أنا
لعل هذا الضمير (أنا) من أكثر الضمائر التي نستعملها في حياتنا الذي نعبِّر به عن أنفسنا، وليست المشكلة في ذات استعماله، بل في سياقه!
ومَن تأمّل في حديث القرآن عن الناس ـ برِّهم وفاجرهم ـ وجد الفجّار أكثرَ الناس استعمالا لهذا الضمير في مقام الفخر والكبر والجحود!هذا سيد الأشقياء، لما قيل له: ﴿مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾[الأعراف: 12].

وهذا النمروذ يقولها ـ بكل كِبر وعناد لدعوة الخليل بعبادة الذي يحيي ويميت ـ: ﴿قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ﴾[البقرة: 258]!
وقالها صاحب البستان المتكبر: ﴿لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا﴾[الكهف: 34]!
وقالها رمزُ الطغاة من السلاطين: ﴿أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِين﴾[الزخرف: 52]!

وتتكرر الـ(أنا) بهذا التضخّم في كل زمان ومكان، ولكلّ قومٍ وارث!
ومِن جميل ما قاله ابن القيم –رحمه الله- في هذا المعنى: "ليُحذر كلَّ الحذر من طغيان "أنا"، "ولي"، "وعندي"!
فإن هذه الألفاظ الثلاثة ابتلي بها إبليسُ وفرعون، وقارون، (فأنا خير منه) لإبليس، و ﴿لي ملك مصر﴾[الزخرف: 51] لفرعون، و ﴿إنما أوتيته على علم عندي﴾[القصص: 78] لقارون.
وأحسن ما وُضِعت "أنا" في قول العبد: أنا العبدُ المذنب، المخطئ، المستغفر، المعترف ونحوه.
"ولي"، في قوله: لي الذنب، ولي الجرم، ولي المسكنة، ولي الفقر والذل.
"وعندي" في قوله: "اغفر لي جِدي، وهزلي، وخطئي، وعمدي، وكل ذلك عندي"([1]).

وصدق ـ رحمه الله ـ فإن الـ(أنا) لها وقْعٌ آخر، حينما تكون في موضع الانكسار للواحد القهّار، وفي مقام التذلل والخضوع للملك الجبار، والاعتراف بالذنب والتقصير في حق العليّ الكبير جلَّ جلاله، بل ما قيلت في شيء أحسن من هذا.

ومن عيون القصائد العربية المشهورة، قصيدة جمال الدين يحيى بن يوسف الصرصري، التي صدّرها بل وملأها حديثاً عن الـ(أنا)، لكنه حديث المعترف المخبِت السائل للمغفرة، فما أجمله من اعتراف! يقول رحمه الله:
أنا العبدُ الذي كسب الذنوبا
وصدّته الأماني أن يتوبا
أنا العبدُ الذي أضحى حزيناً
على زلاته قلقاً كئيباً
أنا العبدُ الذي سُطِرت عليه
صحائفُ لم يخف فيها الرقيبا
أنا العبدٌ المسيءً عصيتً سِرا
فما لي الآن لا أُبدي النحيبا
أنا العبدُ المفرِّط ضاع عمري
فلم أَرعَ الشبيبةَ والمشيبا
أنا العبدُ السقيمُ من الخطايا
وقد أقبلتُ ألتمس الطبيبا
أنا العبدُ الشريدُ ظلمتُ نفسي
وقد وافيتُ بابَكم مُنيبا
أنا العبدُ الفقيرُ مددتُ كفِّي
إليكم فادفعوا عني الخطوبا

إلى آخر قصيدته المؤثرة.

ونحن ـ مع كثرة تقصيرنا ـ محتاجون إلى هذه الروح التي تُردِّد الـ(أنا) المقصّرة، وهي تناجي ربها، وتتضرع لمولاها، مع حسن الظنّ به جلّ وعلا، خصوصاً في مواسم الخيرات، ومواضع الدعوات والابتهال إلى ربّ الأرض والسماوات.

وكذلك أيضاً محتاجون لتربية أنفسنا على التقليل من استعمالها في مدح أنفسنا ما لم يستدع المقام ذلك، أو وقعتْ على الإنسان مظلمةٌ فأراد دفعها -سواء في مجلس القضاء أو غيره- واضطر لبيان الحق فيها.

ومِن شواهد ذلك ما وقع لشيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في قصة شكوى بعض خصومه له إلى السلطان، بسبب كتابته للعقيدة الواسطية، حيث قال: "وقلتُ قبلَ حضورها ـ أي قبل إحضار الواسطية ـ كلاماً قد بعُد عهدي به، وغضبتُ غضباً شديدا؛ لكني أذكر أني قلت: أنا أعلم أن أقواماً كذبوا عليّ، وقالوا للسلطان أشياء، وتكلمتُ بكلام احتجتُ إليه؛ مثل أن قلت: مَنْ قام بالإسلام أوقاتَ الحاجة غيري؟ ومَن الذي أوضح دلائله وبيّنه؟ وجاهد أعداءه وأقامه لما مال؟ حين تخلى عنه كلُّ أحد؛ ولا أحد ينطق بحجته ولا أحد يجاهد عنه؟ وقمتُ مظهرا لحجته مجاهدا عنه مرغبا فيه... الخ".

وبالجملة، فإن مَن عرفَ عظيمَ فضل الله عليه، وعظيم تقصيره في حقه؛ استحى من الله أن يُكثر من حديثه عن نفسه حديثَ المثني، والموفَّق من أكثر من (أنا) مقتاً لنفسه في ذات الله، متمثلاً بلسان حاله ومقاله مقولة الخليفة الصالح عمر بن عبدالعزيز ـ رحمه الله ـ لما حضرته الوفاة فقال: "أنا الذي أمرتَني فقصّرت، ونهيتني فعصيت".

نسأل الله أن يبصّرنا بمواطن الزلل منّا، وأن يزكي نفوسنا، ويرزقها تقواها.



([1]) زاد المعاد في هدي خير العباد (2/ 434).

* رابط المقال على الموقع: http://almuqbil.com/web/?action=arti...r&show_id=1465