ختم القرآن (دعاء)
لبرهان الدين إبراهيم بن محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية
تحقيق عبد الله بن محمد بن عبد الله المديفر


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أما بعد:
برهان الدين، أبو إسحاق، إبراهيم بن محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي، ابن قيم الجوزية، الحنبلي. والده هو الإمام العَلم: شمس الدين محمد بن أبي بكر.
وُلد برهان الدين عام (716هـ)، وتوفي رحمه الله تعالى في الشام عام (767هـ)، عن ثمان وأربعين سنة.
كان بارعًا فاضلاً في العلم، طلب الحديث، وبرع في الفقه والنحو، واشتغل في أنواع العلوم، وأَفتى، ودَرَّس، وناظر، وصَنَّف. وقد ترجمت للمؤلف في تحقيقي لكتابه (تحقيق القول في سنة الجمعة) ونشرته دار النوادر عام 1433هـ، بما يغني عن ذكر ترجمته هنا.
وذَكرت له أربعة مؤلفات، ويمكن أن يُعد هذا الختم خامسها. اعتمدت في نشر (ختم القرآن) على نسخة خطية محفوظة في مكتبة (آيا صوفيا) في المكتبة السليمانية بإسطنبول بتركيا، ضمن المجموع رقم (1596)، وهي نسخة جيدة، كاملة، سالمة من السقط والعوامل المؤثرة على سلامة النص. يقع (ختم القرآن) في ورقتين (ق90/ب إلى 92/أ)، في الصفحة الكاملة منها سبعة عشر سطرًا. نُسخت عام (796هـ). ناسخها: شمس الدين محمد بن موسى بن إبراهيم بن عبد الرحيم الأنصاري الخزرجي، الشهير بابن الحبال الحراني الحنبلي. قال الناسخ في أولها: "نقل الشيخ الإمام العلامة شمس الدين [أبو]([1]) عبد الله محمد بن المحب المقدسي الحنبلي([2])، قال: نقلت من خط شيخنا برهان الدين إبراهيم بن شيخنا الحافظ شمس الدين محمد ابن قيم الجوزية رحمهما الله تعالى ختم القرآن، ومنه نقلت". وقوبلتْ هذه النسخة على نسخة بخط تلميذ المؤلف: شمس الدين ابن المحب رحمهما الله تعالى.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــــــ
ختم القرآن
صدق الله العظيم، الذي أنزل الذكر وحفظه، وأودعه الهدى واليقين والشفاء والموعظة، وجعله بأيدي سفرة كرام بررة مؤتمنين حفظه، ونبه به قلب المؤمن من رقدة الغفلة وأيقظه، وافتتحه بالحمد ليتنبه الخلق لشكر هذه النعمة، ويسَّره للذكر فانطلقت به الألسن ووعته القلوب وانفرجت ببركته الخطوب المهمة، وأسعد من اصطفاه من خلقه بتلاوته / [90/ب] وتعليمه، فهم بشهادة الرسول خير الأمة. وفَّقَ قلوب المؤمنين للاستنارة به فأصبحوا متمسكين بحبله، وأعجز الفصحاء والبلغاء عن معارضته فاعترفوا بفضله، ولو ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ [الإسراء: ٨٨]. وصدق محمد عبده ورسوله الذي شرح الصدور لآياته، وفتح الحصون لراياته، وكسر سطوات المارقين عن مجادلة حججه وبيناته، وقصر خطوات السابقين عن محاولة بلوغ درجاته، فجاهد في الله حق جهاده حتى أوضح للخلق سبل هداه واستعد للآخرة حق استعداده، فعمر ليله ونهاره بطاعة مولاه وقام مناجيا لربه حتى تفطرت لذلك القيام قدماه، حتى قيل له أتتكلف هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: أفلا أشكر الله. اللهم فلك الحمد على هدايتنا بسيد المرسلين، وإدخالنا ببركته في جملة عبادك المؤمنين، وإلهامنا بحفظ كتابك، وشرح صدورنا بلذيذ خطابك. اللهم إنا بحمدك نؤمن، وبوعدك نوقن، وفي شكرك نمعن، ولحكمك نذعن، وعندك نعهد ولك نشهد أن لا إله إلا أنت سبحانك ما أعظم شأنك، وأقوم برهانك، وأوفر إحسانك، وأكبر سلطانك، ظهرت لوحدانيتك في كل شيء آية بينة، وقهرت قدرتك عظائم المخلوقات فأجابت طائعة، سامعة، مذعنة. وآذنت للأصوات وأجبت الدعوات، فلم تختلف عليك اللغات، ولم تلتبس عليك الألسنة. وكلأت الملك والملكوت بعينك / [91/أ] التي [لا]([3]) تنام، ولا ينبغي لها أن تنام إذا نامت العيون الوسنة. وشرحت الصدور، وشفيت القلوب من كلامك بالحكمة والموعظة الحسنة. اللهم فكما وفقتنا لحمله، وجعلتنا من أهله، وأعنتنا بقوتك حتى قرأناه، وبلغتنا بلطفك حتى ختمناه، فبلغنا به الأمل من رحمتك، وأوجب لنا به المزيد من نعمتك، واجعلنا من المستدلين به على فرضك وسنتك، المتبوئين ببركته بحبوحة جنتك. اللهم كما جعلت القرآن العظيم مباركا فارزقنا به من كل بركة، وكما جعلته نجاةً فنجنا به من كل هلكه، وكما جعلته نورًا فأنر به قبورنا، واشرح به صدورنا، ويسر به أمورنا. اللهم بين لنا به طرق الرشاد، وأوضح لنا به سبل السداد، وجنبنا ببركته الغي والفساد، وأعذنا بعصمته من البغي والعناد. اللهم كما أنعمت علينا بحفظه فأوضح لنا معالمه، وكما أكرمتنا بحرمته فاجعلنا ممن يحل حلاله ويحرم محارمه، وكما يسرت لنا ختمة فارزقنا ببركته حسن الخاتمة. اللهم احطط به أوزارنا، وأنر به أسرارنا، صغارنا وكبارنا. واجعلنا بحبله متمسكين، وبنوره إلى سبيل رضاك سالكين. اللهم وأعد من بركات ختمتنا ونفحات أدعيتنا على من حضرنا من الأهل والإخوان والأحباب والأصحاب. اللهم ضاعف لهم الأجور، ويسر لهم الأمور، وباعد عنهم كل مخوف ومحذور، واكتبهم مع عبادك الأبرار واجعلهم في هذه الليلة المباركة من عتقائك من النار. اللهم اغفر لنا / [91/ب] ولوالدينا، ولمن علمنا ولمن أحسن إلينا ولمن حضرنا ولمن غاب عنا، وللمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات. اللهم وأوصل إلى أمواتنا وأموات المسلمين في هذه الليلة من رحمتك النصيب الوافر، وأعنهم على ما حل بهم من وحشة الوحدة، وضيق المقابر، اللهم ارزقهم الأنس في اللحود، واجعل رحمتك عوضـًا لهم من كل فائت ومفقود، وتابع عليهم سوابغ كرمك حتى تبعثهم إلى اليوم الموعود. اللهم أعذنا من الشيطان في المصادر والموارد، ووفقنا للقيام بحقك في الأعمال والمقاصد، يا من عامل خلقه بلطيف الصنع وجميل العوائد. اللهم إنا نتوسل إليك في إجابة هذا الدعاء بالصلاة على سيد المرسلين، ونبتهل إليك أن تجعلنا من الذين دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام، وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين.

([1]) في الأصل (أبي)، والمثبت هو الصحيح.
([2]) من أبرز تلاميذ المصنف، محمد بن محمد بن أحمد ابن المحب عبد الله المقدسي، توفي سنة (788هـ). ينظر: الوفيات، محمد بن رافع السَّلامي، تحقيق صالح مهدي عباس، (بيروت، مؤسسة الرسالة، 1402هـ)، 2/511-512.

([3]) ليست في الأصل، ولا يصح السياق إلا بها.