ذهب الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد([1]) إلى أنه لا يجوز القصر في سفر المعصية، واشترطوا كون السفر سفر طاعة أو سفرًا مباحًا، وأما إن سافر لمعصية؛ كالآبق، وقطع الطريق، والتجارة في خمر، لم يقصر، ولم يترخص بشيء من رخص السفر؛ لأنه لا يجوز تعليق الرخص بالمعاصي، لِمَا فيه من الإعانة عليها والدعاية إليها، ولا يَرِد الشرع بذلك([2]).
قال ابن قدامة رحمه الله: ((وَلِأَنَّ التَّرَخُّصَ شُرِعَ لِلْإِعَانَةِ عَلَى تَحْصِيلِ الْمَقْصِدِ الْمُبَاحِ، تَوَصُّلًا إلَى الْمَصْلَحَةِ؛ فَلَوْ شُرِعَ هَاهُنَا لَشُرِعَ إعَانَةً عَلَى الْمُحَرَّمِ، تَحْصِيلًا لِلْمَفْسَدَةِ؛ وَالشَّرْعُ مُنَزَّهٌ عَنْ هَذَا، وَالنُّصُوصُ وَرَدَتْ فِي حَقِّ الصَّحَابَةِ، وَكَانَتْ أَسْفَارُهُمْ مُبَاحَةً، فَلَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِي مَنْ سَفَرُهُ مُخَالِفٌ لِسَفَرِهِمْ؛ وَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى ذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَ النَّصَّيْنِ، وَقِيَاسُ الْمَعْصِيَةِ عَلَى الطَّاعَةِ بَعِيدٌ؛ لِتَضَادِّهِمَا([3])))اهـ.
قلت: والصحيح – ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية والشيخ ابن عثيمين رحمهما الله - أن المسافر له قصر الصلاة، ولو كان سفر معصية؛ وذلك لأمرين:
الأول: أن القصر عزيمة، لا رخصة.
الثاني: أن أدلة الباب عامة ولم تُفرق بين سفر الطاعة وسفر المعصية؛ فوجب حملها على عمومها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((وَالْحُجَّةُ مَعَ مَنْ جَعَلَ الْقَصْرَ وَالْفِطْرَ مَشْرُوعًا فِي جِنْسِ السَّفَرِ وَلَمْ يَخُصَّ سَفَرًا مِنْ سَفَرٍ؛ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ؛ فَإِنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ قَدْ أَطْلَقَا السَّفَرَ قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}، كَمَا قَالَ فِي آيَةِ التَّيَمُّمِ: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} الْآيَةَ، وَكَمَا تَقَدَّمَتِ النُّصُوصُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُسَافِرَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَلَمْ يَنْقُلْ قَطُّ أَحَدٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ خَصَّ سَفَرًا مِنْ سَفَرٍ، مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ السَّفَرَ يَكُونُ حَرَامًا وَمُبَاحًا، وَلَوْ كَانَ هَذَا مِمَّا يَخْتَصُّ بِنَوْعٍ مِنَ السَّفَرِ لَكَانَ بَيَانُ هَذَا مِنَ الْوَاجِبَاتِ، وَلَوْ بَيَّنَ ذَلِكَ لَنَقَلَتْهُ الْأُمَّةُ، وَمَا عَلِمْتُ عَنِ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ شَيْئًا([4])))اهـ.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ((وذهب الإِمام أبو حنيفة وشيخ الإِسلام ابن تيمية وجماعة كثيرة من العلماء؛ إلى أنه لا يشترط الإِباحة لجواز القصر وأن الإِنسان يجوز أن يقصر حتى في السفر المحرم، وقالوا: إن هذا ليس برخصة، فإن صلاته الركعتين في السفر، ليست تحويلاً من الأربع إلى الركعتين، بل هي من الأصل ركعتان، والرخصة هو التحويل من الأثقل إلى الأخف، أما صلاة المسافر فهي مفروضة من أول الأمر ركعتين، وعلى هذا فيجوز للمسافر سفراً محرماً أن يصلِّي ركعتين، ولا يشترط على هذا الرأي إباحة السفر.
وهذا القول قول قوي، لأن تعليله ظاهر، فالقصر منوط بالسفر على أن الركعتين هما الفرض فيه، لا على أن الصلاة حوّلت من أربع إلى ركعتين، كما ثبت ذلك في «صحيح البخاري» وغيره عن عائشة رضي الله عنها: «أن أول ما فرضت الصلاة ركعتين، ثم هاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فزيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر على ركعتين» وحينئذ تبين أن الركعتين في السفر عزيمة لا رخصة وعليه فلا فرق بين السفر المحرم والسفر المباح([5])))اهـ.
[1])) ((مجموع الفتاوى)) (24/ 109).
[2])) ((الكافي)) (1/ 306).
[3])) ((المغني)) (2/ 194).
[4])) ((مجموع الفتاوى)) (24/ 109).
[5])) ((الشرح الممتع)) (4/ 350).