بسم الله الرحمن الرحيم



وبعد

فهذه مدارسة جرت في بعض المجموعات في موسم حج ماض"1" حول قول أحد المشايخ: (قد وهم ابن حزم فزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم سعى سبعا على بعيره، ولم يقل هذا أحد من أهل العلم). انتهى "2"




وهذه مناقشته:-


* قول ابن حزم رحمه الله بأن النبي صلى الله عليه وسلم سعى بين الصفا والمروة في حجة الوداع راكبا بناه على ما في صحيح مسلم وغيره"3" من طريق ابن جريج:أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبدالله:(طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على راحلته بالبيت وبالصفا والمروة). "4"




* وابن حزم لم يتفرد بالقول:إن النبي صلى الله عليه وسلم سعى راكبا، بل سبقه غير واحد من العلماء، وممن صرح بذلك قبله من الأئمة:

الإمام الشافعي في كتابه"الأم"،واعت مد من حديث جابر هذا نفسه في حجة الوداع-بعد أن رواه من الطريق نفسه- =أن النبي صلى الله سعى راكبا.
وكذا الإمام ابن خزيمة في صحيحه،واعتمده من حديث جابر هذا أيضا.

وكذلك جزم بسعيه صلى الله عليه وسلم راكبا[دون تحديد نوع نسكه؛حجا كان أو عمرة]: ابن جرير في تهذيب الآثار وابن حبان في صحيحه.



- وقد جمع ابن حزم بين الروايات؛ التي فيها ركوبه صلى الله عليه وسلم في السعي والأخرى التي فيها عدم ركوبه.



- أما شيخه ابن عبدالبر فقد مال في التمهيد2/94 إلى كون هذه رواية جابر التي احتج بها ابن حزم= شاذة، وأن الآثار المتواترة في سعيه ماشيا-مطلقا- تدفعها.




- وقد جمع ابن القيم في"زاد المعاد" جمعا آخر، ورأى أنه أحسن من جمع ابن حزم. "5"

وهو أنه(سعى ماشيا أولا، ثم أتم سعيه راكبا)، ثم احتج ابن القيم لذلك بحديث أبي الطفيل عن ابن عباس في صحيح مسلم، وادعى أنه صريح ! "6"



- وقد تأول بعضهم رواية مسلم عن جابر التي احتج بها ابن حزم= بأن ذكر الصفا والمروة فيها كلام منفصل؛ لايعود إلى عبارة ركوب الراحلة التي تقدمت.


لكن هذا غير مسلم؛ لبعده عن ظاهر اللفظ، ولأن للحديث رواية صريحة خارج مسلم؛ وهي:(فطاف بين الصفا والمروة على راحلته).

رواها النسائي في السنن الكبرى وغيره من سند ابن جريج نفسه الذي روى مسلم الحديث به.

بل طريق النسائي إلى ابن جريج= أصح من طريق مسلم؛ فإن النسائي رواه عن إمام[الفلاس] عن إمام[القطان] عن ابن جريج به.

وللفظ النسائي أيضا طريق آخر عن أبي الزبير.

وللفظه أيضا شواهد؛ عن أبي الطفيل في مستخرج أبي نعيم، وعن ابن عباس عند الطبراني"7"، وعبد الله بن ثعلبة في مغازي الواقدي، ومرسل عكرمة في"الآثار" لأبي يوسف ونحوه مرسل عطاء في"الأم" للشافعي.





* والراجح-والله أعلم- هو أنه صلى الله عليه وسلم قد جمع في سعيه في حجة الوداع بين المشي والركوب."8"
[مع مخالفتي مأخذ ابن القيم،كما سيأتي]




- وحجة هذا القول: حديث جابر في صحيح مسلم في الركوب في حجة الوداع والأحاديث المطلقة في الركوب/وجمعها مع حديث جابر في صحيح مسلم في المشي في سعي حجة الوداع والأحاديث المطلقة في المشي[وقد ذكر ابن عبدالبر أن أحاديث المشي متواترة].



- وأما ما جاء في صحيح مسلم من طريق أبي الطفيل عن ابن عباس"9"= فليس في لفظه أنه سعى شيئا من الأشواط ماشيا، ثم أتمها راكبا، بل لفظ مسلم إن لم نرجح كون ظاهره لايوافق هذا التفصيل= فإنه على أقل تقدير: مجمل لايحتمل ترجيح دعوى ابن القيم[بله التصريح بها]، كيف وقد جاء حديث ابن عباس هذا بروايات ظاهرها أنه سعى سعيا كاملا راكبا، وهي روايات أكثر-بما لايوصف- وأعلا وأصح من سند الرواية التي ذكرها ابن القيم. "10"





* فإن قيل: ألا يجمع بينها بأنه مشى مرة في سعي كله وركب مرة أخرى في سعي كله ؟


فيقال: هذا الجمع اعتمده الإمام الشافعي في"الأم"، لكن لايصلح تعميمه وتنزليه على جميع روايات الباب.


فإن جواب الشافعي لا يصلح تنزيله على أصل نقاشنا؛حديث جابر ورواياته[التي احتج الشافعي نفسه بإحداها لإثبات سعيه راكبا]؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إنما سعى في حج الوداع مرة واحدة فقط، ولفظ الركوب والمشي كلاهما قد رويا من حديث جابر في صحيح مسلم وغيره بالتصريح في كليهما بأنه في حجة الوداع.


وكذا قد يزيد في بعده ما في حديث أبي الطفيل عن ابن عباس في رواية صحيح مسلم من الإشارة إلى وجود حالين في سعيه[مشي وركوب] في حديث واحد.


- وهذا الاعتراض هنا لايمنع احتمال كونه صلى الله عليه وسلم سعى سعيا كاملا ماشيا أو سعيا كاملا راكبا في غير حجة الوداع.





* إن قيل: تقدم رواية جابر على غيره؛ لأن جابرا له خصوصية بكتاب الحج.


فيقال: الصواب الجمع لا الترجيح. وذلك لعدة أمور:-


1/ أن الحق[وهو قول عامة العلماء]= أن الأصل أن الجمع مقدم على الترجيح، إن لم يكن متكلفا."11"


2/ أنها عدة روايات قوية السند يبعد في مثلها إعلال الجميع.


3/ أن قولهم: لجابر رضي الله عنه اختصاص بكتاب الحج دون غيره من الصحابة[كما يقرره بعض أهل العلم] = الصواب أنه ليس كذلك في ذاته، بل ما ظهر من حديثه لايستدعي تمييزه على غيره من الصحابة رواة أحاديث كتاب الحج، وإنما سئل رضي الله عنه عن سؤال واحد في مجلس واحد في دقائق[وطرق روايته محصورة]، لكن الجواب في ذاته كان يستدعى الطول، والحالات التي ذكرها يستطيع سردها أي طالب علم حج مع إمام كبير إذا سئل السؤال نفسه[ولا يكفي هذا لدعوى خصوصية هذا التلميذ، خاصة إذا لم نسأل غيره].

ومن ضوابط التفريق بالخصوصية في باب ما: مقدار تعدد مجالس الروايات في الباب وكثرة الرواة عن الصحابي فيه، وتنوع صور أدائه واختلافها."12"



- بل أحاديث ابن عباس هي التي يصح أن يقال:إن لها خصوصية في كتاب الحج؛ فقد ظهر لي-والله أعلم بالصواب- من خلال الأحاديث الصحيحة في كتاب الحج= أن أكثر الصحابة رواية لأحاديث كتاب الحج وتفصيلات أحكامه هو عبدالله بن عباس."13"








تنبيهان:


أ. ليس البحث هنا في حكم الركوب أو أفضيلته"14"، ولا في مناقشة الأسباب التي تبيح الركوب، ولا في سبب ركوب النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما في تحرير حكم الجزم بركوبه صلى الله عليه وسلم في السعي خاصة في حجته، والدفاع عن أكثر عالم يغلط عليه في كتاب الحج أعني:ابن حزم. "15"


ب. الكلام هنا كله على السعي بين الصفا والمروة لا الطواف بالبيت، والكلام هنا كله على السعي راكبا لا محمولا.





فوائد:


أ. قال ابن كثير في تاريخه في أمر هذه المسألة:(هو مشكل جدا).



ب. جاء في بعض روايات سعيه راكبا:(راحلته)، وفي بعضها:(بعير)، وفي بعضها:(ناقة).

ورواية(ناقة) هي الأرجح؛ لأمور، منها أنها صريحة، والرواياتان السابقتان مجملتان؛ فإن الراحلة و البعير كلاهما يطلقان على الذكر والأنثى= فتقضي تلك الرواية على هاتين الروايتين. [وهي في صحيح مسلم وغيره].



ج. الراحلة: خصها ابن قتيبة بالناقة. "16"

- لكن خطأه أبومنصور الأزهري في التهذيب وغيره، وذكر أن الراحلة(عند العرب) تشمل الناقلة والجمل.




والله أعلم والحمدلله


--------------------------------------

(*) وليس الكلام هنا في نقل أقوال من أجاز السعي راكبا، فتلك مسألة أخرى.



"1" صفة الحج للطريفي ص145



"2" نسقها بعض الفضلاء في ملف. جزاه الله خيرا



"3" وستأتي مناقشة الاستدلال بهذه الرواية إن شاء الله.



"4" ولم يصرح ابن حزم في كتابه"المحلى" للاحتجاج لقوله هذا إلا بحديث جابر هذا من الطريق نفسه،واحتج في كتابه"حجة الوداع" بحديث ابن عباس أيضا، وسيأتي أن لأصل المسألة أدلة أخرى.



"5" وقد ذكر ابن كثير في تاريخه أن جمع ابن حزم بعيد جدا.
وممن اختار جمع ابن القيم هذا:الألباني في كتاب"صفة حجة جابر"ص60



"6" وستأتي مناقشة هذا.



"7" وسيأتي عنه لفظ آخر[في صحيح مسلم وغيره] يحتج به للركوب أيضا.



"8" والكلام هنا مبني على ترجيح وجود هذه الصورة[الجمع بين المشي والركوب] خاصة في رواية سعيه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وهذا لاينفي احتمال كونه صلى الله عليه وسلم سعى سعيا كاملا ماشيا أو سعيا كاملا راكبا في غير حجة الوداع. فتنبه لهذا



"9" الذي احتج به ابن القيم على أنه صلى الله عليه وسلم(سعى ماشيا أولا، ثم أتم سعيه راكبا)، وادعى أنه صريح في ما احتج له !



"10"راجع مثلا روايات أحمد المتعددة لهذا الحديث في مسنده.



"11" وهذا قيد عليه عمل السلف، ويتنكبه كثير من المتأخرين، وقد أشار إلى أصل ذلك ابن رجب في"الفتح"2/588 وغيره.



"12" وهذا يختلف عن تعدد مخرجي حديثه أو كثرة اعتناء المصنفين به؛ فهذا خارج عن النظر إلى طريقة رواية الصحابي نفسه.



"13" وبعد بحث وسؤال قديمين= لم أجد من نبه على هذا، ولا من خالفه، وإنما نبه بعض العلماء كابن طاهر المقدسي في كتابه"الحجة" إلى نحو هذه الطريقة في أقوال ابن عباس في التفسير. والله أعلم


"14" وقد حكي الاتفاق على أفضلية المشي، ثم اختلفوا في الوجوب.


"15" راجع مثلا: http://www.ahlalhdeeth.com/vb/forum/...D9%87?t=321425



"16" ولو صح لكان من حجج اختيار لفظ(ناقة).