ليعلم طالبُ العلم أن الوقت رأس ماله، وأنه لا يصل إلى ما يرجوه من الحفظ والتحصيل إلا باستغلاله، والحفاظ عليه، وليكن أشحَّ بوقته من البخيل بماله، فما حَفِظَ الحفاظُ، ولا فَقِهَ الفقهاءُ، ولا عَلِمَ العلماءُ إلَّا بحفظ أوقاتهم.
هذا المحَدِّثُ الشهير ((عبيد بن يعيش)) شيخ البخاري ومسلم يقول: أقمتُ ثلاثين سنة ما أَكلتُ بيدي بالليل، وكانت أختي تلقمني وأنا أكتب الحديث([1]).
وهذا الإمام سُلَيْمٌ الرازي شيخ الشافعية في زمانه: كان يحاسب نفسه على الأوقات حسابًا شديدًا، حتى لا يدع وقتًا يمر بلا فائدة، قال عنه المؤمل بن الحسن: رأيت سُلَيْمًا حَفِيَ عليه القلم([2])، فإلى أنْ قطه – أي: براه وحسنه - جعل يحرك شفتيه، فعلمتُ أنه يقرأ في أثناء إصلاحه القلم؛ لئلا يمضي عليه زمان وهو فارغ([3]).
وهذا الخطيب البغدادي كان لا يمشي إلا وفي يده جزء يطالعه؛ حفاظًا على وقته([4]).
وهذا أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي يقول عن نفسه: لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري؛ حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة أو مناظرة، وبصري عن مطالعة، أعملت فكري في حال راحتي وأنا منطرح فلا أنهض، إلا وقد خطر لي ما أُسَطِّرُهُ، وإني لأجد من حرصي على العلم وأنا في عمر الثمانين، أشد مما كنتُ أجد وأنا ابن عشرين سنة([5]).
واعلم بارك الله فيك أن القليل إذا ضُمَّ بعضُه إلى بعض صار كثيرًا، فلا تحقرنَّ من العلم شيئًا، وإن كان قليلًا؛ كما قيل:
وهذا ابن الجوزي يقول: ينبغي للإنسان أن يعرف شرفَ زمانه، وقدرَ وقْتِهِ، فلا يضيع منه لحظة في غير قُرْبَةٍ، ويُقَدِّمُ فيه الأفضل من القول والعمل([6]).
اليوم شيء وغدًا مثله
منْ نُخب العلمِ التي تُلتقطُ
يحصِّل المرء بها حكمه
وإنما السيل اجتماع النقط
ويقول يحيى بن القاسم: كان ابن سُكَيْنَةَ عالمًا عاملًا، لا يضيع شيئًا من وقته، وكنا إذا دخلنا عليه يقول: لا تزيدوا على (سلام عليكم... مسألة)؛ وذلك لكثرة حرصه على المباحثة وتقرير الأحكام([7]).
قال ابن جماعة : ((يبادر [طالب العلم] شبابه وأوقات عمره إلى التحصيل، ولا يغتر بخدع التسويف والتأميل؛ فإنَّ كل ساعة تمضي من عمره لا بدَلَ لها ولا عوض عنها([8]))).
وقال الزرنوجي: فيغتنم أيام الحداثة وعنفوان الشباب، كما قيل:
ومنها: تنظيم الأوقات في طلب العلوم، وترتيبها مع كل علم، وبما يعود بالنفع الكثير على الطالب؛ قال ابن جماعة : أنْ يقسم أوقات ليله ونهاره، ويغتنم ما بقي من عمره، فإنَّ بقية العمر لا قيمة له.
بقدر الكد تُعطى ما تروم
فمن رام المنى ليلًا يقوم
وأيام الحداثة فاغتنمها
ألا إنَّ الحداثة لا تروم
ومنها: ترك فضول الصحبة، والخروج إلى الطرقات والأسواق؛ فمثل هذه المجالس ضرها أقرب من نفعها؛ ولذا وجب الاحتراز منها، فأقلُّ أضرارها ضياع وقت جالسيها، وعدم حصول المنفعة لهم من وراء جلستهم؛ لكثرة ما يكون فيها من لغو وغلط.
ومنها: ترك فضول النوم، فلا ينال منه إلا ما يحتاج إليه.
قال ابن جماعة: أنْ يقلل نومه ما لم يلحقه ضرر في بدنه وذهنه، ولا يزيد في نومه في اليوم والليلة على ثمان ساعات، وهو ثلث الزمان، فإن احتمل حاله أقل منها فعل.
ومنها: ترك فضول الاهتمام بتحصيل المباحات من أكل وشرب ووطء؛ فإنه منفقة للوقت، سواء في التحصيل أو في تهيئة أسبابها([9]).
فعليك أخي طالب العلم – حفظك الله ورعاك ودلك إلى كل خير - بدوام الحرص على الازدياد بملازمة الجد، والاجتهاد، والمواظبة على وظائف الأوراد من العبادة، والاشتغال والإشغال قراءةً وإقراءً ومطالعةً وفكرًا وتعليقًا وحفظًا وبحثًا.
ولا تُضيع شيئًا من أوقات عمرك في غير ما هو بصدده من العلم والعمل إلا بقدر الضرورة من أكل أو شرب أو نوم أو استراحة لملل أو أداء حق زوجة أو زائر، أو تحصيل قوت، وغيره مما يحتاج إليه، أو لألم أو غيره مما يتعذر معه الاشتغال؛ فإن بقية عمر المؤمن لا قيمة له ومن استوى يوماه فهو مغبون.
وكان بعضهم لا يترك الاشتغال لعروض مرض خفيف، أو ألم لطيف، بل كان يستشفي بالعلم، ويشتغل بقدر الإمكان؛ كما قيل:
وذلك لأن درجة العلم درجة وراثة الأنبياء، ولا تُنال المعالي إلا بشق الأنفس، وفي ((صحيح مسلم)) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ، وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ([10])».
إذا مرضنا تداوينا بذكركمُ
ونترك الذكرَ أحياناً فننتكسُ
قال المتنبي:
وكما قيل:
تُريدينَ لُقيانَ المَعالي رَخيصَةً
وَلا بُدَّ دونَ الشَهدِ مِن إِبَرِ النَحلِ
وهذه طائفة من أخبار العلماء رحمهم الله، وكيف كان حفاظهم على الوقت:
لا تحسبِ المجدَ تَمْراً أنت آكله
لن تبلغَ المجد حَتَّى تَلْعَق الصَّبِرا([11])
قَالَ مُوْسَى بنُ إِسْمَاعِيْلَ التَّبُوْذَكِيّ ُ: لَوْ قُلْتُ لَكُم: إِنِّيْ مَا رَأَيتُ حَمَّادَ بنَ سَلَمَةَ ضَاحِكًا، لَصَدَقْتُ؛ كَانَ مَشْغُولًا، إِمَّا أَنْ يُحَدِّثَ، أَوْ يَقْرَأَ، أَوْ يُسبِّحَ، أَوْ يُصَلِّيَ؛ قَدْ قَسَّمَ النَّهَارَ عَلَى ذَلِكَ([12]).
وقال الربيع: لَمْ أَرَ الشافعي آكلًا بنهار ولا نائمًا بليل؛ لاشتغاله بالتصنيف([13]).
وَقَالَ رَجُلٌ لِعَامِرِ بْنِ عَبْدِ قَيْسٍ: قِفْ أُكَلِّمُكَ، فقَالَ: فَأَمْسِكِ الشَّمْسَ([14]).
وَأَطَالَ قَوْمٌ الْجُلُوسَ عِنْدَ مَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ، فقَالَ: أَمَا تُرِيدُونَ أَنْ تَقُومُوا! إِنْ مَلَكَ الشَّمْسِ لا يَفْتُرُ عَنْ سَوْقِهَا([15]).
ومِنَ العلماء مَنْ كان يطالع حال مشيه حفاظًا على الوقت:
قال الحافظ الذهبي : ((قال أحمد بن محمد بن مَرْدَوَيْه: كان أبو نعيم في وقته مرحولًا إليه، لم يكن في أفق من الآفاق أحد أحفظ منه ولا أسند منه، كان حفاظ الدنيا قد اجتمعوا عنده، وكل يوم نوبة واحد منهم يقرأ ما يريد إلى قريب الظهر, فإذا قام إلى داره ربما كان يُقرأ عليه في الطريق جزء، وكان لا يضجر؛ لَمْ يكن له غذاء سوى التسميع والتصنيف([16]))).
وقال جمال الدين القٍفْطي – في ترجمة محمد السعيدي بن بركات النحوي البصري [520هـ] -: ((أنه رأى وهو صَبِيٌّ، يعقوب بن خُرَّزاذ النَّجِيرَمِيَّ ماشيًا فى طريق القرافة؛ شيخًا أسمر، كبير اللِّحية، مدوَّر العمامة، وبيده كتاب وهو يطالع فيه في مشيته([17]))).
وقال الذهبي : ((قال ابن الآبنوسي: كان الخطيب يمشي وفي يده جزء يطالعه([18]))).
وقال ابن خَلِّكان في ترجمة ثعلب النحْوي: ((وكان سبب وفاته، أنه خرج من الجامع يوم الجمعة بعد العصر - وكان قد لَحِقَه صمم لايسمع إلا بعد تعب - وكان في يده كتاب ينظر فيه في الطريق، فصدمته فرس فألقته في هُوَّة، فَأُخْرج منها وهو كالمختلط، فَحُمِل إلى منزله على تلك الحال وهو يتأوه من رأسه، فمات ثاني يوم([19]))).
وقال ابن عساكر : ((وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الْخَيَّاطُ النَّحْوِيُّ يَدْرُسُ جَمِيعَ أَوْقَاتِهِ، حَتَّى فِي الطَّرِيقِ، وَكَانَ رُبَّمَا سَقَطَ فِي جَرْفٍ أَوْ خَبَطَتْهُ دَابَّةٌ([20]))).
ومنهم مَنْ كان يُطالع ويذاكر العِلْمَ حال مرضه حفاظًا على الوقت:
من ذلك ما حكاه العلامة ابن القيم عن شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية .
قال العلامة ابن القيم : ((حدثني شيخنا، قال: ابتدأني مرض، فقال لي الطبيب: إن مطالعتك وكلامك في العلم يزيد المرض، فقلت له: لا أصبر على ذلك، وأنا أُحَاكِمُكَ إلى علمك؛ أليست النفس إذا فَرِحَتْ وَسُرَّتْ قويت الطبيعة فدفعت المرض فقال: بلى. فقلت له: فإنَّ نفسي تُسَرُّ بالعلم فتقوى به الطبيعة فأجد راحة. فقال: هذا خارج عن علاجنا([21]))).
ومنهم من كان يأمر مَنْ يقرأ عليه وهو في الخلاء حفاظًا على الوقت:
قال الإمام ابن القيم : ((وأما عُشَّاقُ العلم، فأعظم شغفًا به وعشقًا له من كل عاشق بمعشوقه، وكثير منهم لا يشغله عنه أجمل صورة من البشر، وقيل لامرأة الزبير بن بكار أو غيره: هنيئًا لك؛ إذ ليست لك ضرة. فقالت: والله لهذه الكتب أضر علي من عدة ضرائر. وحدثني أخو شيخنا عبد الرحمن ابن تيمية عن أبيه قال: كان الْجَدُّ إذا دخل الخلاء يقول لي: اقرأ في هذا الكتاب وارفع صوتك حتى أسمع([22]))).
[1])) ((الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع)) (2/ 178).
[2])) حَفِيَ: أَيْ: رقَّ مِنْ كثرة الكتابة؛ وَحَفِيَتْ قَدَمُهُ أَوْ حَافِرُهُ؛ أَيْ: رَقَّتْ مِنْ كَثْرَةِ الْمَشْيِ. انظر: ((مختار الصحاح)) (77).
[3])) ((تبيين كذب المفتري فيما نُسب إلى الأشعري)) لابن عساكر (263).
[4])) ((تذكرة الحفاظ)) (3/ 224).
[5])) ((ذيل طبقات الحنابلة)) (1/ 324).
[6])) ((صيد الخاطر)) (33).
[7])) ((سير أعلام النبلاء)) (21/ 504).
[8])) ((تذكرة السامع والمتكلم بأدب العالم والمتعلم)) (35).
([9]) انظر: ((الطريق إلى العلم)) (72- 73).
([10]) أخرجه مسلم (2823).
([11]) انظر: ((تذكرة السامع)) (17).
[12])) السابق (7/ 448).
[13])) ((تذكرة السامع والمتكلم بأدب العالم والمتعلم)) (17).
[14])) ((صيد الخاطر)) (505)، و((حفظ العمر)) (45) لابن الجوزي.
والمعنى: أن الشمس تسير والعمر يجري؛ فهل تستطيع إمساكه عليَّ؟ فإن لم تكن تستطيع ذلك، فلا مجال لتضييع الوقت.
[15])) ((صيد الخاطر)) (505)، و((حفظ العمر)) (45).
[16])) ((تذكرة الحفاظ)) (3/ 196).
[17])) ((إنباه الرواه على أنباه النحاة)) (3/ 79).
[18])) ((تذكرة الحفاظ)) (3/ 224).
[19])) ((وفيات الأعيان)) (1/ 101).
[20])) ((الحث على طلب العلم والاجتهاد في جمعه)) (77).
[21])) ((روضة المحبين ونزهة المشتاقين)) (70).
[22])) ((روضة المحبين)) (69، 70).