بسم الله الرحمن الرحيم
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في بدائع الفوائد (2/ 467):
((... فالمحسن المتصدق يستخدم جندا وعسكرا يقاتلون عنه وهو نائم على فراشه فمن لم يكن له جند ولا عسكر وله عدو فإنه يوشك أن يظفر به عدوه وإن تأخرت مدة الظفر والله المستعان ))
قال ابن القيم في بدائع الفوائد :
(( تجريد التوبة إلى الله من الذنوب التي سَلَّطَتْ عليه أعداءَه فإن الله تعالى يقول: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}
وقال لخير الخلق وهم أصحاب نبيه دونه صلى الله عليه وسلم {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ}
فما سُلِّط على العبد من يؤذيه إلا بذنب يعلمه أو لا يعلمه
وما لا يعلمه العبد من ذنوبه أضعاف ما يعلمه منها
وما ينساه مما علمه وعمله أضعاف ما يذكره
وفي الدعاء المشهور "اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم وأستغفرك لم لا أعلم"
فما يحتاج العبد إلى الاستغفار منه مما لا يعلمه أضعاف أضعاف ما يعلمه
فما سلط عليه مؤذ إلا بذنب
ولقي بعض السلف رجل فأغلظ له ونال منه فقال: له قف حتى أدخل البيت ثم أخرج إليك فدخل فسجد لله وتضرع إليه وتاب وأناب إلى ربه ثم خرج إليه فقال له: ما صنعت فقال: تبت إلى الله من الذنب الذي سلطك به علي وسنذكر إن شاء الله تعالى أنه ليس في الوجود شر إلا الذنوب وموجباتها فإذا عوفي من الذنوب عوفي من موجباتها
فليس للعبد إذا بغي عليه وأوذي وتسلط عليه خصومه شيء أنفع له من التوبة النصوح
وعلامة سعادته أن يعكس فكره ونظره على نفسه وذنوبه وعيوبه فيشغل بها وبإصلاحها وبالتوبة منها فلا يبقى فيه فراغ لتدبر ما نزل به بل يتولى هو التوبة وإصلاح عيوبه
والله يتولى نصرته وحفظه والدفع عنه ولا بد
فما أسعده من عبد وما أبركها من نازلة نزلت به وما أحسن أثرها عليه
ولكن التوفيق والرشد بيد الله لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع
فما كل أحد يوفق لهذا لا معرفة به ولا إرادة له ولا قدرة عليه ولا حول ولاقوة إلا بالله .
ويقول ابن القيم رحمه الله في-إعلام الموقعين - (ج 1 / ص 196)
(( لذلك كان الجزاء مماثلا للعمل من جنسه في الخير والشر فمن ستر مسلما ستره الله
ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة
ومن نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة
ومن أقال نادما أقال الله عثرته يوم القيامة
ومن تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته
ومن ضار مسلما ضار الله به ومن شاق شاق الله عليه
ومن خذل مسلما في موضع يحب نصرته فيه خذله الله في موضع يحب نصرته فيه
ومن سمح سمح الله له
والراحمون يرحمهم الرحمن وإنما يرحم الله من عباده الرحماء
ومن أنفق أنفق عليه ومن أوعى أوعى عليه ومن عفا عن حقه عفا الله له عن حقه
ومن جاوز تجاوز الله عنه ومن استقصى استقصى الله عليه
فهذا شرع الله وقدره ووحيه وثوابه وعقابه كله قائم بهذا الأصل وهو إلحاق النظير بالنظير واعتبار المثل بالمثل))
ويقول ابن القيم رحمه الله (( ومنها أن يعامل العبد بني جنسه في إساءاتهم إليه وزلاتهم معه بما يحب أن يعامله الله به في إساءاته وزلاته وذنوبه
فإن الجزاء من جنس العمل فمن عفا عفا الله عنه ومن سامح أخاه في إساءته إليه سامحه الله في سيئاته
ومن أغضى وتجاوز تجاوز الله عنه ومن استقصى استقصى عليه
ولا تنس حال الذي قبضت الملائكة روحه فقيل له هل عملت خيرا هل عملت حسنة قال ما اعلمه قيل تذكر قال كنت أبايع الناس فكنت انظر الموسر وأتجاوز عن المعسر أو قال كنت آمر فتياني أن يتجاوزوا في السكة فقال الله نحن أحق بذلك منك وتجاوز الله عنه .
فالله عز و جل يعامل العبد في ذنوبه بمثل ما يعامل به العبد الناس في ذنوبهم
فإذا عرف العبد ذلك كان في ابتلائه بالذنوب من الحكم والفوائد ما هو انفع الأشياء له ......
ومنها انه إذا عرف هذا فأحسن إلى من أساء إليه ولم يقابله بإساءته إساءة مثلها تعرض بذلك لمثلها من ربه تعالى
وأنه سبحانه يقابل إساءته وذنوبه بإحسانه كما كان هو يقابل بذلك إساءة الخلق إليه
والله أوسع فضلا وأكرم واجزل عطاء
فمن أحب أن يقابل الله إساءته بالإحسان فليقابل هو إساءة الناس إليه بالإحسان
ومن علم أن الذنوب والإساءة لازمة للإنسان لم تعظم عنده إساءة الناس إليه
فليتأمل هو حاله مع الله كيف هو مع فرط إحسانه إليه وحاجته هو إلى ربه وهو هكذا له
فإذا كان العبد هكذا لربه فكيف ينكر أن يكون الناس له بتلك المنزلة
ومنها أنه يقيم معاذير الخلائق وتتسع رحمته لهم ويتفرج بطانه ويزول عنه ذلك الحصر والضيق والانحراف واكل بعضه بعضا ويستريح العصاة من دعائه عليهم وقنوطه منهم وسؤال الله ان يخسف بهم الأرض ويسلط عليهم البلاء فإنه حينئذ يرى نفسه واحدا منهم
فهو يسأل الله لهم ما يسأله لنفسه وإذا دعا لنفسه بالتوبة والمغفرة أدخلهم معه فيرجو لهم فوق ما يرجو لنفسه ويخاف على نفسه اكثر مما يخاف عليهم
فأين هذا من حاله الأولى وهو ناظر إليهم بعين الاحتقار والازدراء لا يجد في قلبه رحمة لهم ولا دعوة ولا يرجو لهم نجاة
فالذنب في حق مثل هذا من أعظم أسباب رحمته مع هذا فيقيم أمر الله فيهم طاعة لله ورحمة بهم وإحسانا إليهم إذ هو عين مصالحتهم لا غلظة ولا قوة ولا فظاظة)) مفتاح دار السعادة - ج 1 / ص 291
ويقول (( اعلم أن لك ذنوبا بينك وبين الله تخاف عواقبها وترجوه أن يعفو عنها ويغفرها لك ويهبها لك ومع هذا لا يقتصر على مجرد العفو والمسامحة حتى ينعم عليك ويكرمك ويجلب إليك من المنافع والإحسان فوق ما تؤمله
فإذا كنت ترجو هذا من ربك أن يقابل به إساءتك فما أولاك وأجدرك أن تعامل به خلقه وتقابل به إساءتهم ليعاملك الله هذه المعاملة فإن الجزاء من جنس العمل
فكما تعمل مع الناس في إساءتهم في حقك يفعل الله معك في ذنوبك وإساءتك جزاء وفاقا
فانتقم بعد ذلك أو اعف وأحسن أو اترك فكما تدين تدان
وكما تفعل مع عباده يفعل معك
فمن تصور هذا المعنى وشغل به فكره هان عليه الإحسان إلى من أساء إليه
هذا مع ما يحصل له بذلك من نصر الله ومعيته الخاصة
كما قال النبي للذي شكى إليه قرابته وأنه يحسن إليهم وهم يسيئون إليه فقال لا يزال معك من الله ظهير ما دمت على ذلك . رواه مسلم
هذا مع ما يتعجله من ثناء الناس عليه ويصيرون كلهم معه على خصمه
فإنه كل من سمع أنه محسن إلى ذلك الغير وهو مسيء إليه وجد قلبه ودعاءه وهمته مع المحسن على المسيء وذلك أمر فطري فطر الله عباده
فهو بهذا الإحسان قد استخدم عسكرا لا يعرفهم ولا يعرفونه ولا يريدون منه إقطاعا ولا خبرا
هذا مع أنه لا بد له مع عدوه وحاسده من إحدى حالتين
إما أن يملكه بإحسانه فيستعبده وينقاد له ويذل له ويبقى من أحب الناس إليه
وإما أن يفتت كبده ويقطع دابره إن أقام على إساءته إليه فإنه يذيقه بإحسانه أضعاف ما ينال منه بانتقامه
ومن جرب هذا عرفه حق المعرفة
والله هو الموفق المعين بيده الخير كله لا إله غيره
وهو المسئول أن يستعملنا وإخواننا في ذلك بمنه وكرمه )) بدائع الفوائد - (ج 2 / ص 468)