متى تكون كلمة الحق عند سلطان جائر جهادا وشهيدها أفضل الشهداء
كنت في السابعة عشرة من عمري تقريبا أجادل شخصا ممن يكبرني في السن ، وكان يذم من يدعي نصح الحكام بغير حكمة ، وأنه قد يضر نفسه ولا يزيل منكرا ، ولا ينفع الإسلام في شيء . فكان ردي عليه بقول النبي صلى الله عليه وسلم : ((سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب يوم القيامة، ورجل قام إلى إمام جائر ،فأمره ونهاه ، فقتله)) ، وبحديث : (( أفضل الجهاد : كلمة حق عند سلطان جائر )) . وللأسف ! لم يكن عند ذلك الرجل جواب على استدلالي بهذا الحديث في تجويز التهور في الإنكار على الأمير الظالم ، لولا فضل الله علي ورحمته في أن زادني من العلم بعد ذلك ، ما عرفت به غلطي !!
واليوم يتكرر من بعض طلبة العلم وبعض المتمشيخين بغير حق استدلالهم بهذا الحديث على مَدْحِ من عرّضَ نفسه للهلاك بحجة الإنكار ! وكأن الإسلام يبيح قتل النفس مطلقا إذا كان قتلها بحسن نية ، حتى لو كان القتل لن يرفع للحق راية ، ولن يزيل منكرا ! ولا يعلمون أنهم بهذا الاحتجاج وبهذا الفهم السقيم لهذا الحديث ينقضون أدلة كثيرة من أدلة الشرع وقواعد راسخة من مقاصده ، كلها توجب أن لا يقع تعريض النفس للقتل إلا دفاعا عن الدين والحرمات ، أو أن يكون دافعا مفسدةً أعظم من مفسدة القتل . ولا يجوز أن يعرض المؤمن نفسه للقتل بلا منفعة تعود على الدين وعلى الدفع عن الحرمات ، فهذه مفسدة بلا أي مصلحة لا يجيزها نقلٌ ولا عقل . ومن احتج بظاهر هذا الحديث ملغيا بقية نصوص الشرع التي تفسره وتشرحه ، فهو يظن نفسه قد تمسك بحجة من السنة ، ويحسب أنه قد انتصر لرأيه بحديث نبوي ، ولكنه قد ردّ بذلك وعارض آياتٍ وأحاديثَ ومحكماتٍ للشرع ، تدل على خلاف فهمه وضدّ استدلاله ! وبذلك سيكون حاله أسوأ ردا للسنة وللنص الشرعي ( من وجه )، ممن رده عالما برده له ؛ من جهة كونه نسب رده للشرع ولنصوصه إلى الشرع نفسه !
ولو حاول هؤلاء المتعالمون أن يفقهوا ، لوجدوا أن العلماء قد شرحوا هذا الحديث منذ أكثر من ألف سنة !!
فقد ذكر الإمام محمد بن جرير الطبري مسألة الإنكار على الأمراء علانية ، وهل هو سنة ؟ وذكر حديث (( أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)) ، ثم نقل خلافا بين السلف في ذلك ، فذكر لهم ثلاثة مواقف :
الأول : ونقله عن عبدالله بن مسعود وابن عباس وحذيفة وأسامة بن زيد رضي الله عنهم : أن كلمة الحق عند سلطان جائر تكون أفضل الجهاد إذا أمن المنكِرُ على نفسه القتل أو أن يلحقه من البلاء ما لا قبل له به .
ونقل عن التابعي العابد الجليل مطرف بن بن عبد الله الشِّخِّير أنه قال : ((والله لو لم يكن لي دين ، حتى أقوم إلى رجل معه ألف سيف ، فأنبذ إليه كلمة ، فيقتلنى : إن دينى إذن لضيق)) !! وهي عبارة معبرة !!
والمذهب الثاني : ونقله عن عمر بن الخطاب وأبي بن كعب أنهما أوجبا على من رأى منكرا أن ينكره علانية .
ولكن من المعلوم أنهما ( رضي الله عنهما) قد قالا ذلك في زمنهما ، وكان أحدهما خليفة راشدا ، والآخر مات في زمن خليفة راشد ( عثمان بن عفان ) رضي الله عنهم أجمعين ، فلم يكونا يتحدثان عن كلمة الحق عند السلطان الظالم ، ولا عن الإنكار على الأمراء الظلمة .
والثالث : أن الإنكار عند الأمراء الظلمة يكفي فيه إنكار القلب ، واحتج أصحاب هذا القول بأحاديث صحيحة ، كقوله صلى الله عليه وسلم : ((يُستعمل عليكم أمراء بعدى، تعرفون وتنكرون ، فمن كره فقد برئ ، ومن أنكر فقد سلم ، ولكن من رضى وتابع ، قالوا: يا رسول الله، أفلا نقاتلهم؟ قال: لا، ما صلوا)) .
ثم رجح ابن جرير : أن الواجب هو الإنكار ؛ إلا إذا خاف على نفسه عقوبة لا قبل له بها . فلم يطلق القول بالوجوب ، واحتج بقوله صلى الله عليه وسلم : ((لا ينبغى للمؤمن أن يذل نفسه . قالوا : وكيف يذل نفسه ؟ قال : يتعرض من البلاء ما لا يطيق)) .
ونقل كلام ابن جرير هذا عدد من أهل العلم : كابن بطال في شرحه البخاري ، ونقله مختصرا ابن حجر في الفتح .
وبغض النظر في تفاصيل هذا الاختلاف ، فإن الصحيح في فهم هذا الحديث : (( كلمة حق عند سلطان جائر )) هو أن المنكِر :
إما أن يكون قائل الحق عند السلطان الجائر آمنا على نفسه : فهذا سيكون فعله صحيحا ، بل واجبا عليه .
وإما أن يكون غير آمن على نفسه ، وله حالتان :
الأولى : إما أن يكون قتله أو أذاه سوف يعود على الدين بالعزة والنصر ، فهذا هو الذي يُشرع له ذلك ، إذا كان يقدر عليه ويصبر عليه . واجتهاده يجب أن يقوم على تقدير أعظم المفسدتين ، وتقديم أخفهما .
والثانية : وإما أن إنكاره لن يعود على الدين بنفع ، بل ربما أدى قوله الحق إلى جر مفاسد عظيمة على الدين ، فهذا لا يكون مشروعا ، ويحرم تعمده ، مع العلم بنتائجه !
إذن ينحصر معنى الحديث فيمن قال الحق وهو يتوقع الأذى بالقتل وغيره ، وهو قادر على تحمل هذا الابتلاء ، إذا كان يعلم أن مفسدة قتله أو أذاه ستؤدي إلى مصلحة إعزازٍ للدين ، بتغيير المنكر ، أو بغير ذلك من صور إعزاز الدين ونصرته . كما حصل مع غلام أصحاب الأخدود ، الذي كان قتله نشرا للدين ونصرا له .
أما إذا كان يعلم أن سوف يُقتل بلا أي مصلحة ، كأن يُقتل سرا ، فلا يزيل منكرا ، ولا يعزّ للدين راية = فهذا فساد بإزهاق نفس بلا فائدة ! فكيف إذا ترتب على كلمته مفاسد على الدين وأهله ؟!
هذا هو فقه هذا الحديث مع بقية نصوص الشرع ، لا فقه السطحيين الذين لا يعرفون إلا الاستدلال المجتزأ والفهم العجِل والظاهرية الهوجاء !
زادنا الله وإياكم فقها في الدين !!
تكملة وحاشية
روى محمد بن الحسن (ت189هـ) في كتاب الأصل ( 7/ 306-307) ، وغيره ، بإسناد صحيح ، عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه ، أنه قال : (( ما من كلام أتكلم به ، يدرأ عني ضربتين بسوط عند ذي سلطان ؛ إلا كنت متكلما به )) .
ثم تعقبه محمد بن الحسن بقوله : (( وإنما نضع هذا من ابن مسعود على الرخصة منه ، فيما فيه الألم الشديد ، وإن كان سوطين .
فأما أن نقول : إن السوطين اللذين لا يُخاف منهما تلفٌ ولا وجع لا بأس بأن يكفر بالله لمكانهما ، فهذا لا يجوز عندنا أن يقال على عبدالله بن مسعود . ولكن هذا عندنا من عبدالله بن مسعود شبيه بالمثل ، يريد به الرخصة فيما وصفت لك )) .
هذا نموذج عال من طريقة فهم كلام السلف ، وعدم الاكتفاء بظاهره ، بل مخالفة هذا الظاهر ، وتأويله ليوافق أصول الشريعة وقواعد الدين !
وفي أثر ابن مسعود من الفقه : وجه من وجوه مسايرة الواقع ، وعدم مصادمته ، إذا كان يترتب على مصادمته أذى شديد في النفس ، تعجز النفس عن تحمله .
خاصة أن التابعي راوي الخبر ، وهو الحارث بن سويد ، وهو أحد كبار التابعين وساداتهم ، رواه لما أنكر عليه بعضهم خروجه لبيعة المختار بن أبي عبيد الثقفي الكذاب الشهير ، وبيعته على كتاب مختوم ، لا يُدرى ما فيه ! فلما سُئل عن فعله هذا باستغراب ، أجاب بأثر ابن مسعود هذا .
ولا أحسب المتمردين على كل شيء والثائرين من شبابنا المتحمس إلا سوف يستنكر مثل هذه المواقف !!
لكن هكذا هي الحياة ، وهذا ما تقتضيه حكمتها .
وإظهار مواقف السلف التي من هذا القبيل مهمة لكبح جماح التمرد ، وعقل اندفاع الحماسة المتهورة . إن لم يكن للاقتداء ، فلا أقل من الإعذار الكريم ، الذي يُدرك أن بعض سادة الأمة كانوا يدرؤون عن أنفسهم الأذى بمثل هذه المداراة .
تاريخ النشر : 1435/10/08 هـ
كتبه: د/حاتم العوني.