والفسق يطلق في الشرع على الكافرين الكفر الأكبر، ويطلق على عصاة الموحدين.
فمن إطلاقه على الكافرين: قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ} [البقرة: 99].
وقوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 84].
وقوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55].
ومن إطلاقه على عصاة الموحدين: قوله تعالى: {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} [البقرة: 282].
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4].
والمقصود هنا: هم فسقة الموحدين؛ سواء كان الفسق بمعصية؛ كالسرقة أو الزنى أو شرب الخمر، أو بالغِيبة والنميمة أو سب المسلمين، وغير ذلك؛ أو كان الفسق ببدعة؛ كإرجاء أو رفض أو تأويل لبعض الصفات، وغير ذلك.
وأما الكافر؛ سواء كان كافرًا أصليًّا، أو كافرًا ببدعته؛ كغلاة الرافضة، أو غلاة الجهمية، فمتفق على أن الصلاة خلفه لا تجوز.
وقد استدل بعض الفقهاء على عدم صحة الصلاة خلف الفاسق بحديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَلَا لَا تَؤُمَّنَّ امْرَأَةٌ رَجُلًا، وَلَا يَؤُمَّ أَعْرَابِيٌّ مُهَاجِرًا، وَلَا يَؤُمَّ فَاجِرٌ مُؤْمِنًا، إِلَّا أَنْ يَقْهَرَهُ بِسُلْطَانٍ، يَخَافُ سَيْفَهُ وَسَوْطَهُ([1])».
وهو حديث ضعيف لا يثبت.
قلت: والصحيح – وهو رواية عن أحمد([2]) وهذا مذهب الشافعي – أن الصلاة خلف الفاسق صحيحة.
قال ابن قدامة رحمه الله:
((وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يُصَلِّي خَلْفَ الْحَجَّاجِ، وَالْحُسَيْنُ وَالْحَسَنُ، وَغَيْرُهُمَا مِنَ الصَّحَابَةِ كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَ مَرْوَانَ، وَاَلَّذِينَ كَانُوا فِي وِلَايَةِ زِيَادٍ وَابْنِهِ كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَهُمَا، وَصَلَّوْا وَرَاءَ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ، وَقَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ وَصَلَّى الصُّبْحَ أَرْبَعًا، وَقَالَ: أَزِيدُكُمْ؛ فَصَارَ هَذَا إجْمَاعًا، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَيْفَ أَنْتَ إذَا كَانَتْ عَلَيْك أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا؟ قَالَ: قُلْت: فَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: صَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا، فَإِنْ أَدْرَكْتَهَا مَعَهُمْ فَصَلِّ، فَإِنَّهَا لَك نَافِلَةٌ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ([3]). وَفِي لَفْظٍ: «فَإِنْ صَلَّيْتَ لِوَقْتِهَا كَانَتْ نَافِلَةً، وَإِلَّا كُنْتَ قَدْ أَحْرَزْتَ صَلَاتَكَ». وَفِي لَفْظٍ: «فَإِنْ أَدْرَكْتَ الصَّلَاةَ مَعَهُمْ فَصَلِّ، وَلَا تَقُلْ: إنِّي قَدْ صَلَّيْتُ، فَلَا أُصَلِّي». وَفِي لَفْظٍ: «فَإِنَّهَا زِيَادَةُ خَيْرٍ»؛ وَهَذَا فِعْلٌ يَقْتَضِي فِسْقَهُمْ، وَقَدْ أَمَرَهُ بِالصَّلَاةِ مَعَهُمْ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلَاةَ الْفَذِّ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً» عَامٌّ، فَيَتَنَاوَلُ مَحَلَّ النِّزَاعِ، وَلِأَنَّهُ رَجُلٌ تَصِحُّ صَلَاتُهُ لِنَفْسِهِ، فَصَحَّ الِائْتِمَامُ بِهِ كَالْعَدْلِ([4])))اهـ.
وهذا كلام مفيد لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
قال رحمه الله:
((وَأَمَّا الصَّلَاةُ خَلْفَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ وَخَلْفَ أَهْلِ الْفُجُورِ، فَفِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ وَتَفْصِيلٌ؛ لَكِنْ أَوْسَطُ الْأَقْوَالِ فِي هَؤُلَاءِ: أَنَّ تَقْدِيمَ الْوَاحِدِ مِنْ هَؤُلَاءِ فِي الْإِمَامَةِ لَا يَجُوزُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى غَيْرِهِ؛ فَإِنَّ مَنْ كَانَ مُظْهِرًا لِلْفُجُورِ أَوْ الْبِدَعِ يَجِبُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ وَنَهْيُهُ عَنْ ذَلِكَ؛ وَأَقَلُّ مَرَاتِبِ الْإِنْكَارِ هَجْرُهُ لِيَنْتَهِيَ عَنْ فُجُورِهِ وَبِدْعَتِهِ؛ وَلِهَذَا فَرَّقَ جُمْهُورُ الْأَئِمَّةِ بَيْنَ الدَّاعِيَةِ وَغَيْرِ الدَّاعِيَةِ فَإِنَّ الدَّاعِيَةَ أَظْهَرَ الْمُنْكَرَ فَاسْتَحَقَّ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ السَّاكِتِ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَسَرَّ بِالذَّنْبِ؛ فَهَذَا لَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ فِي الظَّاهِرِ؛ فَإِنَّ الْخَطِيئَةَ إذَا خَفِيَتْ لَمْ تَضُرَّ إلَّا صَاحِبَهَا، وَلَكِنْ إذَا أُعْلِنَتْ فَلَمْ تُنْكَرْ ضَرَّتْ الْعَامَّةَ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْمُنَافِقُونَ تُقْبَلُ مِنْهُمْ عَلَانِيَتَهُمْ وَتُوكَلُ سَرَائِرُهُمْ إلَى اللَّهِ تَعَالَى؛ بِخِلَافِ مَنْ أَظْهَرَ الْكُفْرَ.
فَإِذَا كَانَ دَاعِيَةً مُنِعَ مِنْ وِلَايَتِهِ وَإِمَامَتِهِ وَشَهَادَتِهِ وَرِوَايَتِهِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ لَا لِأَجْلِ فَسَادِ الصَّلَاةِ أَوِ اتِّهَامِهِ فِي شَهَادَتِهِ وَرِوَايَتِهِ؛ فَإِذَا أَمْكَنَ لِإِنْسَانِ أَلَّا يُقَدِّمَ مُظْهِرًا لِلْمُنْكَرِ فِي الْإِمَامَةِ وَجَبَ ذَلِكَ.
لَكِنْ إذَا وَلَّاهُ غَيْرُهُ وَلَمْ يُمْكِنْهُ صَرْفُهُ عَنِ الْإِمَامَةِ، أَوْ كَانَ هُوَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ صَرْفِهِ إلَّا بِشَرِّ أَعْظَمَ ضَرَرًا مِنْ ضَرَرِ مَا أَظْهَرَهُ مِنَ الْمُنْكَرِ فَلَا يَجُوزُ دَفْعُ الْفَسَادِ الْقَلِيلِ بِالْفَسَادِ الْكَثِيرِ وَلَا دَفْعُ أَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ بِتَحْصِيلِ أَعْظَمِ الضَّرَرَيْنِ؛ فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ جَاءَتْ بِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلِهَا وَتَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ؛ وَمَطْلُوبُهَا: تَرْجِيحُ خَيْرِ الْخَيْرَيْنِ إذَا لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَجْتَمِعَا جَمِيعًا، وَدَفْعُ شَرِّ الشَّرَّيْنِ إذَا لَمْ يَنْدَفِعَا جَمِيعًا.
فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ مَنْعُ الْمُظْهِرِ لِلْبِدْعَةِ وَالْفُجُورِ إلَّا بِضَرَرِ زَائِدٍ عَلَى ضَرَرِ إمَامَتِهِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ بَلْ يُصَلِّي خَلْفَهُ مَا لَا يُمْكِنُهُ فِعْلُهَا إلَّا خَلْفَهُ؛ كَالْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ وَالْجَمَاعَةِ؛ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ إمَامٌ غَيْرُهُ؛ وَلِهَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ يُصَلُّونَ خَلْفَ الْحَجَّاجِ وَالْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ الثَّقَفِيِّ وَغَيْرِهِمَا الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ؛ فَإِنَّ تَفْوِيتَ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ أَعْظَمُ فَسَادًا مِنَ الِاقْتِدَاءِ فِيهِمَا بِإِمَامِ فَاجِرٍ؛ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ التَّخَلُّفُ عَنْهُمَا لَا يَدْفَعُ فُجُورَهُ، فَيَبْقَى تَرْكُ الْمَصْلَحَةِ الشَّرْعِيَّةِ بِدُونِ دَفْعِ تِلْكَ الْمَفْسَدَةِ.
وَلِهَذَا كَانَ التَّارِكُونَ لِلْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَاتِ خَلْفَ أَئِمَّةِ الْجَوْرِ مُطْلَقًا مَعْدُودِينَ عِنْدَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ.
وَأَمَّا إذَا أَمْكَنَ فِعْلُ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ خَلْفَ الْبَرِّ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ فِعْلِهَا خَلْفَ الْفَاجِرِ([5])))اهـ.
[1])) أخرجه ابن ماجه (1081)، وغيره، وضعفه الألباني في ((الإرواء)) (524).
[2])) ذكرها في ((المغني)) (2/ 139).
[3])) برقم (643)، وكذلك جميع الألفاظ الآتية في ((صحيح مسلم)) بنفس الرقم.
[4])) ((المغني)) (2/ 139).
[5])) ((مجموع الفتاوى)) (23/ 342- 344).