المَيْلُ عَنِ الاسْتِدْلالِ الشَّرعيِّ إلى أقْوَالِ الرِّجَالِ
إنَّ نَفَرًا مِنْ كَتَّابِنَا المُعَاصِرِينَ مِمَّنْ لَمْ يَأخُذُوا نَصِيبَهُم مِنَ التَّحْصِيلِ العِلْمِيِّ، ولاسِيَّمَا طُلَّابِ الرَّسَائِلِ الجَامِعِيَّةِ نَجِدُهُم إذَا أقْدَمُوا على دِرَاسَةِ بَحْثٍ عِلْمِيٍّ : كَدِرَاسَةِ حُكْمِ بِدْعَةِ الدُّعَاءِ الجَمَاعِي مَثَلًا، أوْ حُكْمِ البِدَعِ في الصَّلَاةِ ونَحْوِهَا، نَرَاهُم لِلأسَفِ قَدْ وَطَّنُوا أنْفُسَهُم في فَتْرَةِ البَحْثِ والتَّنْقِيْبِ والتَّرْتِيْبِ على تَقْيِيدِ أقْوَالِ واخْتِيَارَاتِ أهْلِ العِلْمِ في تَحْقِيْقِ هَذِهِ المَسْألَةِ : ابْتِدَاءً بِأبِي حَنِيْفَةَ ومَالِكٍ والشَّافِعِيِّ وأحْمَدَ، وابْنِ تَيْمِيَّةَ، وابْنِ القَيِّمِ والشَّاطِبيِّ وغَيْرِهِم مِنْ أهْلِ العِلْمِ المُعْتَبَرِيْن َ، فَعِنْدَئِذٍ نَرَاهُم قَدْ خَرَجُوا في الخَاتِمَةِ بِأقْوَالِ الرِّجَالِ في تَحْرِيرِ أحْكَامِ هَذِهِ المَسْألَةِ، أكْثَرَ مِنْهُ تَأصِيْلًا وتَدْلِيلًا مِنْ خِلَالِ الكِتَابِ والسُّنَّةِ، الأمْرُ الَّذِي يَدُلُّ على خَطَأِ التَّرَامِي عِنْدَ بَعْضِ طُلَّابِ العِلْمِ في غَيْرِ مَرْمَاهُم العِلْمِيِّ، ومَا هَذِهِ السَّبِيلُ الَّتِي تَنَكَّبَهَا بَعْضُ كُتَّابِنَا المُعَاصِرِينَ إلَّا تَأثُّرًا بِمَنَاهِجِ البَحْثِ الَّتِي رُسِمَتْ في كَثِيرٍ مِنَ الجَامِعَاتِ الإسْلامِيَّةِ، كَمَا أنَّ فِيْهِ أيْضًا دَلالَةً ظَاهِرَةً على الضَّعْفِ العِلْمِيِّ، وقِلَّةِ التَّحْصِيلِ لَدَى هَؤُلاءِ الطُّلَّابِ الَّذِيْنَ أبْدُوا لَنَا صَحَائِفَ أعْمَالِهِم الهَشَّةَ. ونَحْنُ وإيَّاهُمْ لا نَشُكُّ أنَّ لِكَلامِ أهْلِ العِلْمِ المُعْتَبَرِينَ اعْتِبَارَهُ واعْتِمَادَهُ في فَهْمِ النُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ، ولاسِيَّمَا في مَسَالِكِ التَّرْجِيحِ، بَلْ لا يَجُوزُ لأحَدٍ كَائِنًا مَنْ كَانَ أنْ يَنْفَرِدَ بِقَوْلٍ دُونَ النَّظَرِ إلى كَلامِ أهْلِ العِلْمِ المُعْتَبَرِينَ على مَرِّ العُصُورِ، وقَدْ تَقَرَّرَ مِثْلُ هَذَا عِنْدَ قَوْلِ الإمَامِ أحْمَدَ وغَيْرِهِ حَيْثَ قَالَ : إيَّاكَ أنْ تَتَكَلَّمَ في مَسْألَةٍ لَيْسَ لَكِ فِيهَا إمَامٌ! فَالاعْتِمَادُ ـ بَعْدَ الله تَعَالَى ـ على كَلَامِ أهْلِ العِلْمِ المُحَقِّقِينَ هُوَ مَطْلَبٌ شَرْعِيٌّ، ومَسْلَكٌ عِلْمِيٌّ، إلَّا إنَّنَا مَعَ هَذَا التَّقْرِيرِ السَّلَفِيِّ، نُقِرُّ بِخَطَأِ كُلِّ مَنْ وَطَّنَ نَفْسَهُ على التَّنْقِيْبِ والنَّظَرِ في أقْوَالِ أهْلِ العِلْمِ المُعْتَبَرِينَ دُوْنَ النَّظَرِ والبَحْثِ في الكِتَابِ والسُّنَّةِ والآثَارِ أوَّلا بِأوَّلِ، وإلَّا وَقَعْنَا في حَيْصَ بَيْصَ كَمَا هُوَ شَأنُ أهْلِ الأهْوَاءِ والبِدَعِ الَّذِيْنَ لَمْ يَعتَدُّوا ولَمْ يَأخُذُوا بِأقْوَالِ أئِمَّةِ السَّلَفِ في فَهْمِ ومَعْرِفَةِ النُّصُوْصِ الشَّرعِيَّةِ! فكَانَ مِنَ الخَطَأ البَيِّنِ؛ أنَّنَي وَقَفْتُ على كِتَابٍ يَتَكَلَّمُ صَاحِبُهُ على مَوْضُوْعِ «حُكْمِ وفَضْلِ ذِكْرِ الله تَعَالى وحُرْمَةِ الاعْتِدَاءِ فِيْهِ»، وهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ بَحْثٍ عِلميٍّ جَامِعِيٍّ؛ لَكِنَّنِي لَم أرَ صَاحِبَهُ قَدْ ذَكَرَ أعْظَمَ آيَةٍ مُحَذِّرَةٍ مِنَ الاعْتِدَاءِ في ذِكْرِ اللهِ، وهِيَ قَوْلُهُ تَعَالى : ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وخُفْيَةً إنَّهُ لَا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ﴾ (الأعراف: 55)، ومِثْلُهَا قَوْلُهُ تَعَالى : ﴿ولَا تَعْتَدُوا إنَّ الله لَا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ﴾ (البقرة: 190) .
كَمَا أنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ أعَظَمُ حَدِيثٍ مُحَذِّرٍ مِنَ الاعْتِدَاءِ والتَّعَدِّي في العِبَادَةِ، وهُوَ قَوْلُهُ : «مَنْ أحْدَثَ في أمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ؛ فَهُوَ رَدٌّ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وعِنْدَ مُسْلِمٍ : «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أمْرُنَا؛ فَهُوَ رَدٌّ» .
وذَلِكَ في الوَقْتِ الَّذِي وَجَدْتُ فِيْهِ المُؤَلِّفَ حَفِظَهُ اللهُ قَدْ نَقَلَ مِنْ كَلَامِ أهْلِ العِلْمِ كَلَامًا نَفِيْسًا مُحَرَّرَا، مِمَّا يَدُلُّ على أنَّهُ قَدْ بَذَلَ جُهْدًا مَّشْكُوْرًا ... لَكِنَّ هَذَا النَّقْلَ المُحَرَّرَ مِنْهُ لا يَشْفَعُ لَهُ أنْ يَقْتَحِمَ العَقَبَةَ دُونَ أنْ يَنْظُرَ في الاسْتِدْلالِ مِنْ نُصُوصِ الشَّرْعِ أوَّلًا بأوَّلٍ .
نَعَم هَذِهِ بَعْضُ التَّأثِيْرَاتِ بِمُخَلَّفَاتِ المُسْتَشْرِقِي ْنَ الَّذِيْنَ يَنْظُرُوْنَ عِنْدَ تَألِيْفِهِم إلى أقْوَالِ الرِّجَالِ مِنَ العُلَمَاءِ قَبْلَ النَّظَرِ والتَّحْقِيْقِ في الكِتَابِ والسُّنَّةِ؛ لأنَّهُم لا يُؤْمِنُوْنَ بِهِمَا، ومِنْ هُنَا دَخَلَ الخَطَأُ على كَثِيْرٍ مِنْ طُلَّابِ الدِّرَاسَاتِ الجَامِعِيَّةِ، فَكَانَ الأوْلى بِالطُّلَّابِ أنَّ نُعَلِّمَهُم أنْ يَبْحَثُوا مَوْضُوْعَ البَحْثِ ومَسَائِلِهِ مِنْ خِلَالِ القُرْآنِ والسُّنَّةِ وآثَارِ الصَّحَابَةِ، ثُمَّ بَعْدَ التَّحْقِيْقِ والتَّحْرِيْرِ والنَّظَرِ والبَحْثِ والدِّرَاسَةِ الجَادَّةِ والتَّقْدِيْمِ والتَّأخِيْرِ، عَلَيْهِ ثَانِيًا أنْ يَنْظُرَ إلى أقْوَالِ أهْلِ العِلْمِ الرَّبَّانِيِّي ْنَ، ويُوَازِنَ بَيْنَهَا وبَيْنَ بَحْثِهِ ونَتَائِجِهِ وتَرْجِيْحَاتِه ِ؛ كي يُسْتَأنَسَ بِهَا لا أنْ يَعْتَمِدَهَا ابْتِدَاءً، ثُمَّ يُسْتَدَلُّ عَلَيْهَا ثَانِيًا!
لِذَا لا يُحْسِنُ هَذَا الكَلَامَ إلَّا مَنْ عَرَفَ القُرْآنَ والسُّنَّةَ، وأدْمَنَ النَّظَرَ فِيْهِمَا، فعِنْدَئِذٍ يَسْتَطِيْعُ الطَّالِبُ أنْ يَشْرَعَ مُبَاشَرَةً في النَّظَرِ فِيْهِمَا، والتَّحَاكُمِ إلَيْهِمَا، واللهُ تَعَالى أعْلَمُ .
* * *

الاعْتِمَادُ على تَرْجِيْحَاتِ أهْلِ العِلْمِ المُعَاصِرِيْنَ
لَيْسَ مِنَ الشَّخْصِيَّةِ العِلمِيَّةِ، ولا مِنَ المُنَاظَرَةِ الفِقْهِيَّةِ، ولا مِنَ المُنَاقَشَةِ الخِلَافِيَّةِ؛ أنَّ يَسْعَى المُؤَلِّفُ في كِتَابِهِ وفي تَأصِيْلِ مَسَائِلِهِ الَّتِي يُنَاقِشُهَا إلى ذِكْرِ فَتَاوِي أهْلِ العِلْمِ المُعَاصِرِيْنَ في غَالِبِ تَرْجِيْحَاتِهِ ، ولَوْ كَانَتْ مِنْ فَتَاوَي كِبَارِ أهْلِ العِلْمِ المُعَاصِرِيْنَ ، أوْ غَيْرِهِم مِنَ المَجَامِيْعِ الفَقِهِيَّةِ أوْ غَيْرِهَا مِنَ المُؤَسَّسَاتِ العِلمِيَّةِ، فلَيْسَ لَهُ أنْ يَجْعَلَ مِنْ فَتَاوِيهِم جُنَّةً يَتَتَرَّسُ بِهَا عِنْدَ النِّقَاشِ العِلمِيِّ، وعِنْدَ المُضَايقَاتِ الخِلَافِيَّةِ، فَمِثْلُ هَذَا المَسْلَكِ لَم يَكُنْ عِنْدَ سَلَفِنَا الصَّالِحِ، بَلْ كَانَ عَامَّةُ سَلَفِنَا عِنْدَ نِقَاشِهِم العِلمِيِّ، وعِنْدَ تَحْقِيْقِ الرَّاجِحِ مِنَ الخِلَافِ؛ لا يَفْزَعُوْنَ إلَّا إلى تَحْرِيْرِ الدَّلِيلِ وتَقْرِيْرِ التَّعْلِيْلِ، ثُمَّ مَا يَلْبَثُوا أن يُعَرِّجُوا إلى ذِكْرِ أقْوَالِ أهْلِ العِلْمِ المُتَقَدِّمِيْ نَ مِنَ الصَّحَابَةِ والتَّابِعِيْنَ وتَابِعِيْهِم بِإحْسَانٍ مِنْ أهْلِ العِلْمِ المُعْتَبَرِيْن َ، لاسِيَّمَا أصْحَابِ المَذَاهِبِ الأرْبَعَةِ وغَيْرِهِم مِنْ أهْلِ التَّحْقِيْقِ والاجْتِهَادِ .
لِذَا لَم يَكُوْنُوا يَذْكُرُوْنَ فَتَاوِي أوْ اخْتِيَارَاتِ أهْلِ العِلْمِ المُعَاصِرِيْنَ في زَمَانِهِم، إلَّا في حَالِاتٍ نَادِرَةٍ تَأتي على النَّحْوِ الآتي : 1ـ أنَّهُم يَذْكُرُوْنَ قَوْلَ المُعَاصِرِ مِنْ أهْلِ العِلْمِ؛ زِيَادَةً مِنْهُم لبَيَانِ شُذُوْذِ المُخَالِفِ، وأنَّهُ قَدْ خَالَفَ عَامَّةَ أهْلِ العِلْمِ سَلَفا وخَلَفًا، فَعِنْدَئِذٍ يَقُوْمُوْنَ بِذِكْرِ وسَرْدِ كَلَامِ أهْلِ العِلْمِ مِنَ المُتَقَدِّمِيْ نَ والمُتَأخِّرِيَ نَ والمُعَاصِرِيْن َ تَأكِيْدًا لِشُذُوذٍ رَأي المُخَالِفِ، وعلى هَذَا المَأخَذِ يَسْتَقِيْمُ تَحْرِيْرُ المَقَامِ العِلمِيَّ بذِكْرِ قَوْلِ المُعَاصِرِ مِنْ أهْلِ العِلْمِ . 2ـ أوْ يَذْكُرُوْنَهُم على وَجْهِ الاسْتِئْنَاسِ؛ زِيَادَةً مِنْهُم في تَقْوِيَةِ التَّرْجِيْحِ، لا اعْتِمَادًا لِلتَّرْجِيْحِ . 3ـ أوْ يَذْكُرُوْنَهُم بَعْدَمَا يَقُوْمُونَ بِتَأصِيْلِ المَسْألَةِ العِلمِيَّةِ بِالدَّلِيلِ والتَّعْلِيْلِ مِنْ خِلَالِ النِّقَاشِ العِلْميَّ والحِوَارِ الفِقْهِيِّ؛ كَمَا هُوَ جَارٍ في مُدَوَّنَاتِ أهْلِ العِلْمِ الكِبَارِ، لأجْلِ هَذَا كَانَ ذِكْرُهُم للمُعَاصِرِيْنَ مِنْ أهْلِ العِلْمِ زِيَادَةً مِنْهُم في التَّحْقِيْقِ والتَّدْقِيْقِ، واللهُ تَعَالى أعْلَمُ . فَمِنْ هُنَا فَقَدْ جَاءَتْ بَعْضُ الأخْطَاءِ عِنْدَ بَعْضِ طُلَّابِ العِلمِ المُعَاصِرِيْنَ مِنْ خِلالِ مُنَاقَشَتِهِم لِبَعْضِ المَسَائِلِ الفِقْهِيَّةِ؛ حَيْثُ تَرَى الوَاحِدَ مِنْهُم إذَا صَدَّرَ مَسْألَةً عِلمِيَّةً وقَدَّمَهَا للمُنَاقَشَةِ وعَرْضَهَا لِلتَّحْقِيْقِ والدَّقِيْقِ؛ قَامَ حِيْنَهَا يَصُوْلُ ويَجُوْلُ مِنْ خِلَالِ فَتَاوِي أهْلِ العِلْمِ المُعَاصِرِيْنَ ؛ فَمَرَّةً يُثْرِّبُ على مَنْ خَالَفَهُم، ومَرَّةً يَأخُذُ فَتَاوِيهِم كَسَوطٍ يَجْلِدُ بِهِ ظُهُوْرَ المُخَالِفِيْنَ ، كُلَّ هَذَا مِنْهُ لِمَا تَقَرَّرَ لَدَيْهِ ووَقَرَ في قَلبِهِ بأنَّ هَؤُلَاءِ العُلَمَاءَ هُم أهْلُ الحَلِّ والعَقْدِ، والحَالَةُ هَذِهِ لا يَجُوْزُ مُخَالَفَتُهُم أوْ مُبَاينَتُهُم، وأنَّهُم هُمُ المَرْجِعُ والمَآلُ ... فَلَمَّا ظَنَّ هَذَا الظَّنَّ قَامَ يَرْمِي بِفَتَاوِيْهِم على المُخَالِفِ ويَرْشُقُهُ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، وهَلْ هَذَا مِنْهُ إلَّا تَعَصُّبٌ مَقِيْتٌ، وعِصْمَةٌ مُغَلَّفَةٌ بِاسْمِ احْتِرَامِ أهْلِ العِلْمِ الكِبَارِ! نَعَمْ؛ هُنَاكَ فَرْقٌ بَيْنَ احْتِرَامِ أهْلِ العِلْمِ وبَيْنَ احْتِرَامِ الدَّلِيلِ، فَالنِّقَاشُ العِلمِيُّ بَابُهُ الدَّلِيْلُ والتَّعْلِيْلُ، واحْتِرَامُ أهْلِ العِلْمِ بَابُهُ الحُبُّ والثَّنَاءُ، وإلَّا وَقَعْنَا في التَّعَصُّبِ المَذْمُوْمِ!

وهذا مقال مستل من
كتاب صيانة الكتاب ص 460
للشيخ الدكتور / ذياب بن سعد الغامدي