● فقه الآنية وبعض ما يتعلق بها من أحكام ( 2 )
● إعداد / العبد الفقير إلى الله
● أبو معاذ / عبدرب الصالحين العتموني
● إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
● وبعد
● استكمالاً لما سبق ذكره أقول :
● حُكم استعمال الآنية المموهة ( المطلية ) بالذهب أو الفضة في الأكل أو الشرب :
المموه : اسم مفعول من موه الشىء ومنه التمويه : وهو التلبيس ومنه قيل للمخادع مموه وقد موه فلان باطله إذا زينه وأراه في زينة الحق .
والتمويه : هو طلاء الإناء المصنوع من نحاس أو حديد أو نحوهما بماء الذهب أو الفضة .
مثل أن تطلى الأباريق أو فناجيل الشاي أو نحو ذلك من الأواني .
والتمويه والطلاء بمعنى واحد عند الحنفية والمالكية والشافعية .
وفرق الحنابلة بينهما فالتمويه أن يذاب الذهب أو الفضة ويلقى فيه الإناء من نحاس وغيره فيكتسب منه لونه .
والطلاء : أن يجعل الذهب أو الفضة كالورق ويطلى به الحديد ونحوه .
ويعبر كثير من السلف عن المطلي والمموه بالمفضض فجميعها بمعنى واحد .
وصورة المموه : بأن يؤتي بالإناء ثم يوضع في إناء قد صهر فيه ذهب أو فضة فتتموه ويأخذ من لون الذهب والفضة .
وصورة المطلي : أن يجعل الذهب والفضة كهيئة الورق ثم بعد ذلك يلصقها بالإناء .
وقد اختلف الفقهاء في حُكم الآنية المموهة والمطلية بالذهب أو الفضة في الأكل أو الشرب على النحو التالي :
ذهب الحنفية وأحد القولين عند المالكية أن الآنية المموهة بالذهب أو الفضة جائز استعمالها لكن الحنفية قيدوا ذلك بما إذا كان التمويه لا يمكن تخليصه .
قال الكاساني رحمه الله : ( وأما الأواني المموهة بماء الذهب والفضة الذي لا يخلص منه شيء فلا بأس بالانتفاع بها والأكل والشرب وغير ذلك بالإجماع ) أهـ .
وأما ما يمكن تخليصه ففيه خلاف .
وعند الشافعية يجوز الاستعمال إذا كان التمويه يسيراً .
وعند الحنابلة أن المموه والمطلي والمطعم والمكفت كالذهب والفضة الخالصين .
قال الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز رحمه الله عندما سُئل عن حكم الأكل أو الشرب في الإناء المطلي بالذهب أو الفضة ؟ وهل ينطبق عليه الحديث الذي ينهى عن الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة ؟
الجواب : ( نص العلماء على أن هذا ينطبق عليه النهي والنبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافهما فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة » متفق عليه .
وقال صلى الله عليه وسلم : « الذي يأكل أو يشرب في إناء الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم » متفق على صحته واللفظ لمسلم في الصحيح وأخرجه الدارقطني وصحح إسناده من حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً : « من شرب في إناء ذهب أو فضة أو في إناء فيه شيء من ذلك فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم » .
فقوله صلى الله عليه وسلم : « من شرب في إناء ذهب أو فضة » نهي يعم ما كان من الذهب أو الفضة وما كان مطلياً بشيء منهما ولأن المطلي فيه زينة الذهب وجماله فيمنع ولا يجوز بنص الحديث وهكذا الأواني الصغار كأكواب الشاي وأكواب القهوة والملاعق ولا يجوز أن تكون من الذهب أو من الفضة بل يجب البعد عن ذلك والحذر منه .
وإذا وسع الله تعالى على العباد فالواجب التقيد بشريعة الله تعالى وعدم الخروج عنها وإذا كان عنده فضل من المال فلينفق على عباد الله المحتاجين وفي مشاريع الخير ولا يسرف ولا يبذر ) أهـ .
● حُكم استعمال الآنية الخالصة من الذهب والفضة في غير الأكل والشرب :
الفرق بين هذه المسألة والتي قبلها أن التي قبلها هي في بيان حكم استعمال آنية الذهب والفضة في الأكل والشرب أما هذه المسألة فهي في بيان حكم استعمال آنية الذهب والفضة في غير الأكل والشرب أي تستعمل في أغراض مختلفة ليس منها الأكل والشرب .
وقد اختلف العلماء في حكم استعمال أنية الذهب والفضة في غير الأكل والشرب كالاكتحال والتطيب والطهارة ونحو ذلك على أقوال منها :
● القول الأول :
يحرم وهو مذهب جمهور العلماء من الحنفية والمالكية في الجديد والشافعية والحنابلة في رواية ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله والشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي والشيخ عبدالعزيز بن عبدالله باز رحمهما الله .
● القول الثاني :
يكره وهو قول الشافعية في القديم ورواية عند الحنابلة .
● القول الثالث :
يجوز ولا يحرم وهو قول الشوكاني والصنعاني واختاره الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله
● أدلة القول الأول :
استدل جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة على تحريم استعمال آنية الذهب والفضة في الأكل والشرب وسائر وجوه الاستعمال بما يأتي :
1- عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( الذي يشرب في إناء الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم ) رواه البخاري ومسلم .
ورواه مسلم وابن أبي شيبة والطبراني بلفظ آخر : ( إن الذي يأكل أو يشرب في آنية الذهب والفضة فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم ) أهـ .
قالوا : أفاد هذا الحديث الوعيد الشديد لمن يأكل أو يشرب في إناء من الذهب والفضة وهذا الوعيد لا يكون إلا على فعل المحرم الذي حرمه الشارع فدل هذا على حرمة استعمال الآنية المتخذه من الذهب أو الفضة في الأكل أو الشرب ويلحق بهما ما في معناهما .
قال القرطبي رحمه الله : ( هذا الحديث دليل على تحريم استعمال أواني الذهب والفضة في الأكل والشرب ويلحق بهما ما في معناهما مثل : التطيب والتكحل وما شابه ذلك .
وبتحريم ذلك قال جمهور العلماء سلفاً وخلفاً .
وروي عن بعض السلف إباحة ذلك وهو خلاف شاذ مطرح للأحاديث الصحيحة الكثيرة في هذا الباب ) أهـ .
2- عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( لا تلبسوا الحرير ولا الديباج ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة ) رواه البخاري ومسلم .
فقد دل هذا الحديث على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى عن الشرب في أواني الذهب والفضة وعن الأكل في صحافهما والمعروف أن النهي عند الإطلاق يفيد التحريم .
وقالوا : وخص في الأحاديث ذكر الأكل والشرب لأن هذا هو الأغلب استعمالاً وما علق به الحكم لكونه أغلب فإنه لا يقتضي تخصيصه به وإذا نهي الإنسان عن الأكل والشرب وهما أكثر حاجة فما دونهما من وجوه الاستعمال من باب أولى .
قال ابن قدامة رحمه الله : ( يحرم استعمال الآنية مطلقاً في الشرب والأكل وغيرهما لأن النص ورد بتحريم الشرب والأكل وغيرهما في معناهما ويحرم ذلك على الرجل والنساء لعموم النص فيهما ووجود معنى التحريم في حقهما وإنما أبيح التحلي في حق المرأة لحاجتها إلى التزين للزوج والتجمل عنده وهذا يختص الحلي فتختص الإباحة به ) أهـ .
3- عن الحكم عن ابن أبي ليلى قال : كان حذيفة بالمداين فاستسقى فأتاه دهقان بقدح فضة فرماه به فقال : إني لم أرمه إلا أني نهيته فلم ينته ... ) رواه البخاري ومسلم .
فقد أفاد هذا الأثر أن حذيفة رضي الله عنه قد فهم تحريم الأكل والشرب فيما اتخذ من الذهب والفضة من نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إنه استحل عقوبة الدهقان لمخالفته إياه .
4- قاسوا غير الأكل والشرب من سائر الاستعمالات عليهما لوجود علة التحريم وهي عين الذهب والفضة أو هي مظنة السرف أو تضييق النقدين في غير ما خلقاً له ومظنة الخيلاء والكبر لما في ذلك من امتهانهما ومظنة الفخر وكسر قلوب الفقراء وهذا كله موجود في الاستعمالات الأخرى .
قال ابن القيم رحمه الله : ( هذا التحريم لا يختص بالأكل والشرب بل يعم سائر وجوه الانتفاع فلا يحل له أن يغتسل بها ولا يتوضأ بها ولا يدهن فيها ولا يكتحل منها وهذا أمر لا يشك فيه عالم ) أهـ
5- أن استعمالهما تشبيه بالأعاجم الذي قال جل شأنه فيهم : ( أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا ) وقوله صلى الله عليه وسلم : ( من تشبه بقوم فهو منهم ) رواه أبوداود عن ابن عمر رضي الله عنهما وصححه الشيخ الألباني رحمه الله .
6- ولأن المحلَّل للنساء لبس الذهب لا الشرب فيه .
● أدلة القول الثاني :
استدل أصحاب هذا القول أي بكراهة استعمال ما اتخذ من هذين المعدنين : بنفس ما استدل به جمهور الفقهاء غير أنهم قد انفردوا بتوجيه هذا الاستدلال بما يخدم دعواهم وهي كراهية استعمال أواني الذهب والفضة وأن حد المنع لا يصل إلى درجة الحرمة وقالوا : إن النهي عن استعمال ما اتخذ من هذين المعدنين إنما هو لما في استعماله من التشبه بالأعاجم وهذا النهي لا يقتضي التحريم إنما يقتضي الكراهة ولأن النهي الوارد عن استعمال ذلك للتزهيد بدليل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة ) .
● أدلة القول الثالث :
استدلوا بجواز استعمال أنية الذهب والفضة في سائر الاستعمالات غير الأكل والشرب بما يلي :
- أن الأصل في استعمال هذه الآنية الحل ولا تثبت الحرمة إلا بدليل ولا يوجد دليل في هذا المقام فالوقوف على ذلك الأصل المعتضد بالبراءة الأصلية هو وظيفة المنصف لاسيما وقد أيد هذا الأصل حديث أبي هريرة رضي الله عنه السابق : ( ولكن عليكم بالفضة فالعبوا بها لعباً ) .
- أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن شيء مخصوص وهو الأكل والشرب ولو كان المحرم غيرهما لبينه النبي صلى الله عليه وسلم بل إن تخصيصه في الأكل والشرب منهما دليل على أن ما عداهما جائز .
- ما ثبت عن عثمان بن عبدالله بن موهب قال : ( أرسلني أهلي إلى أم سلمة رضي الله عنها بقدح من ماء وكان إذا أصاب الإنسان عين أو شيء بعث إليها مخضبه فأخرجت من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت تمسكه في جلجل من فضة فخضخضته فشرب منه ) .
و ( الجُلْجُل ) : إناء يشبه الجرس و ( المِخْضَب ) : إناء من جملة الأواني .
وهذا الأثر فيه دليل على جواز استعمال آنية الفضة في غير الأكل والشرب وتلحق بذلك آنية الذهب .
قال الشوكاني رحمه الله : ( ولا شك أن أحاديث الباب تدل على تحريم الأكل والشرب وأما سائر الاستعمالات فلا والقياس على الأكل والشرب قياس مع الفارق ...) أهـ .
وقال الصنعاني رحمه الله عند شرحه لحديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما السابق : ( فأما غيرهما ( أي غير الأكل والشرب ) من سائر الاستعمالات ففيه الخلاف : قيل : لا يحرم : لأن النص لم يرد إلا في الأكل والشرب وقيل : يحرم سائر الاستعمالات إجماعاً .
ونازع في الأخير بعض المتأخرين وقال : النص ورد في الأكل والشرب لا غير وإلحاق سائر الاستعمالات بها قياساً لا تتم فيه شرائط القياس .
والحق ما ذهب إليه القائل : بعدم تحريم غير الأكل والشرب فيهما إذ هو الثابت بالنص ودعوى الإجماع غير صحيحة وهذا من شؤم تبديل اللفظ النبوي بغيره فإنه ورد بتحريم الأكل والشرب فقط فعدلوا عن عبارته إلى الاستعمال وهجروا العبارة النبوية وجاءوا بلفظ عام من تلقاء أنفسهم ) أهـ
● الترجيح :
رجح الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله القول الثالث وهو جواز استعمال آنية الذهب والفضة في غير الأكل والشرب
قال الشيخ رحمه الله عندما سُئل عن ذلك : ( الصحيح أن الاتخاذ والاستعمال في غير الأكل والشرب ليس بحرام وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن شيء مخصوص وهو الأكل والشرب والنبي صلى الله عليه وسلم أبلغ الناس وأفصحهم وأبينهم في الكلام لا يخص شيئاً دون شيء إلا لسبب ولو أراد النهي العام لقال : "لا تستعملوها" فتخصيصه الأكل والشرب بالنهي دليل على أن ما عداهما جائز لأن الناس ينتفعون بهما في غير ذلك ولو كانت الآنية من الذهب والفضة محرمة مطلقاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتكسيرها كما كان صلى الله عليه وسلم لا يدع شيئاً فيه تصاوير إلا كسره فلو كانت محرمة مطلقاً لكسرها لأنه إذا كانت محرمة في كل الحالات ما كان لبقائها فائدة ويدل لذلك أن أم سلمة وهي راوية حديث : "والذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم" كان عندها جلجل من فضة جعلت فيه شعرات من شعر النبي صلى الله عليه وسلم فكان الناس يستشفون بها فيشفون بإذن الله وهذا الحديث ثابت في صحيح البخاري وفيه استعمال لآنية الفضة لكن في غير الأكل والشرب فالصحيح أنه لا يحرم إلا ما حرمه الرسول صلى الله عليه وسلم في الأوني وهو الأكل والشرب فإن قال قائل : حرمها الرسول صلى الله عليه وسلم في الأكل والشرب لأنه هو الأغلب استعمالاً وما علق به الحكم لكونه أغلب فإنه لا يقتضي تخصيصه به كما في قوله تعالى : ( وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ ) فقيد تحريم الربيبة بكونها الحجر وهي تحرم ولو لم تكن في حجره على قول أكثر أهل العلم .
قلنا : هذا صحيح لكن كون الرسول صلى الله عليه وسلم يعلق الحكم بالأكل والشرب لأن مظهر الأمة بالترف في الأكل والشرب أبلغ منه في مظهرها في غير ذلك وهذه علة تقتضي تخصيص الحكم بالأكل والشرب لأنه لا شك أن الإنسان الذي أوانيه في الأكل والشرب ذهب وفضة ليس كمثل إنسان يستعملها في حاجات أخرى تخفي على كثير من الناس ولا يكون مظهر الأمة التفاخر في الأكل والشرب ) أهـ .
● أخي الحبيب :
● أكتفي بهذا القدر وللحديث بقية في الجزء الثالث إن شاء الله .
● وأسأل الله عز وجل أن يكون هذا البيان شافياً كافياً في توضيح المراد وأسأله سبحانه أن يرزقنا التوفيق والصواب في القول والعمل .
● وما كان من صواب فمن الله وما كان من خطأ أو زلل فمنى ومن الشيطان والله ورسوله منه بريئان والله الموفق وصلي اللهم علي نبينا محمد وعلي آله وأصحابه أجمعين .
أخوكم :
أبومعاذ / عبدرب الصالحين أبوضيف العتموني
محافظة سوهاج / مركز طما / قرية العتامنة
01002889832 / 01144316595