قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة في كتاب "قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة"؛ تحقيق عبدالقادر الأرناؤوط، ص (83)، فصل في معاني الوسيلة والتوسل: إذا عُرِف هذا، فقد ثبت أن لفظ (الوسيلة) و(التوسل) فيه إجمال واشتباه، يجب أن تُعرف معانيه، ويُعطى كل ذي حقٍّ حقَّه، فيُعرَف ما ورد به الكتاب والسُّنة من ذلك ومعناه، وما كان يتكلَّم به الصحابة ويفعلونه، ومعنى ذلك، ويُعرَف ما أحدثه المُحدِثون في هذا اللفظ ومعناه؛ فإن كثيرًا من اضطراب الناس في هذا الباب، هو بسبب ما وقَع من الإجمال والاشتراك في الألفاظ ومعانيها؛ حتى تجدَ أكثرهم لا يَعرف في هذا الباب فصل الخطاب، فلفظ الوسيلة مذكور في القرآن في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ﴾ [المائدة: 35]، وفي قوله تعالى: ﴿ قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا ﴾ [الإسراء: 56 - 57].

فالوسيلة التي أمَر الله أن تُبتغَى إليه وأخبر عن ملائكته وأنبيائه أنهم يَبتغونها إليه، هي ما يُتقرَّب به إليه من الواجبات والمُستحبات، فهذه الوسيلة التي أمَر الله المؤمنين بابتغائها، تتناول كل واجب ومستحبٍّ، وما ليس بواجبٍ ولا مُستحب، لا يدخل في ذلك؛ سواء كان محرَّمًا، أو مكروهًا، أو مباحًا، فالواجب والمستحب هو ما شرَعه الرسول، فأمَر به أمْرَ إيجابٍ أو استحبابٍ، وأصل ذلك الإيمانُ بما جاء به الرسول، فجماع الوسيلة التي أمر الله الخلق بابتغائها، هو التوسل إليه باتِّباع ما جاء به الرسول، لا وسيلة لأحدٍ إلى الله إلا ذلك.

والثاني: لفظ الوسيلة في الأحاديث الصحيحة؛ كقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((سَلوا الله الوسيلة؛ فإنها درجة من الجنة لا تَنبغي إلا لعبدٍ من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد، فمَن سأل الله لي الوسيلة، حلَّت له شفاعتي يوم القيامة))؛ رواه مسلم (384)، الترمذي (3619)، النسائي (2/ 25)، أحمد (2/ 168).وقوله: ((مَن قال حين يسمع النداء: اللهمَّ ربَّ هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آتِ محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابْعَثه مقامًا محمودًا الذي وعَدته - حلَّت له الشفاعة))؛ رواه البخاري (2/ 77 - 78)، وأبو داود (529)، والترمذي (211).

فهذه الوسيلة للنبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة، وقد أمرنا أن نسألَ الله هذه الوسيلة، وأخبر أنها لا تكون إلا لعبدٍ من عباد الله، وهو يرجو أن يكون ذلك العبد، وهذه الوسيلة أمرنا أن نَسألها للرسول، وأخبرنا أن مَن سأل له الوسيلة، فقد حلَّت له الشفاعة يوم القيامة؛ لأن الجزاء من جنس العمل، فلما دَعَوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - استحقوا أن يدعوَ هو لهم؛ فإن الشفاعة نوعٌ من الدعاء؛ كما قال: ((فإنه مَن صلَّى عليَّ مرة، صلى الله عليه بها عشرًا)).

وأما التوسُّل بالنبي والتوجُّه به في كلام الصحابة، فيُريدون به التوسل بدعائه وشفاعته، والتوسلُ به في عُرف كثيرٍ من المتأخرين يُراد به الإقسام به والسؤال به، كما يُقسمون بغيره من الأنبياء والصالحين، ومَن يُعتقَد فيه الصلاحُ.وحينئذٍ، فلفظ "التوسل" به معنيان صحيحان باتِّفاق المسلمين، ويُراد به معنًى ثالث لم تَرِد به سُنة، فأما المعنيان الأَوَّلان الصحيحان باتِّفاق العلماء، فأحدُها هو أصل الإيمان والإسلام، وهو التوسُّل بالإيمان به وبطاعته، والثاني دعواه وشفاعته كما تقدَّم؛ فهذان جائزان بإجماع المسلمين، ومن هذا قول عمر بن الخطاب: "اللهمَّ إنَّا كنَّا إذا أجْدَبنا توسَّلنا إليك بنبيِّنا، فتَسقينا، وإنَّا نتوسَّل إليك بعمِّ نبيِّنا، فاسْقِنا"؛ رواه البخاري، (4/ 413) في الاستسقاء؛ أي: بدعائه وشفاعته.وقوله تعالى: ﴿ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ﴾ [المائدة: 35]؛ أي: القُربة إليه بطاعته وطاعة رسوله؛ قال تعالى: ﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ﴾ [النساء: 80].فهذا التوسُّل الأول هو أصل الدين، وهذا لا يُنكره أحد من المسلمين، وأما التوسُّل بدعائه وشفاعته - كما قال عمر - فإنه توسُّل بدعائه لا بذاته؛ ولهذا عَدَلوا عن التوسُّل به إلى التوسل بعمِّه العباس، ولو كان التوسل هو بذاته، لكان هو أَوْلى من التوسل بالعباس، فلما عَدلوا عن التوسل به إلى التوسل بالعباس، عُلِمَ أن ما يفعل في حياته قد تعذَّر بموته، بخلاف التوسل الذي هو الإيمان به والطاعة له، فإنه مشروع دائمًا.

رابط الموضوع: http://www.alukah.net/sharia/0/46303/#ixzz3BxCXdgtF