● فقه الآنية وبعض ما يتعلق بها من أحكام ( 1 )
● إعداد / العبد الفقير إلى الله
● أبو معاذ / عبدرب الصالحين أبوضيف العتموني
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
وبعد
● تعريف الآنية :
تعريفها في اللغة :
الآنية جمع إناء وجمع الآنية : الأواني .
فالإناء مفرد وجمعة أنية والأواني جمع الجمع فلا يستعمل في أقل من تسعة إلا مجازاً .
وقيل : الإناء وعاء المال والجمع القليل آنية والكثير الأواني ونظيره : سوار وأسورة وأساور .
قال الجوهري : ( جمع الإناء آنية وجمع الآنية الأواني كسقاء وأسقية وأساق ) .
وأصل أواني أأني بهمزتين أُبدلت ثانيتهما واواً كراهة اجتماعهما كأوادم في آدم .
قال في لسان العرب : ( والألف في آنية مبدلة من الهمزة وليست بمخففة عنها لانقلابها في التكسير واواً ) .
تعريفها في الشرع :
الآنية : هي الأوعية التي يحفظ فيها الماء وغيره .
ولا يخرج استعمال الفقهاء لهذا اللفظ عن الاستعمال اللغوي .
● سبب ذكر أحكام الآنية في باب المياه :
أحكام الآنية يذكرها الفقهاء في أحكام المياه لأن الآنية لها صلة بالماء فكما سبق في التعريف أن الآنية هي عبارة عن : الأوعية التي يحفظ فيها الماء .
قال الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز رحمه الله : ( لما كان المتوضئ والمغتسل يحتاجان غالباً إلى الأواني ناسب ذكر الأواني ولذلك بين المحدثون والفقهاء أحكام الأواني بالأدلة .
ثم ذكر الأواني وذكر ما فيها من الأدلة ليعلم المسلم حكم الآنية التي يستعملها ) أهـ .
وقال الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله : ( الآنية لها صلة في باب الأطعمة لأن الأطعمة لا تؤكل إلا بأوان وكذلك لها صلة في باب المياه لأن الماء جوهر سيال لا يمكن حفظه إلا بإناء ولذلك ذكروا باب الآنية بعد باب المياه ومعلوم أن من الأنسب إذا كان للشيء مناسبتان أن يذكر في المناسبة الأولى ويحال عليه في الثانية لأنه إذا أخر إلى المناسبة الثانية فأتت فائدته في المناسبة الأولى لكن إذا قدم في المناسبة الأولى لم تفت فائدته في المناسبة الثانية اكتفاء بما تقدم ) أهـ .
وقال الشيخ محمد بن محمد المختار الشنقيطي : ( السبب الذي يجعل العلماء يذكرون باب الآنية ويتكلمون على مباحث الآنية في كتاب الطهارة : أن الطهارة تحتاج إلى ماء يُتطهر به وصفة تتم بها الطهارة والماء الذي يتطهر الإنسان به يحتاج إلى وعاء يحمله فيه فإنه قد يكون الماء طهوراً ولكن الإناء نجس فهل يجوز أن يتوضأ الإنسان منه ؟! وقد يكون الماء طهوراً ولكنه في إناء محرم كالمصنوع من الذهب والفضة فهل يجوز أن يتطهر به ؟ فإذاً لا بد من الكلام على أحكام الآنية لأنها أوعية الماء الذي يُتطهر به ) أهـ .
● أنواع الآنية والأصل فيها :
النوع الأول : الآنية المصنوعة من الذهب والفضة .
النوع الثاني : الآنية النفيسة المصنوعة من غير الذهب والفضة :
وتنقسم نفاستها إلى قسمين :
- إما لذاتها ( أي مادتها ) كالعقيق والياقوت والزبرجد والجواهر ونحوها .
- وإما لصنعتها .
النوع الثالث : الآنية المصنوعة من غير ما سبق كالصفر والنحاس والحديد ونحو ذلك .
وهذه الآنية تنقسم إلى قسمين :
القسم الأول : ما أُعد للاستعمال وهذا لا يخلو من حالين :
الأول : أن تكون معدة للأكل والشرب .
الثاني : أن تكون معدة لغير الأكل والشرب .
القسم الثاني : ما أُعد للاقتناء والزينة .
والأصل في استخدام جميع الآنية الحل إلا ما دل الدليل على تحريمه .
فيجوز استعمال جميع الأواني في الأكل والشرب وسائر الاستعمالات إذا كانت طاهرة مباحة ولو كانت ثمينة لبقائها على الأصل وهو الإباحة ما عدا آنية الذهب والفضة فإنه يحرم الأكل والشرب فيهما خاصة لما ورد في ذلك من نصوص أما سائر الاستعمالات لهما ففيه خلاف سوف يأتي ذكره
فيما بعد إن شاء الله .
قال الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله : ( الأصل في الآنية الحل لأنها داخلة في عموم قوله تعالى : " هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا " ومنه الآنية لأنها مما خلق في الأرض لكن إذا كان فيها شيء يوجب تحريمها كما لو اتخذت على صورة حيوان مثلاً فهنا تحرم لا لأنها آنية ولكن لأنها صارت على صورة محرمة والدليل من السنة : قوله صلى الله عليه وسلم : "وما سكت عنه فهو عفو" وقوله أيضاً : " إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدوداً فلا تعتدوها وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها " .
فيكون الأصل فيما سكت الله عنه الحل إلا في العبادات فالأصل فيها التحريم لأن العبادة طريق موصل إلى الله عز وجل فإذا لم نعلم أن الله وضعه طريقاً إليه حرم علينا أن نتخذه طريقاً وقد دلت الآيات والأحاديث على أن العبادات موقوفة على الشرع .
قال تعالى : " أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ " فدل على أن ما يدين العبد به ربه لا بد أن يكون الله أذن به .
وقال صلى الله عليه وسلم : " إياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة " ولا فرق في إباحة الآنية بين أن تكون الأواني صغيرة أو كبيرة فالصغير والكبير مباح قال تعالى عن نبيه سليمان صلى الله عليه وسلم : " يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ " والجفنة : تشبه الصحفة .
وقوله : " وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ " لا تحمل لأنها كبيرة راسية لكثرة ما يطبخ فيها فتبقى على مكانها ولكن إذا خرج ذلك إلى حد الإسراف صار محرماً لغيره وهو الإسراف لقوله تعالى : " إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ " ) أهـ .
وقال الشيخ محمد بن محمد المختار الشنقيطي : ( الأصل في الأواني إباحة استعمالها واتخاذها إلا ما حرمه الشرع كآنية الفضة والذهب ... ) أهـ .
● أحكام الآنية من حيث الاستعمال :
الاستعمال في اللغة : يأتي بمعان منها :طلب العمل أو توليته .
ومنها : الجعل والتصيير فاستعمله أي : عمل به فهو مستعمل أي جعله محلاً للعمل .
والاستعمال في اصطلاح الفقهاء لا يخرج عن معناه اللغوي وهو : التلبس بالانتفاع أي أن يستعمله الإنسان فيما أُعد له أو فيما لا يعد له .
● حُكم استعمال الآنية الخالصة من الذهب والفضة في الأكل والشرب :
اختلف الفقهاء في حُكم الأكل والشرب في الآنية الخالصة من الذهب والفضة على ثلاثة أقوال :
القول الأول :
يحرم الأكل والشرب من آنية الذهب والفضة ويلحق بها الملاعق والسكاكين والشوكات ونحوها على الرجال والنساء للرجال والنساء على حد سواء وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية في الجديد والحنابلة في رواية .
القول الثاني :
يكره وهو قول الشافعية في القديم ورواية عند الحنابلة .
القول الثالث :
يحرم الشرب خاصة دون الأكل وهو مذهب الظاهرية .
أدلة القول الأول :
1- عن عبدالرحمن بن أبي ليلى أنهم كانوا عند حذيفة فاستسقى فسقاه مجوسي في إناء من فضة فلما وضع القدح في يده رماه به وقال : لولا أني نهيته غير مرة ولا مرتين كأنه يقول : لم أفعل هذا ولكني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( لا تلبسوا الحرير ولا الديباج ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة ) رواه البخاري ومسلم .
2- عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم ) رواه البخاري ومسلم .
وفي رواية لمسلم : ( إن الذي يأكل أو يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم ) وفي أخرى له : ( من شرب في إناء من ذهب أو فضة فإنما يجرجر في بطنه ناراً من جهنم ) .
والجرجرة : الصوت الضيف المتراجع كصوت حركة اللجام في فم الفرس يقال : جرجر الفرس : إذا حرك فمه باللجام .
قال الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله : ( الجرجرة : هي صوت الماء إذا جرى في الحلق فهذا الرجل والعياذ بالله يسقى من نار جهنم نسأل الله العافية حتى يجرجر الصوت في بطنه كما جرجر في الدنيا ) أهـ .
3- عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال : ( أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع : أمرنا بعيادة المريض واتباع الجنازة وتشميت العاطس وإجابة الداعي وإفشاء السلام ونصر المظلوم وإبرار المقسم ونهانا عن خواتيم الذهب وعن الشرب في الفضة أو قال : آنية الفضة وعن المياثر والقسي وعن لبس الحرير والديباج والإستبرق ) رواه البخاري ومسلم
4- أن في ترك ذلك تحقيق المخالفة للكافرين ومما هو مقرر في أصول الدين : ( تأكيد مخالفة الكافرين ) .
5- أن في ذلك إسراف وتبذير وقد جاءت النصوص بتحريمهما قال الله تعالى : ( إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) وقال : ( إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ) .
6- أن في ذلك كسر لقلوب الفقراء والضعفاء إذ كيف يأكل في آنية الذهب والفضة والفقير لا يجد ما يأكل .
7- نقل النووي رحمه الله إجماع العلماء على التحريم فقال : ( أجمع المسلمون على تحريم الأكل والشرب في إناء الذهب وإناء الفضة على الرجل وعلى المرأة ولم يخالف في ذلك أحد من العلماء إلا ما حكاه أصحابنا العراقيون أن للشافعي قولاً قديماً أنه يكره ولا يحرم وحكوا عن داود الظاهري تحريم الشرب وجواز الأكل وسائر وجوه الاستعمال وهذان النقلان باطلان ) أهـ .
وقد أنكر الشوكاني رحمه الله الإجماع الذي نقله النووي رحمه الله على تحريم سائر الاستعمالات في أنية الذهب أو الفضة فقال رحمه الله : ( وأما حكاية النووي للإجماع على تحريم الاستعمال فلا تتم مع مخالفة داود والشافعي وبعض أصحابه ... والحاصل أن الأصل الحل فلا تثبت الحرمة إلا بدليل يسلمه الخصم ولا دليل في المقام بهذه الصفة فالوقوف على ذلك الأصل المعتضد بالبراءة الأصلية هو وظيفة المنصف ) أهـ .
وقال الشوكاني رحمه الله أيضاً عند شرحه لحديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما السابق : ( والحديث يدل على تحريم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة أما الشرب فبالإجماع وأما الأكل فأجازه داود والحديث يرد عليه ولعله لم يبلغه .
قال النووي : قال أصحابنا انعقد الإجماع على تحريم الأكل والشرب وسائر الاستعمالات في إناء ذهب أو فضة إلا رواية عن داود في تحريم الشرب فقط ولعله لم يبلغه حديث تحريم الأكل وقول قديم للشافعي والعراقيين فقال بالكراهة دون التحريم وقد رجع عنه ) أهـ .
أدلة القول الثاني :
1- قالوا : علة الكراهة للتزهيد فيها بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة ) .
وأُجيب عن ذلك : بقوله صلى الله عليه وسلم : ( فإنما يجرجر في بطنه ناراً من جهنم ) وهو وعيد شديد ولا يكون إلا في محرم
2- أن النهي عنه للسرف والخيلاء والتشبه بالأعاجم وهذا لا يوجب التحريم لأن الحديث الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم عني بالمشركين والكفار من ملوك فارس والروم وغيرهم من الذين يشربون ويأكلون في أنية الذهب والفضة فأخبر عنهم وحذرنا أن نفعل مثل فعلهم ونتشبه بهم .
وأُجيب عن ذلك : بأن الإسراف حرام ويكفي فيه قوله تعالى : ( إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) .
وقوله : ( إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ) .
ومثله الخيلاء والتشبه بالكفار جاء في الأحاديث ما يقتضي أنه من الكبائر .
والحديث لم يكن يخبر عن حال الكفار بل قصد الرسول صلى الله عليه وسلم نهي أمته عن الأكل والشرب في أنية الذهب والفضة فمن أكل أو شرب فيهما بعد علمه بالنهي فقد استحق الوعيد المترتب على ذلك .
أدلة القول الثالث :
استدلوا بحديث أم سلمة رضي الله عنها السابق وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من شرب في إناء من ذهب أو فضة فإنما يجرجر في بطنه ناراً من جهنم ) رواه مسلم .
وأُجيب عن ذلك : بأن داود الظاهري لعله قصر الحكم بالتحريم على الشرب فقط لعدم وقوفه على حديث خذيفة المصرح بالتحريم في الأكل والشرب وإنما وقف على حديث أم سلمة رضي الله عنها السابق وهذه بعض طرقه في الشرب فقط .
ولكن حديث أم سلمة رضي الله عنها رواه مسلم وابن أبي شيبة والطبراني بلفظ آخر يدل على أن الأكل والشرب من آنية الذهب والفضة من كبائر الذنوب .
وهذا اللفظ هو : ( إن الذي يأكل أو يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم )
وهذا وعيد شديد ولا يكون إلا في كبائر الذنوب .
قال النووي رحمه الله : ( ... تحريم الأكل والشرب وسائر الاستعمالات في إناء ذهب أو فضة إلا رواية عن داود في تحريم الشرب فقط ولعله لم يبلغه حديث تحريم الأكل ... ) .
الترجيح :
رجح شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم والشوكاني والصنعاني والنووي وغيرهم من العلماء القول الأول وهو تحريم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة .
ورجحه الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي والشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز والشيخ محمد بن صالح بن عثيمين والشيخ صالح بن فوزان الفوزان وغيرهم .
وذلك لما ورد من النصوص السابقة التي تدل على التحريم .
● علة تحريم استعمال أواني الذهب والفضة :
العلة في اللغة : مأخوذة من عل وتأتي لمعان أشهرها ثلاثة :
الأول : تكرار الشيء أو تكريره ومنه العلل وسميت العلة بذلك لأن المجتهد يعاود النظر في استخراجها مرة بعد مرة .
الثاني : الضعف في الشيء ومنه العلة للمريض وسميت العلة بذلك لأنها غيرت حال المحل أخذاً من علة المريض لأنها اقتضت تغيير حاله .
الثالث : السبب تقول : هذا الشيء علة لهذا الشيء أي سبب له وسميت العلة بذلك لأنها السبب في الحكم .
وفي الاصطلاح : ما يحصل من ترتيب الحكم على وفقه ما يصلح أن يكون مقصوداً للشارع من جلب مصلحة أو تكميلها أو دفع مفسدة أو تقليلها .
واختلف الفقهاء في علة تحريم الشرب والأكل في آنية الذهب والفضة على أقوال منها :
- قيل العلة في التحريم السرف باستعمال النقدين في غير ما خلقا له .
- وقيل العلة في التحريم التكبر والخيلاء .
- وقيل العلة في التحريم الفخر وكسر قلوب الفقراء .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ( لأن ذلك مظنة السرف باستعمال النقدين في غير ما خلقا له والله لا يحب المسرفين ومظنة الخيلاء والكبر لما في ذلك من امتهانهما ومظنة الفخر وكسر قلوب الفقراء والله لا يحب كل مختال فخور ) .
وقال البهوتي رحمه الله : ( لأن في ذلك سرفاً وخيلاء وكسر قلوب الفقراء وتضييق النقدين ) .
وقال القرافي رحمه الله : ( وعلته السرف أو الخيلاء على الفقراء أو الأمران معاً ) .
- وقيل العلة في التحريم التشبه بالأعاجم .
قال الشافعي رحمه الله : ( إنما نهي عنه للسرف والخيلاء والتشبه بالأعاجم ) .
وقال ابن رشد رحمه الله : ( العلة هي : التشبه بالأعاجم ) .
- وقيل العلة في التحريم التشبه بأهل الجنة .
قال الشوكاني رحمه الله : ( العلة هي التشبه بأهل الجنة حيث يطاف عليهم بآنية من فضة وذلك مناط معتبر للشارع كما ثبت عنه لما رأى رجلاً متختماً بخاتم من ذهب فقال مالي أرى عليك حلية أهل الجنة أخرجه الثلاثة من حديث بريدة وكذلك في الحرير وغيره وإلا لزم تحريم التحلي بالحلي والافتراش للحرير لأن ذلك استعمال وقد جوزه البعض من القائلين بتحريم الاستعمال ) .
- وقيل العلة في التحريم ترحع إلى عينهما .
- وقيل العلة في التحريم لكونهما رؤوس الأثمان وقيم المتلفات فإذا اتخذ منها الأواني قلت في أيدي الناس فيجحف ذلك بهم .
مناقشة هذه الأقوال :
يمكن مناقشة القول بأن علة التحريم ( الخيلاء وكسر قلوب الفقراء ) بأن الخيلاء حرام في ذاتها وفي جميع الأحوال سواء اقترنت باستعمال آنية ذهب أو فضة أو لم تقترن بها حتى الفقير المتكبر لا ينظر الله إليه ولا يزكيه وله عذاب أليم وإن لم يستعمل آنية الذهب أو الفضة .
وعلة الحظر التي يبنى عليها القياس يجب أن تكون مشتملة على المحظور على سبيل المساواة طرداً وعكساً .
والخيلاء لا تصلح أن تكون علة حظر استعمال الذهب لا طرداً ولا عكساً لأن الشرب بآنية الذهب والفضة محظورة بإجماع الفقهاء وإن لم يقصد بها الخيلاء .
والزينة بالأحجار الكريمة مباحة باتفاق الجمهور ما لم يقصد بها الخيلاء .
- أما كسر قلوب الفقراء فيرد عليه جواز استعمال الأواني من الجواهر النفيسة وغالبها أنفس وأكثر قيمة من الذهب والفضة ولم يمنعها إلا من شذ كما أن الفقراء يصدع قلوبهم ما هو أعظم من استعمال أواني الذهب والفضة وذلك عندما يشم الفقير رائحة الطعام الزكية من مطابخ الأغنياء وهو يتضور جوعاً لفقدانه كسيرة خبز تسد رمقه وكذلك عندما ينظر ملابس الموسرين الفاخرة وهو يلبس الملابس البالية التي لا تقيه حر القيظ ولا زمهرير الشتاء وحينما ينظر إلى من يركبون السيارات الفخمة الأنيقة المكيفة وهو لا يجد ما يمكنه من ركوب سيارات الأجرة العامة فهذا البائس وأمثاله من البؤساء المساكين لا يلتفتون إلى استعمال غيرهم لأواني الذهب أو الفضة ولا يحسون في ذلك الاستعمال متعة فقدوها بل لا يخطر لهم على بال بل هم في شغل شاغل عن ذلك لانصراف قلوبهم إلى ما هو أهم وأعظم من الحاجات الضرورية وإذا كان لذيذ الأطعمة وجميل الألبسة والتمتع بالسيارات الفارهة والمساكن الجميلة والبساتين الغناء التي يمتلكها ويتنعم بها الأغنياء غير محظور شرعاً ولا يقول بحرمته أحد من العلماء قال تعالى : ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ) وإذا كان هذا أشد انكساراً لقلوب الفقراء من استعمال أواني الذهب أو الفضة فلا يعقل أن تكون علة التحريم كسر قلوب الفقراء على أن هذا التعليل يقتضي مساواة بني البشر في موارد الرزق وهذا لم ترد به شريعة من الشرائع السماوية لمصادمته نواميس الاجتماع البشري .
- ويجاب على المعللين ( بالسرف ) بإباحة التحلي بالذهب والفضة للنساء فلو كانت العلة السرف لحرم لبسهما عليهن لأن مقدار ما يلبسنه منهما أضعاف ما يمكن أن تصنع منه ملعقة أكل أو كأس شراب ويرد عليهم أيضاً بجواز استعمال الأواني المصنوعة من الجواهر النفيسة لأنها أغلى ثمناً فهي أقرب إلى الإسراف من أواني الذهب أو الفضة .
- مناقشة التعليل ( بالتشبه بأهل الجنة ) : وما ذهب إليه الشوكاني من أن العلة هي التشبه بأهل الجنة حيث يطاف عليهم بآنية من فضة بعيد لأنه قد ثبت أن لأهل الجنة كل ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وليس كل ما تشتهيه الأنفس محرماً على المؤمنين في الدنيا لأنه مباح لهم في الآخرة إلا ما حرمه الشرع كالخمر وهل يتبادر إلى عقل مسلم أن علة تحريمها لأنها مباحة في الجنة ؟ كلا .
فإن علة تحريمها هو الإسكار ولو كانت علة تحريم الخمر التشبه بأهل الجنة لحرم علينا في الدنيا العسل لأنه مما أعده الله لأهل الجنة .
وقد استدل الشوكاني رحمه الله على إباحة استعمال آنية الفضة عنده فيما عدا الأكل والشرب بحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ولكن عليكم بالفضة فالعبوا بها لعباً ) رواه أبوداود والبيهقي وأحمد وصححه الشيخ الألباني رحمه الله .
إذ كيف يسوغ اللعب أو التحلي بالفضة فيما لو كانت العلة التشبه بأهل الجنة لأنهم كما يطاف عليهم بآنية من فضة يحلون أيضا أساور من فضة .
ويرد عليه في احتجاجه بالحديث من وجهين :
أولها : ما وجه التفريق بين الذهب والفضة ؟ مع أن حديث أم سلمة الذي جاء الوعيد بالنار هو في الشرب في آنية الفضة .
ثانيها : أن هذا الكلام في الأواني والحديث في لباس الحلي .
- والقائلون بأن العلة هي ( التشبه بالأعاجم ) يرد عليهم بثبوت الوعيد لفاعله ومجرد التشبه لا يصل إلى ذلك .
الترجيح :
قال ابن القيم رحمه الله : ( قيل : علة التحريم تضييق النقود فإنها إذا اتخذت أواني فاتت الحكمة التي وضعت لأجلها من قيام مصالح بني آدم وقيل : العلة الفخر والخيلاء وقيل : العلة كسر قلوب الفقراء والمساكين إذا رأوها وعاينوها .
وهذه العلل فيها ما فيها فإن التعليل بتضييق النقود يمنع من التحلي بها وجعلها سبائك ونحوها مما ليس بآنية ولا نقد والفخر والخيلاء حرام بأي شئ كان وكسر قلوب المساكين لا ضابط له فإن قلوبهم تنكسر بالدور الواسعة والحدائق المعجبة والمراكب الفارهة والملابس الفاخرة والأطعمة اللذيذة وغير ذلك من المباحات وكل هذه علل منتقضة إذ توجد العلة ويتخلف معلولها .
فالصواب أن العلة والله أعلم ما يكسب استعمالها القلب من الهيئة والحالة المنافية للعبودية منافاة ظاهرة ولهذا علل النبي صلى الله عليه و سلم بأنها للكفار في الدنيا إذ ليس لهم نصيب من العبودية التي ينالون بها في الآخرة نعيمها فلا يصلح استعمالها لعبيد الله في الدنيا وإنما يستعملها من خرج عن عبوديته ورضي بالدنيا وعاجلها من الآخرة ) أهـ .
● أخي الحبيب :
● أكتفي بهذا القدر وللحديث بقية في الجزء الثاني إن شاء الله .
● وأسأل الله عز وجل أن يكون هذا البيان شافياً كافياً في توضيح المراد وأسأله سبحانه أن يرزقنا التوفيق والصواب في القول والعمل .
● وما كان من صواب فمن الله وما كان من خطأ أو زلل فمنى ومن الشيطان والله ورسوله منه بريئان والله الموفق وصلي اللهم علي نبينا محمد وعلي آله وأصحابه أجمعين .
أخوكم
أبومعاذ / عبدرب الصالحين أبوضيف العتمونى
وشهرته / عبدربه العتموني
ج . م . ع / محافظة سوهاج / مركز طما / قرية العتامنة
01002889832 / 002