إثبات عذاب القبر :

قال صاحب السلم:
وإن كلَّ مُقْعَدٍ مسؤولُ
ما الربُّ؟ ما الدينُ؟ وما الرسولُ؟

وعند ذا يثبِّت المهيمنُ
بثابتِ القولِ الذين آمنُوا

ويُوقِن المرتابُ عند ذلك
بأنما موردُه المهالك



قد تظاهرتِ الأدلةُ من القرآن، والسنة ، وإجماع الأئمة من الصحابة والتابعين، ومَن سار على نهجهم من أهل السنة والجماعة - على إثبات عذاب القبر ، وما أنكره إلا المعتزلة ، وعلى رأسهم بِشْر بن علي المَرِّيسي ، وقد تعلَّقوا بشبهات هي كبيت العنكبوت عند العلماء، وهي :

1- قول الله - عز وجل -: ﴿ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى ﴾ [الدخان: 56].

قالوا : لو صاروا أحياء في القبور، لذاقوا الموت مرَّتين لا مرة واحدة .


2- قول الله - عز وجل -: ﴿ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ﴾ [فاطر: 22].

3- ولديهم شبه عقلية ؛ وهي : قالوا : فإنا نرى شخصًا يصلب ، ويبقى مصلوبًا إلى أن تذهب أجزاؤه ، ولا نشاهد إحياء ومساءلة .


أما الرد على شبههم :

الأولى : إنما هي في صفة أهل الجنة وما لهم فيها من نعيم وخلد مُقِيم، وأنهم لا يذوقون فيها الموت .


ونقول لهم تأكيدًا على هذا المعنى: وهو حياة أهل القبور؛ فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديثٍ: ((إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله - تبارك وتعالى - إلى جسده يوم يبعثه)) . ابن ماجه (4271)، وأحمد (15776) من حديث كعب بن مالك، وصححه الألباني في الصحيحة (995).

؛ فالحديث يدل على أن أرواح المؤمنين في الجنة في حواصل الطير الخضر، وفيهم الشهداء ؛ لأنهم من جملة المؤمنين ، وقد قال الله - تعالى - في شأنهم: ﴿ وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ ﴾ [البقرة: 154].


انظر قال - تعالى -: ﴿ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ ﴾؛ فهل شعرتم أنتم بذلك يا مَن تنكرون عذاب القبر ونعيمه ؟!


الرد على الشبهة الثانية من وجهين :

أ- قوله: ﴿ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ﴾ [فاطر: 22] ، هو نفيٌ لاستطاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يُسمِعَهم، وليس ذلك بمحالٍ في قدرة الله، فلو شاء لأسمعهم كما أسمع أهل القليب يوم بدرٍ، فقد قال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((هل وجدتُم ما وعدكم ربكم حقًّا؟) . جزء من حديث عند البخاري (4026) من حديث عبدالله بن عمر .


ب- أنه لم ينفِ مطلقَ السماع ؛ وإنما نفى سماعَ الاستجابة ؛ كما في حديث قليب بدرٍ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمعَ لما أقولُ منهم، ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا)) . جزء من حديث عند مسلم (2874) من حديث أنس بن مالك .


وهو أشبه بقوله - تعالى - في حق الكفار : ﴿ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [الجاثية: 8] ، ولو كان الكفار لا يسمعون مطلقًا، لم يكن القرآن حجَّة عليهم ولم يكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بلَّغهم، ومع هذا قال عنهم الله: ﴿ كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا ﴾؛ يعني : سماع استجابة.


أما شبهتهم العقلية ، فهي من شؤمِ تحكيم العقل في النصوص الشرعية، لا سيما الغيبية التي لا نراها بعيونِ الرأس ،ولكن نراها بعيون القلب الذي ينبض بالإيمان المصدِّق بكلام الرحمن وكلام خير الأنام محمد - صلى الله عليه وسلم - فلا نقول إلا كما قال حنظلة - رضي الله عنه -: قال : (قلتُ : نكون عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين) . جزء من حديث عند مسلم (2750) .

فنحن نرى الأمور الغيبية بعينِ النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي أخبرنا بها ، فهي أول صفات المؤمنين أنهم: ﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ﴾ [البقرة: 3].


ونقول لهم : هل ما ذكرتم من قصة الصلب أعظم ، أم الذي أُحرقت أعضاؤه وتفرَّقت أجزاؤه في الرياح ؟! كما روى أبو هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (كان رجلٌ يُسرِف على نفسه، فلما حضره الموتُ، قال لبَنِيه: إذا أنا متُّ فأحرقوني، ثم اطحنوني، ثم ذروني في الريح، فواللهِ لئن قَدَر عليَّ ربي؛ ليعذبني عذابًا ما عذَّبه أحدًا، فلما مات فُعِل به ذلك، فأمر الله الأرض، فقال: اجمعي ما فيكِ منه، ففعلت فإذا هو قائم، فقال: ما حملك على ما صنعتَ؟ قال: يا ربِّ، خشيتُك، فغفر له))، وفي رواية: ((مخافتك يا رب) . البخاري (3481)، ومسلم (2756) .


ولكن حق فيهم قول الله - تعالى - : ﴿ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ﴾ [يونس: 39].


أما أهل السنة والجماعة، فقد استدلوا بأدلة كثيرة واضحة من القرآن والسنة وأقوال الأئمة؛ فنذكر بعضها.
وكما قال الشاعر:
العبد يُقرَعُ بالعصا

والحرُّ تَكفِيه الإشارهْ

من القرآن :

قال - تعالى -: ﴿ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ﴾ [التوبة: 101].

قال ابن عباس والحسن: ﴿ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ﴾؛ عذاب الدنيا وعذاب القبر . الفتح (3/337) .


قال - تعالى -: ﴿ وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ﴾ [غافر: 45، 46].
قال القرطبي : الجمهور على أن هذا العرض يكون في البرزخ، وهو حجة في تثبيت عذاب القبر. الفتح (3/337) .


من السنة :

عن عائشة - رضي الله عنها -
أن يهوديةً دخلتْ عليها ، فذكرتْ عذاب القبر ، فقالت لها : أعاذَكِ الله من عذاب القبر ، فسألتْ عائشة رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عن عذاب القبر ، فقال : (نعم عذاب القبر) ، قالت عائشة - رضي الله عنها -: فما رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعدُ صلَّى صلاةً إلا تعوَّذ من عذاب القبر) . البخاري (1372) ، ومسلم (903)



عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :(العبدُ إذا وُضِع في قبره، وتولَّى وذهب أصحابه حتى إنه ليسمعُ قرعَ نعالهم، أتاه ملكانِ فأقعداه فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل محمد - صلى الله عليه وسلم؟ فيقول: أشهد أنه عبدالله ورسوله، فيقال: انظرْ إلى مقعدِك من النار، أبدلك الله به مقعدًا من الجنة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيراهما جميعًا، وأما الكافر أو المنافق، فيقول: لا أدري، كنتُ أقول ما يقول الناس، فيقال: لا دريتَ ولا تليتَ، ثم يُضرَب بمطرقةٍ من حديد ضربةً بين أذنيه، فيصيح صيحةً يسمعها مَن يليه إلا الثقلين) . البخاري (1338)، ومسلم (2870) .


وعن طاوس قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: (مرَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - على قبرينِ، فقال : (إنهما ليعذَّبانِ، وما يعذَّبان من كبير) ، ثم قال : (بلى ، أما أحدهما ، فكان يسعى بالنميمة ، وأما أحدُهما ، فكان لا يستتر من بولِه) ، قال : ثم أخذ عودًا رطبًا فكسره باثنتين ، ثم غرز كلَّ واحد منهما على قبر ، ثم قال : ((لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا) . البخاري ( 1378)، ومسلم ( 292) .

مما تقدَّم يتبيَّن لك من الآيات والأحاديث إثبات عذاب القبر .