نفع الله بكم .
قال شيخ الإسلام رحمه الله في الفتاوى الكبرى :
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يُحْتَمَلُ عِصْيَانُهُ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَجُوزُ لَهُ التَّأْخِيرُ بِشَرْطِ سَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ، كَمَا يَجُوزُ لَهُ التَّأْخِيرُ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ، وَقَضَاءِ الصَّلَاةِ، وَالنَّذْرِ، وَالْكَفَّارَةِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِشَرْطِ سَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ، وَإِنْ قُلْنَا : لَا يَعْصِي وَهُوَ الصَّحِيحُ فَلِأَنَّ مَا وَجَبَ وُجُوبًا مُوَسَّعًا لَا يَعْصِي مَنْ أَخَّرَهُ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ إذَا مَاتَ، كَالْمَسَائِلِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: أَمَّا قَضَاءُ الصَّلَاةِ وَالنَّذْرِ وَالْكَفَّارَةِ فَعِنْدَنَا عَلَى الْفَوْرِ، وَقَدْ قِيلَ إنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي فَلَا تُنَاظِرُ الْمَسْأَلَةَ، وَإِنَّمَا نَظِيرُهَا قَضَاءُ رَمَضَانَ، فَإِنَّهُ وَقْتٌ مُوَسَّعٌ، ...أهـ
قلت : فلم يقل : حتى خرج الوقت ، أو نحو ذلك .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في الزاد :
قوله: «ومن دخل في فرض موسع حرم قطعه» .
الواجبات ثلاثة أقسام: موسعة، ومضيقة من أصل المشروعية، ومضيقة تضييقاً طارئاً، مثال التضييق الطارئ : لو لم يبق على طلوع الشمس إلا مقدار ما يصلي صلاة الفجر، فيكون الوقت مضيقاً فإذا شرع في صلاة الفجر فلا يجوز قطعها.
كذلك قضاء رمضان موسع فإذا لم يبق بينه وبين رمضان إلا مقدار الأيام التي عليه صار مضيقاً.
الفرق بين الواجب الموسع والواجب المضيق :
1ـ الواجب الموسع لا يصح أداؤه إلا بنية اتفاقا، وأما الواجب المضيق كالصوم في رمضان، فعند أكثر الحنفية أنه لا يحتاج إلى نية الفرض، بل ينصرف الصوم إليه من غير نية تخصيصه، وعند الجمهور لا بد من النية (2).
2ـ أن الواجب الموسع لا يمتنع صحة غيره من الواجبات في زمنه، فله أن يصلي في وقت الظهر ظهرا فائتة أو صلاة أخرى، وأما الواجب المضيق فليس له أن يؤدي في وقته غيره إلا إذا كان ممن يجوز له ترك هذا الواجب كالمسافر في رمضان، فقد اختلفوا هل يجوز أن ينوي بصيامه في رمضان واجبا آخر كالكفارة والنذر مثلا؟ فقال بعضهم : لا يجوز؛ لأن وقت رمضان مضيق فلا يتسع لغيره، وقال بعضهم : إذا كان معذورا لا يكون مطالبا بصيام رمضان، ولا دليل على منعه من صيام نذر أو كفارة (3).
3 ـ…تقسيم الواجب بالنظر إلى المخاطب بفعله :
ينقسم الواجب بالنظر إلى المخاطب بفعله قسمين : عيني وكفائي :
الواجب العيني : وهو ما طلب الشرع فعله من كل مكلف بعينه، كالصلاة والزكاة والحج.
الواجب الكفائي : وهو ما طلب الشرع حصوله من غير تعيين فاعله.
وهذا النوع يدخل فيه ما أوجبه الله على الأمة بمجموعها من غير تخصيص أفراد بأعيانهم كالجهاد، وما أوجبه على جماعة محصورة من غير تحديد من يقوم به منهم بعينه كوجوب غسل الميت وتكفينه والصلاة عليه، فإن ذلك واجب على من حوله من المسلمين.
أصول الفقه الذي لا يسع الفقيهَ جهلُه . لعياض بن نامي السلمي .
__________
(1) المستصفى 1/70 .
(2) أصول السرخسي 1/35 .
(3) أصول السرخسي 1/36 .
الْوَاجِبُ يَنقَسِمُ بِاعْتِبَارِ وَقْتِهِ إِلَى:
أَوَّلًا: وَاجِبٌ مُوَسَّعٌ: وَهُوَ مَا يَسَعُ وَقْتُهُ أَكْثَرَ مِنْ فِعْلِهِ([1]).
وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ:
1- امْتِدَادُ وَقْتِ صَلَاةِ الظُّهْرِ مِنْ زَوَالِ الشَّمْسِ إِلَى أَنْ يَصِيرَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ.
فَهَذَا الْوَقْتُ يَتَّسِعُ لِأَدَاءِ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ فَرِيضَةِ الظُّهْرِ، وَيَتَّسِعُ أَيْضًا لِأَدَاءِ غَيْرِهَا.
2- وَقْتُ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، يَبْدَأُ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ يَوْمَ الْعِيدِ، وَيَتَّسِعُ وَيَمْتَدُّ إِلَى دُخُولِ لَيْلِ هَذَا اليَومِ.
3- وَقْتُ رَمْيِ جِمَارِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، يَبْدَأُ مِنْ زَوَالِ الشَّمْسِ – وَهَذَا هُوَ الْوَقْتُ الْأَفْضَلُ- وَلَكِنَّهُ يَمْتَدُّ وَيَتَّسِعُ إِلَى مُنْتَصَفِ اللَّيْلِ، وَبَعْضُهُمْ قَالَ: إِلَى قُبَيْلِ فَجْرِ الْيَومِ التَّالِي.
ثَانِيًا: وَاجِبٌ مُضَيَّقٌ: وَهُوَ مَا لَا يَسَعُ وَقْتُهُ أَكْثَرَ مِنْ فِعْلِهِ.
وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ:
1- وَقْتُ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ؛ يَبْدَأُ مِنْ طُلـُوعِ هِلَالِ رَمَضَانَ إِلَى طُـلـُوعِ هِلاَلِ شَهْرِ شَوَّالٍ، وَهَذَا الْوَقْتُ لَا يَتَّسِعُ لِأَدَاءِ غَيْرِهِ.
2- وَقْتُ أَدَاءِ فَرِيضَةِ الْحَجِّ لَا يَتَّسِعُ لِأَدَاءِ غَيْرِهَا.
مَا يَتَرتَّبُ عَلَى الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ وَالْمُضَيَّقِ:
أوَّلًا: أنَّ الوَاجِبَ المُوَسَّعَ لَوْ أخَّرَهُ المُكَلَّفُ عَنْ أوَّلِ وَقْتِهِ جَـــازَ لَهُ ذَلِكَ.
بِخِلاَفِ الْمُضَيَّقِ؛ فَإنَّهُ لَا سَبِيلَ لِتَأْخِيرِهِ([2]).
ثَانِيًا: أَنَّ الْوَاجِبَ الْمُوَسَّعَ لَوْ لَمْ يُؤَدِّهِ الْمُكَلَّفُ فِي أَوَّلِ وَقْتِهِ، وَمَاتَ أثْنَاءَ وَقْتِهِ الَّذِي حَدَّدَهُ الشَّرْعُ، قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيهِ، لَا يُعَدُّ عَاصِيًا وَلَا آثِمًا بِذَلِكَ التَّأْخِيرِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَحَكَاهُ بَعْضُهُمْ إِجْمَاعًا؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا لَهُ فِعْلُهُ، وَهُوَ جَوَازُ التَّأْخِيرِ([3]). بِخِلافِ الْمُضَيَّقِ.
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ -رحمه الله-:
(إذَا أَخَّرَ الْوَاجِبَ الْمُوَسَّعَ فَمَاتَ فَي أَثْنَاءِ وَقْتِهِ قَبْلَ ضَيْقِهِ لَمْ يَمُتْ عَاصِيًا لِأَنَّه فَعَلَ مَا أُبِيحَ لَهُ فِعْلُهُ لِكَوْنِهِ جُوِّزَ لَهُ التَّأْخِيرُ .
فَإنْ قِيلَ: إِنَّمَا جَازَ لَهُ التَّأخِيرُ بِشَرطِ سَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ .
قُلْنَا: هَذَا مُحَالٌ فَإِنَّ الْعَاقِبَةَ مَسْتُورَةٌ عَنْهُ .
وَلَوْ سَأَلَنَا فَقَالَ: عَلَيَّ صَوْمُ يَوْمٍ؛ فَهَلْ يَحِقُّ لِيَ تَأْخِيرُهُ إِلَى غَدٍ؟ فَمَا جَوَابُهُ؟
إِنْ قُلْنَا: نَعَمْ، فَلِمَ أَثِمَ بِالتَّأْخِيرِ؟ وَإِنْ قُلْنَا: لَا، فَخِلَافُ الْإِجْمَاعِ فِي الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ، وَإِنْ قُلْنَا: إنْ كَانَ فِي عِلْمِ اللهِ أَنَّكَ تَمُوتُ قَبْلَ غَدٍ لَمْ يَحِلَّ، وَإِلَّا فَهُوَ يَحِلُّ، فَيَقُولُ وَمَا يُدْرِينِي مَا فِي عِلْمِ اللهِ؟ فَلَا بُدَّ مِنْ الْجَزْمِ بِجَوَابٍ، وَهُوَ التَّحْلِيلُ أَوِ التَّحْرِيمُ.
فَإذًا مَعنَى الْوُجُوبِ وَتَحْقِيقُهُ: أنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّأْخِيرُ إِلَّا بِشَرْطِ الْعَزْمِ، وَلَا يُؤَخِّرُ إِلَّا إِلَى الْوَقْتِ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ الْبَقَاءُ إِلَيْهِ. وَاللهُ أعْلَمُ)([4]) .
وَالْوَاجِبُ الْمُوَسَّعُ يُضِيَّقُ بِمُرُورِ الْوَقْتِ؛ إِذَا لَمْ يَبْقَ مِنَ الْوَقْتِ إِلَّا مَا يَسَعُ الفَرْضَ لَا غَيْرَ؛ كَمَنْ تَرَكَ صَلَاةَ الظُّهْرِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ عَلَى وَقْتِ الَعَصْرِ إِلَّا مَا يَسَعُ لِأَدَاءِ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ فَقَطْ.
وَقَدْ يَضِيقُ بِغَيْرِ مُرُورِ الْوَقْتِ؛ كَمَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهَا نُزُولُ دَمِ الْحَيْضِ عَلَيهَا فِي مُنْتَصَفِ الْوَقْتِ مَثَلًا؛ فَإِنَّهُ يُضَيَّقُ عَلَيْهَا الْوَقْتُ إِلَى مُنْتَصَفِهِ.
أَوْ كَمَنْ سَيُقَامُ عَليْهِ حَدُّ الْقَتْلِ فِي ثُلُثِ الْوَقْتِ، مَثلًا، فَإنَّهُ يُضَيَّقُ عَلَيْهِ الْوَقْتُ إِلَى ثُلُثِهِ
((الهداية شرح البداية في أصول الفقه)) (66- 68)
([1]) انظر: «مذكرة في أصول الفقه» للشنقيطي (32).
([2]) انظر: «شرح مختصر الروضة» 1/322.
([3]) السابق.
(2) روضة الناظر (1/33،32).
بارك الله فيكم ، مشايخنا الأفاضل .