أفُـول القيم

بقلم مشاري بن سعد الشثري
في دساتير الأدبِ العتيقةِ قولُهم: الليلُ أخفى للويْل ..
أما ليلتي هذه فحمَّالةُ الحطب، نادى منادٍ: أن جُد بزَورة على إخوانك المربِّين في جنبات الشبكات الاجتماعية ..
درجت .. فإذا الجنباتُ مقاتل، فاتَّقد الحطب نارًا، واشتعل الرأس شيبا ..

(1)
لم يجعل الله تعالى كتابَه حجةً على قوم إلا برسول يبعثه إليهم، يبلغهم البلاغَ القوليَّ بتلاوة آياته، والعمليَّ بتمثّل أحكامه .. فاصطفى - سبحانه - من الناس رسلًا كرامًا، حتى ختم الرسالات بمحمد عليه الصلاة والسلام، فبلغ البلاغَينِ وَفقا لأمر ربه، فكان من بلاغة أم المؤمنين عائشةَ - رضي الله عنها - حين سئلت عن خلق النبي - صلى الله عليه وسلم - أنْ قالت: (كان خلقه القرآن) ..
لم يهنأ عليه الصلاة والسلام بنومٍ مذ سمع قول الحق تعالى: (قُمْ فأنذر) .. عِقدَينِ من الزمان خلت معاجمها من تصاريف الراحة والسكون، فالعمل هو الحياة، وبعد الفراغِ النَّصَب، وإلى الله الرَّغب، فأنجبت تلك التربية النبوية جيلَ الصحابة، ثم هم رسموا شخوص التابعين، فحدَّثتنا سِيَرُهم ضِعفَ ما بُلِّغنا من قولهم ..
وهكذا، ما زال الخالف يأخذ عن السالف .. وذِهِ التربية، تصنع المتربي لتجعل منه مربِّيًا، فإن استقامت استقام، وإن اعوجَّت اعوجَّ معها ..
(2)
ظهرت التقنية الحديثة فاجتالت الناسَ من مراقدهم، ووهبتهم العصا السحريّة التي بها يعقدون طرفي الأرض، وما زالت تأخذ في التطور والحداثة حتى وهبت كلًّا منهم منزلًا شبكيًّا لا يُدعى الناس إلا إليه، ولا تُقبل الصداقة إلا فيه ..
صفحات الفيس بوك أضحت منازل السائرين إلى عقد الصداقات وعرض الأفكار وإبراز المستحسن من الصور، فهي بذلك وسيلةٌ مُثلى لمد جسور التواصل مع مختلف الشرائح على هذه البسيطة، فآل الناس إليها زرافات ووحدانا، وعرض كلٌّ منهم بضاعته، فأتت طائفة بالدرّ، وجاءت أخرى ببضاعة مزجاة، وما دامت تلك الصفحات منائحَ تُوهب ولا تُباع، فلْيدبّج العيِيُّ قصيدته، ولا حاجة إلى معاودةِ النظر لإصلاح ركيكِ ألفاظها وبعيدِ أغراضها، فمنتهى الأمل أن تُعرض، فمن رضيها فله الرضى، ومن سخطها فالحجب نصيبه، ثم كان ماذا ؟
هذا الكتاب الشبكي الثقيلُ بصفحاته لا تُدرى كم قيمته ؟ فإن نظرت إلى محاسن صفحاته رفعتها، ثم لا تلبث أن ترى سيِّئَها فتهبطَ بها وتُقعقِعَها ..
والسعيدُ من تعقَّل وانتقى أطايب الثمر، وهو في ذلك يتَّقي سوءَ الصفحات الفيسبوكية، ويجعل بينه وبينها موعدًا يُخلفه كلٌّ منهما، وذلك لئلا يتروّى بتبذُّلِ أصحابها واتّباعِهم سقطَ الأقوال والأعمال ..
(3)
أَخَذَ أهلُ التربية مواقعهم من معسكر الفيسبوكيين، وسعوا جهدَهم في إيصال رسالتهم، فحققوا من ذلك الشيءَ الكثير، غير أنَّ خطلَ الدهماء قد استخفَّ نفرًا منهم فأطاعوه، فصِرتَ ترى الواحدَ منهم - وقد كان شريفَ الناس مهيبا - على مسرح الصور يتقلَّب، في مشهدٍ بائسٍ بممثلينَ سُذَّج ..
كلُّ ذلك بمحضرٍ من طلابه المتربين، فلا تسل كيف أضحى حُفَّاظُ العصرِ روّادَ المسارح ومربِّي الأمس مفاجأةَ الموسم .
هذا إلى جانبٍ من التعليقاتِ السَّمِجة، ومحاوراتٍ كالقيعان، لا تمسك ماءً ولا تُنبت كلأً ..
وأن لو استقاموا على الطريقة لكان لهيبتهم في أعين الطلبة قرار، ولكنّ واحدة الصّور تلك قد قلعت مدرجَ التلقي عند المتربي، فقُضي على توجيه مُربِّيهِ بعدم النزول، فظلَّ كلامه في السماء حيرانَ، وما هي إلا ثوانٍ حتى هوت به الريح في مكان سحيق ..
(4)
أخذتُ أسائل نفسي عن الحصاد المرجوّ من عرض مشرفٍ تربويٍّ صورةً له مع أخلائه في نزهة برية حالَ تبذُّلِه في هيئته، أو لباسه، أو كليهما ..
وما الداعي لأن يعرِض لفيفًا من السيارات الجذّابة، قديمِها وحديثِها ؟
وأين ذاك الورعُ الباردُ في قِلاع التربية، أين هو حيالَ إبداء الإعجاب في صدور الصفحات بمنشدي الإيقاعات المحرّمة وأحلاسِ الرياضة المحلِّية، بل والعالمية ؟!
وما هذا الإسفافُ في التزيُّنِ أمام عدسة الكاميرا .. متى كان من شأن المربي أن ينشَّأ في الحلية ؟!
هذه ونحوها يعرضها من هو على رأس العمل، أما من كانت ليلة البارحة عشيَّةَ وداعه فبعيدٌ كلَّ البعد عن حدِّ الاعتدال، وربَّما أقضَّ مضجعه تلك الليلة أن لا يعلم أحدٌ بخروجه، ثم ( ما بين غمضةِ عين وانتباهتها .. يغيِّر الله من حالٍ إلى حالِ )، الصورُ تبدَّلت، والقناعُ قد حسر عن غيرِ الوجه المألوف، وبعد أن كان ميدان الصداقة محكومًا بـ(لا يدخل بيتك إلا مؤمن) صار يتسع ليشملَ البَرَّ والفاجر، وذاك الذي كان يخشى على طلابه من الفتن الطوارق - فينهاهم عما لا بأس به خشيةً مما به بأس - صار مندوبَ التسويق لنتاج الحسناوات الصغيرات من المغنيات .. أعني المنشدات الإيقاعِيَّات .. إلى آخر مسلسلِ (أُفُولِ القيَم) بإخراج مُحكَمٍ من (المشرف التائب) !
أن يكون هذا من شأنه فقضيةٌ، أما أن يكون خروجُه تأشيرةً لنزع جلباب المروءة عن إهابه فقضية أخرى ..
(5)
يقول خِرِّيتُ التربية وعريفُها
(وفي الصحبةِ الطويلةِ التي تقتضيها عمليةُ التربية يستحيل علينا أن نخفيَ حقيقةَ أنفسنا، ولا بد أن ننكشف أمام الذين يتلقون منا ..
فكيف إذا اكتشفوا ذات يوم أننا كنا نخدعهم؟ أننا كنا نحدثهم بمعانٍ نفتقدها نحن، أو نشتمل على أضدادها .. كيف تكون الصدمة؟ وكيف تكون النتيجة؟)
هلَّا جعلناهم يتفردون باكتشافنا دون أن نجعل من ذواتنا مطايًا لخيباتنا ..
إن للتربية أساليبَ وأدواتٍ متنوعة، غير أنها - كلَّها - تقصُرُ دون مسلك القدوة، و لما تمَّ صلحُ الحديبية أمر النبي عليه الصلاة والسلام صحابتَه -رضوان الله عليهم - بأن ينحروا ويحلقوا، فلم يقم منهم أحد، حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلم يقم منهم أحد، فاغتمَّ حتى بثَّ ما أهمَّه لزوجه أم سلمة - رضي الله عنه -، فقالت بسان الحكمة: (يا نبي الله، أتحبُّ ذلك؟ اخرجْ ثمَّ لا تُكلِّم أحدًا منهم كلمة حتى تنحر بُدنك وتدعوَ حالقك فيحلقك) فما هو إلا أنْ نَحَر بُدْنَه ودعا حالقَه فحلقه حتى قام الصحابةُ فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضًا حتى كاد بعضُهم يقتل بعضًا غمًّا ..
ولمَّا شكى الصحابة رسولَ الله صلى الله عليه وسلَّم الجوعَ ورفعوا عن بطونهم، فإذا الواحدُ منهم يربط حجرة على بطنه من شدة ما يلاقيه من الأسى، بينا هم كذلك إذ يرفع رسول الله صلى الله عليه وسلَّم سِترَ بِطنِه عن حجرين! لا حاجة بعد ذلك إلى الكلام وإسداء الخطب ..
إن للقدوة سلطانًا على قلب المتربي لا يضاهيه أيُّ سلطان، فإذا خالف إرشادُ المربي فعلَه لم يكن لإرشاده أدنى أثر، وهو أشبه ما يكون (بمن يمسك في إحدى يديه قلمًا، وفي الآخر ممحاةً، فكلَّما كتب كلامًا بيمناه محته يسراه) ..
ولئن كان من أخصِّ مقاماتِ التربية ووسائلِها مقامُ القدوة، فإن من أخصِّ صفات المربي ونعوته وصف الهيبة، والمتربي لا يزال يُجلُّ مشرفَه ويُعليه ما دام يَلحَظُ مهابته، فإذا سقطت ذهب جلال التربية وصدفَ الطالب عن شيخه .
وإذ كان ذلك كذلك، فحقيق على المربي أن يجدِّد النظرَ في مقامه، ويُحيطَه بسياجٍ من المروءة والأدب، ولا يجعلَ من نفسه هدفًا لسهام طلبته .
(6)
فرقٌ بين حالٍ عارضة تعتري المشرفَ التربويَّ في سفرٍ أو نزهة ونحوِها تجعل منه أكثرَ تبسُّطا، وبين أن يجعل من تلك الحال محلًّا للترميزِ وإبداءِ الآراء ..
وفرقٌ بين حديثٍ تحفُّه روح الدعابة بين الطالب ومشرفه في منشطٍ ثقافيٍّ أو رياضيٍّ، وبين أن يرى الطالب ذلك هجِّيرى مشرفِه في أحاديثه وتعليقاته ..
دفعتُ إلى أحد المربِّين رسالةً خاصةً في صفحته لمّا رأيت فيها بعض ما يُنكَرُ شرعًا، وهو محل إجماع عند أهل التربية، فكان أنْ بعث إليَّ يعاتبني على هذا التزمُّت وينصحني ألا أكون مغاليًا في استقامتي حتى لا يرتدَّ ذلك عليَّ سلبًا !
لو كان للمشرفِ هوًى في مشاهدة مباراةٍ - مثلًا - فهذا شأنه، لكن أن يجعل في مفضَّلَته صورة اللاعب المفضَّلِ لديه فبليَّةٌ لا يرضاها عاقلٌ يعرف معنى التربية ..
هذا في شأن الكرة، وهي مباحة من حيثُ الأصل، لكنّ صاحبي تخطّى ذلك ليقنعني بإباحة إبراز صورةِ فتاةٍ بلغت سنَّ المحيض، وهي مع ذلك ضليعةٌ في الإنشادِ الموسيقي ! وهو مع ذلك مربٍّ يريد الرُّقيَّ بطلابه ويهيِّئهم لقيادة الأمة !
(7)
واجبٌ على أهل التربية أن يشيعوا النصح بينهم، إن كان بالحسنى فبِها، وإلا فبتقليم الأظفار المستطيلة، فهي عُرضَةٌ للقَذَر - والبيئة التربوية أحوج ما تكون إلى اتقاء القذر -، لكن ما دام زيدٌ يصفح عن جُرمِ عمرٍو درءًا لتوتر العلاقة بينهما فقُلْ على الطلبة السلام ..
ومن الحَسَن في ذلك أن تُنشأَ معرَّفاتٌ مستعارة يحتسب أصحابها على من أخطأ، وأن يُعنى المشرفون الكبار بإذكاء عزائمِ من تحتهم وإعلامِهم بعظيم المهمة الملقاة على عاتقهم ..
البيئة التربوية اليوم بحاجة ماسَّةٍ إلى التروِّي في التصدير الإشرافي، فإن كان ولا بد من الدفعِ ببعض الضِّعاف سدًّا للفراغات فلا بد أن تُضاعف الجهود في تأهيلهم وتدريبهم .. هي قضية عظيمة التعقيد، وليست تكفي مثلُ هذه الكتابةِ لمعالجتها، لكني لا أريد أن نصل يومًا إلى صرفِ غالب الجهد في رَدمِ سقطات بعض المشرفين على حساب تربية الطلبة ..
لم أستقصِ هنا كلَّ ما يُعدُّ خرمًا في العملية التربوية، وإلا فثمَّةَ أمور تحتاج إلى أن تُدار وتُحسم، من مثلِ ارتباط مشرفٍ ما بغير طلابه على وجه يزهِّده في محضنه، أو تطويل المحاورات مع طلابه في مختلف الأوقات بحيث لا يَفقِد الطالب مشرفَه في صفحته متى ما أراده، فتتبخَّر تلك التوجيهات المتواترة في الحث على فضيلة اغتنام الوقت ورفعِ الهمَّة، أضف إلى ذلك أن التربيةَ الحقَّة تحتم ألا يستمرئ المشرفُ الوصالَ مع طالبه، فلذلك آثار لا تخفى على اللبيب ..
هذا وأنا على ثقة أن هذه الأعمالَ إنما تصدر من طائفة ليست بالعريضة، وإلا فهناك ثُلَّة من المربِّين هم في الحقيقة مصابيحُ هدًى ومناراتٌ لإبلاغ الدعوة إلى الله تعالى، وقد رأيت من ذلك ما تقر به الأعين، وأملي أن يكونوا عونًا لإخوانهم في الدلالة على هذه الصنائع المباركة ..
هذه نفثة مصدورٍ لم يُطِق كتمَها، ويستغفر الله الرحيمَ مما زلّ به القلم، فما أراد إلا الإصلاح ما استطاع ..

( وعلى الله قصد السبيل .. ومنها جائر .. ولو شاء لهداكم أجمعين )