إحراجهم؛ فلا يباح إلا مع المشقة.
الأمر الثاني: أن السُّنَّة قد جاءت بالجمع لجماعة المسجد، ولم تأت بالجمع لمن يصلون في البيوت.
الأمر الثالث: أن هناك نصوص آمرة بأداء الصلاة في وقتها؛ فلا بد من الأخذ بها؛ لأنها الأصل، وما عداها يحتاج إلى دليل، ولا دليل هنا.
فتبين أن قياس جمع الصلاة في المطر على السًّلًم واقتناء كلب الصيد والماشية، قياس غير صحيح؛ لأن هذا قد أُبيح إباحة مطلقة، وهذا لم تأت نصوص بإباحته إلا في صورة معينة وعلة معينة؛ فإذا انتفت الصورة وانتفت العلة فلا بد من الرجوع للأصل.
وأما قولهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم جمع في المطر وليس بين حجرته وبين المسجد شيء؛ فهذا دليل على ما ذكرناه مِن أنَّ الجمع إنما يكون لمن يصلي مع جماعة المسجد؛ وإن لم تقع عليه مشقة؛ وهنا يصلح أن يُستعمل قولُهم: ((الْحَاجَةُ الْعَامَّةُ إذَا وُجِدَتْ أَثْبَتَتِ الْحُكْمَ فِي حَقِّ مَنْ لَيْسَتْ لَهُ حَاجَةٌ)).



[1])) ((المغني)) (2/ 204).