قد اختُلِف في سؤره كثيرًا على النحو التالي:

القول الأول: ذهب أبو حنيفة والثوري وإسحاق بن راهويه والشعبي وابن سيرين إلى نجاسة سؤره، واستدلوا:
1- بحديث القُلَّتين ، وقالوا: لولا أن سؤر السباع والدواب نجسة، لما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا القول.
2- قالوا: إن السباع حيوانات حرم أكلُها مثلها مثل الكلاب، وإن السباع والجوارح الغالب عليها أكل الميتة والنجاسات؛ فتُنجس أفواههم.
القول الثاني: ذهب مالك، والشافعي، وأحمد، والأوزاعي، وداود، والحسن البصري، وعطاء، وربيعة، ورُوِي عن عمر بن الخطاب، إلى طهارة سؤرها، واستدلوا بأحاديث، منها:
1- عن أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الحياض التي بين مكة والمدينة تَرِدُها السباع والكلاب والحُمُر، وعن الطهارة منها، فقال: (لها ما حملت في بطونِها، ولنا ما غبر طهور) .ضعيف: ابن ماجه 519، والبيهقي في السنن 1220، فيه عبدالرحمن بن زيد بن أسلم، قال البيهقي: ضعيف لا يُحتَج بأمثاله، وروي موقوفًا عن أبي هريرة عند ابن أبي شيبة في مصنفه 1511، وكذا روي عن عمر بن الخطاب موقوفًا أيضًا عند البيهقي.



2- عن يحيى بن عبدالرحمن بن حاطب أن عمر بن الخطاب خرج في ركبٍ فيهم عمرو بن العاص، حتى وَرَدُوا حوضًا، فقال عمرو بن العاص لصاحب الحوض: يا صاحب الحوض، هل تَرِدُ حوضَك السباعُ؟ فقال عمر بن الخطاب: يا صاحب الحوض، لا تُخبِرْنا؛ فإنا نَرِدُ على السباع وتَرِدُ علينا . ضعيف: أخرجه مالك في الموطأ 14، وعبدالرزاق في المصنف 250، والدارقطني في السنن 62، والبيهقي في السنن الكبرى 1181، قال ابن عبدالهادي في تنقيح التحقيق 1/75: في إسناده انقطاع، قلت: فإن يحيى بن عبدالرحمن بن حاطب لم يُدرِك عمر.



3- عن جابر بن عبدالله - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سُئل: أنتوضَّأ بما أفضلتِ الحُمُر؟ قال: (نعم، وبما أفضلت السباع كلها) .
ضعيف: الشافعي في مسنده 1/8، البيهقي في السنن 180، والدارقطني في السنن 176، قال البيهقي: وإبراهيم بن أبي يحيى الأسلمي مختلف في ثقته، وضعفه أكثر أهل العلم بالحديث وطعنوا فيه، وكان الشافعي يبعده عن الكذب، وقال ابن الجوزي: قال ابن حبان: داود بن الحصين حدَّث عن الثقات بما لا يشبه حديث الأثبات؛ تجب مجانبة روايته، وقد روى هذا الحديث عنه رجلان:
إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة، قال البخاري: عنده مناكير، وقال النسائي: ضعيف، وقال يحيى: ليس بشيء.والثاني: إبراهيم بن أبي يحيى، وقد كذبه مالك ويحيى بن معين، وقال الدارقطني: هو متروك؛ انظر: التحقيق في مسائل الخلاف 1/76، وتنقيح التحقيق لابن عبدالهادي 1/76 - 77.



4- عن ابن عمر قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره فسار ليلاً، فمرُّوا على رجلٍ جالس عند مُقْراةٍ له، فقال عمر: يا صاحب المقراة أَوَلَغتِ السباعُ الليلةَ في مُقراتِك، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يا صاحب المُقراةِ، لا تُخبِره، هذا متكلِّف، لها ما حملتْ في بطونها ولنا ما بقي شرابٌ وطهورٌ) . ضعيف: الدارقطني في السنن 34، فيه أيوب بن خالد، قال ابن عدي: أيُوب بن خالد حدَث عن الأَوْزَاعي بالمناكير الكامل 1/358، وقال الحاكم أبو أحمد: لا يتابع في أكثر حديثه، تهذيب الكمال 3/471، وفيه أيضًا: محمد بن عُلْوان: ضعيفٌ؛ انظر: تنقيح التحقيق لابن عبدالهادي 1/74 - 75.




مناقشة ورد القول بنجاسة سؤر السباع:


دليلهم الأول وهو حديث القلتين نقول: إن الحديث له منطوق وله مفهوم، أما منطوقه، فهو: (إن الماء الذي يبلغ القلتين لا يتنجَّس بحلول النجاسة فيه)، وهذا المنطوق لا يُفيدهم في القول بنجاسة سؤر السباع والدواب.

أما مفهومه، فهو أن الماء الذي يقل عن القلتين يتنجَّس بحلول النجاسة فيه، وهذا المفهوم أيضًا لا يفيدهم في القول بالنجاسة، وما قالوه: إنه لولا أن سؤر السِّباع والدوابِّ نجسٌ، لَمَا قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا الحديث.
فنقول: إن هذا احتمال ليس عليه دليل صريح، والقاعدة الأصولية: (أن الاحتمال يُسقط الاستدلال)، إذًا هذا الحديث غاية ما هنالك أن فيه شبهة دليل فحسب.
أما قياسهم السباع على الكلاب وإعطاؤها حكمها، فنقول:
إن القياس في العبادات لا يجوز، إلا أن يكون هناك علة ظاهرة في النص، ولا علة ظاهرة هنا، وإن كان لا بد لهم من القياس، فإنه يتوجَّب أن يستوي في طرفيه التماثل، وإلا فلا قياس، فالكلاب نجاسة آسارها تجبُ إزالتها بغسل ما أصيب منها سبع مرَّات مع التراب، فهل يُفعل ذلك بآسار السباع والدواب؟!
أما قولهم: إنها تأكل النجاسات ولا مُطهر لها، فتكون نجسة:
فنرد عليهم بأن الضِّباع تأكل النجاسات؛ لأنها حيوانات مفترسة طعامُها الجيف النجسة، وهي لا مطهِّر لها، فلماذا أحلَّ الله لنا أكله؟فعن ابن أبي عمار قال: قلتُ لجابرٍ: الضَّبُع أصيدٌ هي؟ قال: نعم، قال: قلتُ: آكُلُها؟ قال: نعم، قال: قلتُ: أقاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم . صحيح: الترمذي 851، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجه 3236، وصححه الألباني في الإرواء 1050.



وعليه؛ فالراجح القول بعدم نجاسة سؤر السباع والدواب؛ وذلك للبراءة الأصلية، وعدم وجود دليل قوي معتَبر ينهض للقول بالنجاسة، والله أعلم.
وقد ردَّ الخطابي الاستدلال بحديث القُلَّتين على نجاسة سؤر السباع والدواب؛ حيث قال: (وقد يحتمل أن يكون ذلك من أجل أن السباع إذا وردت المياه خاضتها وبالت فيها، وتلك عادتها وطباعها، وقلما تخلو أعضاؤها من لوث أبوالها ورجيعها، وقد ينتابها في جملة السباع الكلابُ، وآسارُها نجسةٌ ببيان السنة) . معالم السنن للخطابي 1/25.