قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى :
والمقصود أن نذكر من أقوال الصحابة ما يبين معنى اليمين فى كتاب الله وسنة رسوله وفى لغتهم . ففى سنن أبى داود حدثنا محمد بن المنهال حدثنا يزيد بن زريع حدثنا حبيب المعلم عن عمرو بن شعيب عن سعيد بن المسيب أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث ، فسأل أحدهما صاحبه القسمة فقال : إن عدت تسألنى القسمة فكل مالي فى رتاج الكعبة . فقال له عمر : إن الكعبة غنية عن مالك . كفر عن يمينك وكلم أخاك ! سمعت رسول الله يقول : لا يمين عليك ولا نذر فى معصية الرب ولا فى قطيعة الرحم ولا فى مالا تملك .
وهذا الرجل تكلم بصيغة التعليق صيغة الشرط والجزاء وعلق وجوب صرف ماله فى رتاج الكعبة على مسألته القسمة . وهذه الصيغة يقصد بها نذر التبرر ، كقوله : إن شفا الله مريضى وسلم مالي الغائب ، فثلث مالى صدقة . ويقصد بها نذر اليمين الذى يسمى نذر اللجاج والغضب ، كما قصد هذا المعلق والصيغة فى الموضعين صيغة تعليق . لكن المعنى والقصد متباين ، فانه فى احد الموضعين مقصوده : حصول الشرط الذى هو نعمة من الله كشفاء المريض وسلامة المال والتزم طاعة الله شكرا لله على نعمته وتقربا إليه ، وفى النوع الآخر مقصوده : أن يمنع نفسه أو غيره من فعل أو يحضه عليه وحلف . فالوجوب لامتناعه من وجوب هذا عليه وكراهة ذلك وبغضه إياه ، كما يمتنع من الكفر ويبغضه ويكرهه ، فيقول : إن فعلت فهو يهودى أو نصرانى . وليس مقصوده أنه يكفر بل لفرط بغضه للكفر به حلف أنه لا يفعل قصدا لانتفاء الملزوم بانتفاء اللازم ، فإن الكفر اللازم يقصد نفيه فقصد به الفعل لنفى الفعل أيضا ، كما إذا حلف بالله فلعظمة الله فى قلبه عقد به اليمين ليكون المحلوف عليه لازما لإيمانه بالله ، فيلزم من وجود الملزوم وهو الإيمان بالله وجود اللازم وهو لزوم الفعل الذى حلف عليه . وكذلك إذا حلف أن لا يفعل أمرا جعل امتناعه منه لازما لإيمانه بالله . وهذا هو عقد اليمين . وليس مقصوده رفع إيمانه بل مقصوده أن لا يرتفع إيمانه ولا ما عقده به من الامتناع ، فسمى عمر بن الخطاب هذا يمينا واستدل على أنه ليس عليه الفعل المعلق بالشرط بقول النبى ( لا يمين عليك ولا نذر فى معصية الرب ولا فى قطيعة الرحم ولا فى مالا يملك ) .
والنبى صلى الله عليه وسلم ذكر اليمين والنذر كما ذكر الله فى كتابه اليمين والنذر . فإن اليمين مقصودها الحض أو المنع من الإنشاء أو التصديق أو التكذيب فى الخبر ، والنذر ما يقصد به التقرب إلى الله . ولهذا أوجب سبحانه الوفاء بالنذر لأن صاحبه التزم طاعة لله ، فأوجب على نفسه ما يحبه الله ويرضاه قصدا للتقرب بذلك الفعل إلى الله . وهذا كما أوجب الشارع على من شرع فى الحج والعمرة إتمام ذلك لله لقوله : ( وأتموا الحج والعمرة لله ) . وإن كان الشارع متطوعا وتنازع العلماء فى وجوب إتمام غيرهما . ولم يوجب سبحانه الوفاء باليمين ، لأن مقصود صاحبها الحض والمنع ليس مقصوده التقرب إلى الله تعالى .
ولكن صيغة النذر تكون غالبا بصيغة التعليق - صيغة المجازات ، كقوله : إن شفا الله مريضى ، كان على عتق رقبة . وصيغة اليمين غالبا تكون بصيغة القسم ، كقوله : والله لأفعلن كذا . وقد يجتمع القسم والجزاء كقوله : ( ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين . فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون . فأعقبهم نفاقا فى قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون ) .
ولهذا ترجم الفقهاء على إحدى الصيغتين باب التعليق بالشروط كتعليق الطلاق والعتاق والنذر وغير ذلك ، وعلى الأخرى باب جامع الأيمان كما يشترك فيه اليمين بالله والطلاق والعتاق والظهار والحرام وغير ذلك . ومسائل أحد البابين مختلطة بمسائل الآخر . ولهذا كان من الفقهاء من ذكر مسائل جامع الأيمان مع مسائل التعليق ، ومنهم من ذكرها فى باب الأيمان . والمنفى بإحدى الصيغتين مثبت بالأخرى ، والمقدم فى إحداهما مؤخر فى الأخرى . فإذا قال : إن فعلت كذا فمالي حرام أو عبدى حر أو امرأتى طالق أو مالى صدقة أو فعلي كذا وكذا حجة أو صوم شهر أو نحو ذلك ، فهو بمنزلة أن يقول : الطلاق يلزمه لا يفعل كذا أو العتق أو الحرام يلزمه والمشى إلى مكة يلزمه لا يفعل كذا ونحو ذلك . ففي صيغة الجزاء أثبت الفعل وقدمه وأخر الحكم ولما أخر الفعل ونفاه وقدم الحكم . والمحلوف به مقصوده أن لا يكون ولا يهتك حرمته . وكذلك إذا قال : إن فعلت كذا فأنا كافر أو يهودى أو نصرانى فهو كقوله والله لأنه كذا .
ولهذا كان نظر النبى وأصحابه إلى معنى الصيغة ومقصود المتكلم سواء كانت بصيغة المجازات أو بصيغة القسم . فإذا كان مقصوده الحظ أو المنع جعلوه يمينا . وإن كان بصيغة المجازات وإن كان مقصوده التقرب إلى الله جعلوه ناذرا . وإن كان بصيغة القسم . ولهذا جعل النبى صلى الله عليه وسلم الناذر حالفا ، لأنه ملتزم للفعل بصيغة المجازاة فإن كان المنذور مما أمر الله به أمره به وإلا جعل عليه كفارة يمين . وكذلك الحالف إنما أمره أن يكفر يمينه إذا حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها اعتبارا بالمقصود فى الموضعين . فإذا كان المراد ما يحبه الله ويرضاه أمر به وهو النذر الذى يوفى به . وإن كان بصيغة القسم وإن كان غيره أحب إلى الله وأرضى منه أمر بالأحب الأرضى لله . وإن كان بصيغة النذر وأمر بكفاره يمين . وهذا كله تحقيقا لطاعة الله ورسوله وأن يكون الدين كله لله ، وأن كل يمين أو نذر أو عقد أو شرط تضمن ما يخالف أمر الله ورسوله فإنه لا يكون لازما بل يجب تقديم أمر الله ورسوله على كل ذلك .
لا أدري . . هل يمكن حمل كلام الشيباني في هذا الأمر على ما ذكره شيخ الإسلام من المجازاة والقسم ، أو لا .