قال التلميذ : شيخي ، عرفت أن الركون إلى القرب بُعد ، وأن استشعار التقريب هو بداية الإبعاد ، وأن الذي فُتح له الباب ، وخطا على بساط القرب = يجب أن يبقى راغبا في مزيد من التقرب ، وأنه من حين الفرح باقترابه ، سيجد نفسه خارج باب القرب ( وليس باب الإيمان والإسلام) ، وسيجد نفسه (كما كان) يقرع الباب من جديد ! يسأل الدخول والقرب !! وكأنه ما فُتح له الباب يوما ، ولا شَرُفَ بالمشي على بساط القُرب لحظة !!
فهمت يا شيخي معنى قوله تعالى { وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ } ، كما فهمه بعض السلف (ويُروى مرفوعا ، على خلاف في صحته) : أن هؤلاء الذين ذكرتهم الآية ليسوا هم الذين يعصون ، فيخافون عقوبة عصيانهم ، وإنما هم الذين يعملون الطاعات ، ويتقربون بأنواع القربات ، ولكنهم (مع ذلك) ما يزالون خائفين من الطرد والإبعاد : فقلوبهم وجلة من يوم اللقاء { وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ }، حيث سيعلمون يومها علم اليقين ، ويومها فقط : هل اقتربوا ؟ أم ابتعدوا ؟!
وفهمت أخيرًا يا شيخي أن هذا الخوف هو نفسه طاعة وقُربى ، تزيد من القُرب والحب !!
لكن الذي أفزعني يا شيخي : هو كيف أفرّق بين خوف الطائعين وخوف العاصين ؟ كيف أفرق بين خوفي من عدم اقترابي وخوفي من ابتعادي ؟ كيف أعرف أني على درجات الصعود أعلو أم إلى دركات الهبوط أهوي ؟!!
فقال الشيخ (وقد علاه الكرب) : يا بني ، لو عرفتَ ما سألت !!
هذا محط الابتلاء ، وحقيقة التمحيص ، وهو ما سقط فيه إبليس ، وسما فيه محمد صلى الله عليه وسلم ، فكان سيدَ الخلق وأفضلَ الأولين والآخرين !
يا بني : عِ عنّي ما أقول ! لو عرف المتقربون أنهم قريبون لكان هذا نعيمًا لا يسألون عليه نعيما ، لكان نعيما يقطع التكليف ، وينقلهم من دار الاختبار إلى دار الجزاء ، فلا يبقى ليوم الحساب والثواب والعقاب حكمة ! فماذا يريد العبد أكثر من الجلوس على بساط الرضوان !!
تذكّر يا بنيّ أن بساط الرضوان أعظم من نعيم الجنة ، قال تعالى { وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات ِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } . وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( إنَّ الله يقول لأَهْلِ الجَنَّةِ : يا أَهلَ الجَنَّةِ . فَيَقولُونَ : لبيك ربَّنَا وَسَعدَيْكَ ، وَالخَيْرُ في يَدَيكَ ! فيقول : هل رَضِيتمْ ؟ فَيَقولُونَ : وما لنا لا نَرضَى يا ربِّ ؟! وقد أَعطَيْتَنَا ما لم تعْطِ أحَدًا من خَلْقكَ !! فيقول : ألا أُعْطيكُمْ أفْضَلَ من ذلك ؟ فيَقُولُونَ : يا ربِّ ، وأَيُّ شيْءٍ أفْضَلُ من ذلك ؟! فيقول : أُحلُّ علَيْكُمْ رضْوَانِي ، فلا أسْخَطُ علَيْكُمْ بعْدَهُ أبَدًا )) .
فقاطع التلميذ الشيخ قائلا : فكيف النجاة يا شيخ ؟! كيف أعرف أني لست مطرودا ؟ فقد يئست من أن أعرف أني لست قريبًا !! بعد أن فقدت الطمع في معرفة القُرب !!
فقال الشيخ : لو صبرتَ ، لأخبرتك . وتمام الأدب شرطُ تمام الفهم ، فالمعاني العالية لا تثبت إلا في النفوس الزاكية ، كالشجرة الطيبة ، لا تنمو إلا في الأرض الطيبة !!
فبكى التلميذ ، وهم بالخروج من مجلس الشيخ ، يشعر بالحرمان والطرد !!
فنظر إليه الشيخ وقال : امكُثْ بني ، فإنما أردت نفعَك ، وما أردت إيلامك إلا بقصد الإحسان إليك .
فعاد التلميذ ، وجلس ، يُـكَفْكِفُ دمعته ، في أدبٍ تامّ ، وإنصاتٍ كامل ، لا تطرف عينه ، ولا يلفت قلبُه .
فعرف الشيخ أنه أصبح مستعدًّا لفهم الجواب !
فقال الشيخ : يا بُني ، هناك ثلاث علامات أعرفها ، وقد يعرف غيري غيرها ، تعينك على النجاح في الاختبار ، بعد أن عرفتَ أنه لا سبيل إلى معرفة النجاح إلا بالانتقال إلى الدار الآخرة ، ولا طمع لنا باستشعار يقين القرب إلا برفع الحجاب يوم القيامة !
فارتجف التلميذ ، ووضع الشيخ يده على قلبه ، وقال :
العلامة الأولى : ازدياد الحب في القلب ، انشغالُ القلب بواجبات التعظيم ، فلا يرى في طاعته إلا نعمة الله عليه ، ولا يرى في غفلته إلا حلم الله عنه ، ولا يرى في معصيته له إلا تدارك رحمته وإسبال ستره وحبه = فهو في ازدياد من الحب .
ولا تقل لي : كيف أعرف الحب وازدياده ؟ فما عرف شيئًا مَن لم يتيقن من الحب ! وأي يقين أقوى من يقينك بحب من تحب ؟! فكل مسلم حقيقي هو مُـحِبٌّ حقيقي ؛ لكنَّ الشيطانَ (وما أعظم كيده) ، وتخليطَ التعليم ، وإساءةَ جهلةِ الوعاظ = كلَّ ذاك هو الذي يكاد يُفقد المسلمين شعورَهم بيقين حبهم لله تعالى !
بُني ، لا تتعجّل ، فأنا أعلم أنك لا تسأل عن حبِّ وتعظيمِ أوّلِ درجات الإسلام ، وهو الذي يستقر في قلب كل مسلم . ولكنك تسأل عن حب المتقرّبين ، وعن تعظيم الذين فُتح لهم باب القُرْب وقبّلوا على ذلك البساط تلك العَتَبات . فإنك إذا استطعت أن تشعر بحب أول درجات الإسلام ، وتغلب كيدَ الشيطان الذي يُريد إخفاء شعورك به وتشكيكَك فيه ، وأن تتجاوز إساءة من أساؤوا تعليمك وتخليطَ من خلّطوا في وعظك = فستعرف أن شعورك بالحب مما لا يمكن أن تشك في تفاوت مراتبه في قلبك !
ألا تذكر لحظة شعرت فيها بجمال الله تعالى ، فتمنيت نعيم النظر إليه ؟!
ألا تذكر لحظة تلبّستَ برحمته عليك ، فاشتقت إلى لقائه ؟!
ألا تذكر لذة مناجاته في بعض سجداتك ، في التزامك بباب الكعبة وعلى جدرانها ؟!
ألا تذكر فرحة دمعة سفحتها في محراب الصلاة بينك وبين ربك ؟!
هذه هي ساعات القرب ولحظات الأنس !!
لا تَنْسَها ! فهي عيانُ الحب الذي يغنيك عن كل أخباره ، وليس الخبر كالمعاينة !!
الخلاصة : هذه العلامة هي أعمال القلوب ، لا أعمال الجوارح ، وهي أقوى العلامات !! لأنها لا يمكن أن تتخلف !! وعليها تنبني بقية العلامات !!
العلامة الثانية : كثرة اللجوء إلى الله في سؤال الهداية والثبات .
ألا ترى أن أكثر وأجل ما يدعو به المؤمن هو طلب الهداية ، فطلبها هو الطلب الوحيد الوارد في أعظم سور القرآن وفاتحة القرآن التي تُقرأ في كل ركعة فريضة أو نافلة !! فبعد أن يحمد العبد ربه تعالى : {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، وبعد ثنائه عليه سبحانه : {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، وبعد تمجيده عز وجل : {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ، وبعد إعلان إفراده بالعبادة وتوحيده بالاستعانة : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، لا يرد ألا سؤالٌ واحد ، هو : {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}.
وعَنْ أَنَسٍ (رضي الله عنه) قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: «يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ»، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّه ، آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ ، فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا ؟ قَالَ: «نَعَمْ، إِنَّ القُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الله ، يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ» . وما أكثر ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرهم بذلك حتى في يمينه ، يقول عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما) : أَكْثَرُ مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْلِفُ: «لاَ ، وَمُقَلِّبِ القُلُوبِ ! » .
ومن أسرار هذا السؤال : أن الصدق فيه ينافي التبجح بالقرب كل المنافاة ، فكيف يتبجح ويمتنُّ بالقرب من يخشى الطرد كل الخشية ؟!
العلامة الثالثة : جاءت في كتاب الله تعالى عقب آية الخوف لصيقةً بها ، مجيبةً لسؤال الخائفين عن علامة القرب وتمييزها عن علامة البُعد ، يقول تعالى { وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ }.
ألا ترى قوله تعالى { أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ } ؟
إذن فالازدياد من عمل الطاعات : من علامات الاقتراب , والمسارعة إليها : من دلائل ولوج الباب ، والمسابقة إليها : من إشارات التسامي في منازل الأحباب !
يا بني ، ستقول : لماذا لا تكون هذه هي الدليل ؟ وليست مجرد علامة ؟! ستقول : لماذا وهي صريحة في كتاب الله تعالى تذكر سمات الرفيق الأعلى من الصّدّيقين والشهداء والصاحين ؟!
يا بُني : تذكّرْ :
أولا : أن الآية لم تذكر أعمال الجوارح فقط ، فالمسارعة للخيرات تكون بأعمال القلوب والجوارح معًا , وقد ذكرت لك أعمال القلب في أول علامة ، وقلت لك : إنها أقوى العلامات .
ثانيا : هل نسيتَ (الخوارج) وهم من أكثر الناس أعمالَ جوارح ، حتى فاقوا بذلك من كانوا أكثر أعمال قلوب منهم ، وهم الصحابة (رضوان الله عليهم) .
فكثرة أعمال الجوارح ليست وحدها هي العلامة ، ولا هي أقواها ! لكنها من العلامات ، مع بقية العلامات .
يا بني ، وكلها مجردُ علاماتٍ ، كافيةٍ لعدم اليأس ، مانعةٍ من القنوط ؛ لكنها لا تريك القرب ، ولا يمكن أن تُشعرك بتجاوز الاختبار ، ولا يصح أن تطلب ذلك أصلا ، وأنت في قاعة الامتحان (الدنيا) .
فقام التلميذ يريد تقبيل رأس شيخه ، وقد قبّله من قبلُ بفؤاده : حبا وإجلالا ! فمنعه الشيخ ، وقال له : يا بني ، رب متحدث عن ذوقٍ ، كان قد ذاق .. ثم حُرم ، فصار يحسن الوصف ، لكنه فاقد الذوق !
اللهم أسألك عفوك وسترك الجميل !!

د/حاتم العوني.